د. يوسف فوزي يكتب: دعاة بين نقيضين

08 يوليو 2019 22:06
أفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شك...؟؟؟!!!

هوية بريس – د. يوسف فوزي

بالأمس القريب كانوا دعاة تطرف وغلو، لا يجدون حرجا في تكفير الأمة أفرادا ومجتمعات وأنظمة، قائلين بالتحريض على القوة والثورة في تغيير واقع يرونه منحرفا عن منهاج النبوة، فتاواهم تدور حول التحريم أكثر من القول بالتحليل، فالغناء حرام، والتبرج حرام، ومصافحة الأجنبية حرام، والاختلاط حرام، وتحكيم الشريعة واجب ولو لزم الأمر إلى الهجرة إلى عالم المدينة الفاضلة.

أما اليوم فهم على النقيض التام من موقف الأمس، فبدل سلوك طريق الوسطية والاعتدال أصبحوا من دعاة التحرر والتجديد !!! والقول بوجوب الحوار للبناء الحضاري الجديد…وضرورة الاعتدال إلى حد التمييع، فبدل تكفير غير المسلم صار من الواجب القبول به في التعايش السلمي ولو كان من أبناء جلدتهم، ولا ضرر في القول بالحرية الفردية بما في ذلك المثلية الجنسية وقبول “الأمهات العازبات” وتجويز الإفطار العلني في رمضان، وما العيب في القول بتغيير أحكام القرآن في الميراث إرضاء لأعداء الإسلام!!!… وباتت فتاواهم تدور حول التحليل أكثر من التحريم إلى درجة التشكيك في كثير من اليقينيات، فالغناء حلال، والتبرج جائز، والاختلاط بين الجنسين مقبول، ومصافحة الأجنبية مسألة متجاوزة، وعذاب القبر خرافة !!!…

أما علماء الأمة فكانوا -بالأمس- في نظرهم أئمة ومراجع يؤخذ بقولهم، يصفون الواحد منهم تارة بالإمام وتارة بالعلامة شيخ الإسلام، أما اليوم فهم عبارة عن “متطرفين” أو “متشددين” أو “جامدين” أو “متخلفين”…

نعم هكذا انقلبوا بين الأمس واليوم، بين إفراط وتفريط، بين تشدد وتمييع، بين جمود وتحرر، من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، في انقلاب عجيب يظهر خفة العقل قبل خفة الدين، وقديما قيل (زلة العالم مضروب لها الطبل)، ولنا أن نتساءل ما سبب هذا الانقلاب بين هذين النقيضين؟.

إن مسألة الثبات من أجل نعم الله على عباده المؤمنين، لأن بها يسلم العبد من الانتكاسة المانعة من الوصول إلى بر الأمان في الدار الآخرة، قال سبحانه (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم، 27)، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يكثر من الدعاء بالثبات، فعن أنس رضي الله عنه قال: “كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: “يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ”. قَالَ: فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يُقَلِّبُهَا”[1].

فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو النبي المعصوم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يسأل الله الثبات على دينه فماذا نقول نحن؟؟ !!.

ولقد كان في صف الصحابة من مني بخسارة دينه، فوقع البعض منهم في الردة، مع رجوع الكثير منهم، ولم يثبت بعض التابعين على الجادة فخرجت منهم أفراخ الفرق الضالة كالخوارج والقدرية والمعتزلة وغيرها.

وتوالت هذه الظاهرة في كل مراحل الأمة التاريخية، وصولا إلى زماننا المعاصر، فهذا عبد الله القصيمي الذي كان في بداية أمره يصنف في خانة علماء الأمة برده على أعدائها والذب عن حياض الشريعة، ينقلب على عقبيه ليصير ملحدا منكرا لوجود الله !!! وأمثال القصيمي كثر وهي لائحة طويلة لم تغلق بعد.

غير أن هناك أسبابا دفعت بهؤلاء إلى هذه الانتكاسة الفكرية نجمل أهمها في النقاط التالية:

1- عدم استحضار النية الخالصة لله تعالى: أي أن فساد النية بالميل إلى رغبات النفس والناس دون الله سبحانه كفيل بتسلل الشيطان إلى قلب الداعية فيكون عبدا لأهوائه وجمهوره بدل ربه، تأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف عليه السلام (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف،24)، وكان أهل الإخلاص في منأى عن كيد إبليس (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر،40)، وما كان لله دام واتصل وما كان لغيره انقطع وانفصل.

2- التساهل مع مرض العجب والغرور: فشهرة الداعية كفيلة بتعرضه إلى كثرة المدح والثناء من الناس، فيتسرب له العجب بنفسه واعتزازه بها فيرفض أي نقد لها حال صدور أخطاء منه، وفي سبيل إرضاء نفسه تجد الواحد منهم يزين سوء عمله وينافح عنه جهرة.

3- تساهل بعض العلماء في التزكية: والمقصود من هذا أن تزكية العلماء لبعض هؤلاء والمبالغة فيها أحيانا تشعر الواحد منهم ببلوغ أعلى مراتب العلم والدعوة مع إقبال الجماهير عليهم لاسيما في صفوف الشباب، فتتعزز لديهم قابلية المكابرة عند الوقوع في الخطأ مخافة ضياع المكانة المحصل عليها بتزكية كبار العلماء له، ولقد كان بعض أهل العلم رحمهم الله يتشددون في تزكية طلبتهم مع سعة اطلاعهم وعلمهم مخافة فسادهم، حتى إنه لا يكاد ينقل عن أحدهم تزكية لداعية !!، وهذا من حسن التربية وبعد النظر وسداد الحكمة.

