د. حمزة الكتاني يكتب: من دروس قضية “الأيقونة ريان”

07 فبراير 2022 14:05

هوية بريس- د.حمزة الكتاني

من دروس قضية “الأيقونة ريان” أن قضيته استطاعت في ساعات، جمع مئات الآلاف من المغاربة، الذي رابطوا في عين منطقة الحدث خمسة أيام بلياليها ونهارها، في منطقة جبلية وعرة، والطريق إليها صعبة، وفي البرد القارص خاصة في الليل..

ذكرني هذا الحدث بمعركة وادي المخازن (الملوك الثلاثة) التي حصلت في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، وكيف تجمهر أبناء الجبال، مدنا وقرى وبوادي في خلال ساعات، بآلاف كثيرة، ونزلوا على جيش أوروبي جرار وأبادوه في ساعات قليلة…ربما كان الكثير يظن أن أخبار تلك الواقعة أقرب للأسطورة منها إلى الواقع، ولكن بالفعل؛ حادثة “ريان”؛ جعلت تلك الأسطورة حقيقة شاهدناها رأي العين..

أدهشني في تلك الحشود، أنها لم تناد بالأمازيغية، ولا باليسارية، ولا بأية فكرة سوى الإسلام، حتى وسائل الإعلام التي كان يفترض أنها داعية للعلمانية ولها موقف متشنج مع كل ما يمت للدين بصلة، تقمصت الشخصية، بل أصبح المراسلون في منتصف الليل يدعون الناس لقيام الليل والدعاء والتبتل إلى الله…لم تبق الكوارث الطبيعية لا علاقة لها بالذنوب، لم يبق الدعاء والابتهال ضربا من التخلف والرجوع للوراء…إنما أصبح الإعلام ينادي بذلك في جميع الإذاعات الوطنية..

أدهشني أن الحضور كانوا يرفعون أصواتهم بالدعاء، والابتهال لله تعالى، ومن مرة لمرة يقرأون جماعة أحزابا من القرآن الكريم، ويكبرون بأصوات تخشع لها القلوب، وينشدون الأناشيد الدينية، بل عندما قرب خروج “ريان” من الجب، وظنوه حيا؛ بدأ أولئك الآلاف في إنشاد قصيدة: “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع”؛ التي استقبل المسلمون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة المنورة من هجرته من مكة المكرمة، أو من عودته من غزوة تبوك، وربما تكررت في المرتين…

لم تقد تلك الحشود جماعة إسلامية، أو تنظيم إديولوجي، أو دعاة مصنفون، إنما قادها العوام من ذوي الفطرة السليمة، وأئمة المساجد في البادية وأساتذة القرآن الكريم…كانت هتافات فطرية، ليس قصدها الدعاية والظهور، بل تنبع عن إيمان ساذج، وروح مسلمة جياشة…غابت الأحزاب والجماعات والتنظيمات كأنها غير موجودة حقيقة سوى في مواقع الانترنت والجرائد، والانتخابات التي لا تمثيلية حقيقية لأصحابها على أرض الواقع…

كان جوا إيمانيا بامتياز، يبعث على البكاء والخشوع، وتقوية الإيمان، يجعلنا نتيقن أن المغاربة لازالوا بخير، المغرب العميق لم يتأثر كثيرا بموجات العلمنة والإيديولوجيات المنحرفة، كانوا يقولون: جميع العرب، كلنا عرب…لأن مفهومهم للعروبة ليس مفهوما قوميا قبليا، ولكنه مفهوم مرادف للإسلام، المغاربة لا يعرفون العربي إلا مسلما، ولا يرون الإسلام واقعا من غير اللغة العربية…هكذا نطقت حشود مئات الآلاف من المغاربة الذين جاؤوا من جبالة، والريف، والصحراء، والأطلس، وسوس، ومختلف المدن والقرى المغربية، كلهم على قلب رجل واحد…إنه استفتاء شعبي بامتياز…

كان النساء في جهة، والرجال في جهة، علما أن الأغلبية التامة كانوا رجالا، لم تكن سرقات، ولا خطف، كان الأمان التام، كان الناس يتقاسمون اللقمة فيما بينهم، ويبيتون في العراء، كان نساء القرية يطبخن جماعة الطعام ويوزعنه على الآلاف من “ضيوف القرية”، كان آخرون يأتون بصناديق الماء ويوزعون القوارير على الناس…الخ، كان جوا إيمانيا خالصا…