4- النظر في الشبهات: ومعناه أن بعض الدعاة لاسيما المبتدئين منهم يتعرض لمناقشة شبهات أهل الضلال وإثارتها في خطابه الدعوي والعلمي دون تعمق في العلم والفهم والمناقشة، فيحصل لديه نوع من الشك المفضي إلى الانتكاسة لاحقا، ولقد كان من منهج الصحابة والتابعين وأتباعهم البعد عن الشبهات وأصحابها مخافة تأثيرها في قلوبهم.

5- الدور السلبي للإعلام: لا ينكر أحد ما للإعلام المعاصر من تأثير فعال في برمجة عقول الناس اليوم، ونصيب هؤلاء الدعاة من هذه البرمجة وفير، فأحيانا يكونون فريسة لقنوات فضائية مشبوهة تغذق عليهم المال مقابل الترويج للخطاب الحداثي الضارب في ثوابت الدين، ومعلوم أن هذه القنوات هي بوابة المال والشهرة، فبعد الحلقة الأولى سيكون فضيلة الشيخ أو “المفكر الإسلامي” أكثر جرأة في الطرح، مع تبني مواقف تحررية داعية إلى الانفكاك من أغلال الماضي، وستجد من مواضيع إحدى حلقات هذه البرامج النبش في ماضي “المفكر الإسلامي” وكيف كان متشددا متزمتا في التزامه وانه كان ضحية خطاب الكراهية والعنف وأنه تعرض لغسيل دماغ برمجه ليكون كذلك، ثم طلع البدر علينا من ثنيات التجارب المظلمة ليولد من جديد، داعية منفتح مؤمن بالحوار والآخر وتعدد الرأي وضرورة الاجتهاد المتحرر…

6- مراكز البحث المشبوهة: لأعداء الأمة ألف وسيلة ووسيلة في الكيد لهذا الدين، ومن وسائلهم إنشاء ما بات يعرف بـ”مراكز البحث العلمي” في الدين والتدين والتراث والثقافة والقيم والأخلاق والفكر بصفة عامة، مستقطبة لها أرباب الفكر الحداثي، مع استمالة هذا الصنف من الشاكين في دينهم لتكون أقلامهم وأبحثهم وقود نارها، ومعولا من معاول هدم عقول أبناء الأمة، وإصدار أبحاث تشكيكية في يقينيات لم يتعرض لها أحد من قبل، مشككون بلا حدود في كل المسلمات والثوابب ليكون هذا الصنف من المنتكسين مصنفا في خندق المركز متبنيا شاء أم كره لتوجهاته، فلا يجد بعد هذه الورطة إلا الاستمرار.

7- العجلة في التصدر: فالكثير من هؤلاء تصدر قبل أوانه، دون تمكن في العلم، مع قلة التجربة وحداثة السن، وخلو الساحة ممن وجب عليهم القيام بهذا الأمر، ولقد نهى العلماء قديما عن أخذ العلم من الصغار.

8- عدم الاهتمام بالجانب التعبدي: فكثير من الدعاة والمتصدرين من أرباب هذا الفكر المعوج تجد عندهم تفريطا في باب العبادات والقربات، ومن ثمرة العلم القرب من الله لأن العلم الخشية، وبقدر اجتهاد العبد في هذا الباب تكون النجاة من الفتن والعكس صحيح، فلا غرابة أن تجد عند هؤلاء التنازل أمام الفتن لضعف تعبدهم.

هذه أبرز الأسباب التي أرى أنها المولدة لهذه الظاهرة، وليعلم هؤلاء الدعاة الجدد أصحاب النكسة الفكرية، أن خطابهم هو في صالح الحق وأهله إذ فساد فكرهم ظاهر للوهلة الأولى لأهل العلم بحق، وأنهم جزء من التدافع والصراع بين الحق والباطل، مع دعوتنا لهم بالتوبة والإنابة فالرجوع للحق خير من التمادي في الباطل، وكل ما نتلفظ به ونكتبه محفوظ في صحائف ستعرض علينا يوم لقاء ربنا ولا حول ولا قوة إلا بالله.

واعلموا أن معركتكم خاسرة، لأن من رام نقض الدين فهو خاسر لا محالة، والناس قد ينبهرون بكم للوهلة الأولى لكن سرعان ما يستبين لهم بطلان مذهبكم، فإن لهذا الدين ربا سيحميه، وبدل أن تكونوا عونا للشيطان وحزبه كونوا أنصارا لله، ومهما زينتم القول واجتهدتم في إرضاء أهل الباطل فوالله ما هم بالمحبين لكم، بل أنتم مجرد ورقة يوقدون بها نار فتنتهم فما يلبثوا أن يطرحوها فيها ونار جهنم أشد حرا لو كنتم تعقلون، أما أهل الحق فمحبتهم صادقة مباركة، والتوفيق من عند لله سبحانه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) رواه أحمد (12107).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M