علمنا “ريان” الكثير، وجعلنا نعتز بمغربيتنا بالخصوص، وبوحدتنا الإسلامية وبعدنا الإنساني بالعموم…

أكثر الشعوب تضامنا مع قضية ريان كان الجزائريون، الاستعمار يريد أن يفرق بيننا وبين الجزائر، ولكن نحن والجزائر شعب واحد، وأمة واحدة، ولغة واحدة، وقبل كل شيء دين واحد، كان تفاعل إخواننا الجزائريين مذهلا، ويبعث على التأثر الشديد، حتى نلعن الدنيا التي تريد تفرقتنا من إخواننا…اكتشفنا أننا نحب الجزائريين كثيرا، ويحبوننا كثيرا…

كان تفاعل التونسيين والموريتانيين والليبيين مذهلا، جسد الوحدة المغاربية خير تجسيد، ولا يمكننا أن ننسى بكاء الصحفيين والمواطنين المصريين على الهواء مباشرة، ودعاءهم مع “ريان” والطلب من الله تعالى أن ينقذه…

فلسطين وما أدراك ما فلسطين؛ خرج ابناؤنا في فلسطين يشدون أزرنا، ويتظاهرون وهم يدعون الله تعالى أن يفك قيد ابننا ريان، ولما توفي صلوا عليه في المسجد الأقصا المبارك جماعة صلاة الغائب، وكذلك في عدة مساجد..نسوا أنهم محتلون، لأن نخوتهم لازالت هي هي…

صدحت منابر اليمن والسودان من أجل “ريان”، وبكى الناس بكاء شديدا، وخرج الدعاة يدعون ويبتهلون..

دول الخليج جميعها؛ خاصة المملكة العربية السعودية والإمارات وقطر، تضامنوا مع المغرب وقضيته، ومع ريان وأسرته، وأظهرت قياداتهم كرما وشهامة عربية عريقة في مسح دموع والدته الثكلى، ووالده الكسير…

وغير أولئك الشعوب، من الأتراك، والسوريين والأردنيين، والعراقيين، والشرق الإسلامي، وكذلك من أصدقاء الوطن الأوروبيين، والأمريكان، وغيرهم، الجميع تضامن مع “ريان”، ومع محنة المغرب فيه…

نعم، وأعود للتفاعل الشعبي، فقد أعادنا “ريان” رحمه الله لهويتنا، وديننا، ووحدتنا، وتضامننا، وعدم التمايز بيننا، أعادنا للمغرب الواحد الموحد، الذي وحدته لا إله إلا الله محمد رسول الله، الأطفال والشباب يضحون بحياتهم من أجل إخراج “ريان” من البئر، يأتي الوالد بابنه وفلذة كبده قائلا: “دعوا ابني يدخل البئر لإنقاذ ريان، وإن توفي فهو على مسؤوليتي، أنا أضحي بابني من أجل ريان”، هذه أخلاق وشهامة، ورجولة، وتضحيات لم نكن نسمع عنها سوى في كتب التاريخ كأنها أساطير مثالية لتربية النشء، حتى أحيانا الله ورأيناها بأم أعيننا…

أما تدخل السلطات، وإزاحة جبل في ثلاثة أيام فقط لإنقاذ “الطفل ريان”، وعمل الطاقم أربعة أيام متواثلة بدون نوم ولا راحة؛ فهذه أسطورة أخرى تحتاج لمقال مفرد…إنه الجبروت الإنساني، يوم تلتقي الإنسانية بالاحتساب لله تعالى، وتجتمع معاني الوحدة، والإيمان، والتضامن، والشعور بالمسؤولية؛ يذهب التعب، ويصبح العامل متطوعا، والرئيس والمرؤوس في درجة واحدة…إنها أسطورة حقيقية تستحق بأن تكتب بماء الذهب على صفحات من الحياة…

الدروس كثيرة من قضية ريان، والكثير تحدثوا عن ومضات منها، وسيبقى الحديث حولها كثيرا، ستكتب روايات وقصص، وستدرس ظواهر في الجامعات والمدارس، وسيكون “عمي علي” أنموذجا يدرَّس في كليات الهندسة من ناحية، وفي الكليات الإنسانية من نواحي متعددة…هذا هو المغرب الذي نعرفه…

فرحمك الله يا ريان صغيرا، ورحمك شهيدا، ورحمك يوم القيامة وجعلك شفيعا لوالديك وقبيلتك…إنا لله وإنا إليه راجعون…

د. حمزة بن علي الكتاني

#أنقذوا_ريان

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M