سلسلة أنواع القلوب (17) مقامات القلب السعيد (4) مقام منابذة شهادة الزور

23 فبراير 2016 22:11
سلسلة أنواع القلوب (27) القلب الورع (1)

د. محمد ويلالي

هوية بريس – الثلاثاء 23 فبراير 2016

انتهينا في المقال السابق من الحديث عن المقام الثاني من مقامات القلب السعيد، ضمن سلسلة أنواع القلوب في جزئها السادس عشر، وهو مقام “ضرورة منابذة كثر الحلف”، حيث وقفنا على تزايد نسبة من يكثر حلفهم بسبب وبدون سبب، سواء كان المحلوف عليه جليلا أم حقيرا، جدا أم هزلا، تسبق شهادتهم أيمانهم، وتسبق أيمانهم شهادتهم – كما أخبر بذلك الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-، مع بيان أنواع اليمين، وأن أخطرها ما سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- باليمين الغموس، التي تغمس صاحبها في النار، بسبب اقتطاع أموال الناس بالحلف الباطل مع العلم والإصرار. وختمنا بالحديث عن انتشار الحلف بغير الله، وبينا أنه بلغ من الخطورة أن جعله أهل العلم ضربا من ضروب الشرك، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ” متفق عليه، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَكَ” صحيح سنن الترمذي.

وموعدنا -اليوم إن شاء الله تعالى- مع المقام الثالث من مقامات القلب السعيد، وهو مقام “ضرورة منابذة شهادة الزور”، انطلاقا من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي جعلناه منطلقا لهذه المقامات، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: “أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ.. الحديث” صحيح سنن الترمذي.

والزُّور هو: الميل عن الحق، وهو مأخوذ من الزَّوَر، وهو الميل، ومنه الكذب. قال الراغب: “وقيل للكذب زورٌ، لكونه مائلا عن جهته. قال تعالى: (ظلما وزورا).. وزَوَّر الشهادة: أبطلها. وزَوَّر الكلام زخرفه.. والتزوير: تزيين الكذب”.

وقال الإمام القرطبي: “شهادة الزور هي: الشهادة بالكذب، ليتوصل بها إلى الباطل، من إتلاف نفس، أو أخذ مال، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال. فلا شيء من الكبائر أعظم ضررا منها، ولا أكثر فسادا بعد الشرك بالله”.

ولقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادة الزور إحدى علامات الساعة، حيث قال: “إِنَّ بَيْنَ يَدَىِ السَّاعَةِ.. شَهَادَةَ الزُّورِ، وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ” الصحيحة، لما في ذلك من ظلم عباد الله بسبب التلبيس عليهم بالأقاويل الكاذبة، والشهادات الباطلة، تغمط الناس حقوقهم، وتجعل الحقَّ باطلا، والباطلَ حقا.

فلا غرو أن تكون شهادة الزور مساوية في الجرم للشرك. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الإِشْرَاكَ بِاللَّهِ”، ثُمَّ قَرَأَ: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ)” صحيح الترغيب.

 ويدل على ذلك ما رواه أَبو بَكْرَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-  فَقَالَ: “أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟” ثَلاَثًا. قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: “الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ”، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ وَقَالَ: “أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلاَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ أَلاَ وَشَهَادَةُ الزُّورِ”، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ. متفق عليه. وأنت ترى أنه -صلى الله عليه وسلم- اهتم بشهادة الزور أعظم من اهتمامه بالشرك بالله. قال ابن حجر: “وسبب الاهتمام بذلك: كون قول الزور وشهادةِ الزور أسهلَ وقوعا على الناس، والتهاونُ بها أكثر.. فاحتيج إلى الاهتمام بتعظيمها، ليس لعظمها بالنسبة لما ذكر معها من الإشراك قطعا، بل لكون مفسدة الزور متعدية إلى غير الشاهد، بخلاف الشرك، فإن مفسدته قاصرة غالبا”.

ولذلك ورد التنبيه على خطورة شهادة الزور في كثير من نصوص ديننا، قال تعالى: “فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ“. قال الإمام القرطبي: “هذه الآية تضمنت الوعيد على الشهادة بالزور. وينبغي للحاكم إذا عثر على الشاهد بالزور أن يعزره، ويناديَ عليه ليُعرف، لئلا يَغتر بشهادته أحد”.

بل إن مجرد حضور مجلس التزوير عُدَّ حراما، فكيف باقترافه؟

قال تعالى في بيان صفات عباد الرحمن: “وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا“. قال أبو حيان: “والظاهر أن المعنى: لا يشهدون بالزور، أو لا يشهدون شهادة الزور. وقيل: المعنى: لا يحضرون الزور”. ويعضده ما ذهب إليه ابن كثير في قوله: “أي: لا يحضرون الزور، وإذا اتَّفق مرورهم به، مروا ولم يتدنسوا منه بشيء”. والزور في الآية هو الشرك، وقيل هو الغناء، وقيل: الكذب، وقيل: أعياد المشركين، وقيل: مجالس الباطل.

وكل ذلك يدل على عظم جريمة التزوير، والشهادة الكاذبة، قوليةً، وفعلية، ومادية، ومعنوية، لأن الشهادة إنما جعلت إعانة للقضاء على إحقاق الحقوق، وإنصاف المظلومين والمستضعفين، فإذا استحالت تحايلا على القضاء وكذبا، حُكم على المظلوم بالباطل، فهضم حقه، وضاع ماله، وهانت نفسه، وخدشت كرامته.

وقد أشار الإمام الذهبي إلى أن شاهد الزور ارتكب عددا من العظائم، منها:

1- الكذب والافتراء. قال الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ“. ومن علامات المنافق أنه إذا حدث كذب.

2- ظُلْمُ المشهود ضده، حيث اعتُدي بشهادته على ماله، أو عرضه، وربما على روحه.

 3- ظُلْمُ المشهود له، حيث ساق إليه المال الحرام، فأخذه بشهادته، فوجبت له النار. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:”مَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلاَ يَأْخُذْهَا” متفق عليه.

4- أباح ما حرم الله تعالى من عصمة المال والدم والعرض، ولذلك كانت عقوبة شاهد الزور في الإسلام شديدة. قال تعالى: “وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ“. وقال -صلى الله عليه وسلم-:”مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ” متفق عليه.

ولقد اكتسح التزوير ميادين كثيرة، وتعددت صوره، مثل الشهادة الكاذبة، التي صارت سلعة يروج لها أشخاص يقفون عند أبواب المحاكم، يعرضون خدمتهم لمن يطلبها، ولو لم تربطهم به معرفة سابقة، ولكل شهادة ثمن، بحسب حجم الملف موضوع الشهادة. فكيف يسمح هؤلاء لأنفسهم أن يشهدوا ولم يستشهدوا، فيكذبوا في الشهادة، ويحلفوا باليمين على صدقهم وهم كاذبون. قال تعالى: “سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ“.

ومثل الغش في البضائع، وتزوير تواريخها لتمديد صلاحيتها. فلا عجب أن نسمع بين الفينة والأخرى بالتسمم الغذائي  إثر طعام غير صالح، وأن نسمع ببيع أدوات تجميل فاسدة، يسبب فسادها نوعا من السرطان. والحوادث في هذا الشأن كثيرة.

ومثل تزوير أختام الدولة، والدمغات، والطوابع، والعلامات، والتوقيعات، لتشغيل من لا يستحق الشغل، والتصديق على البيوع المزيفة، وصلاحية البنايات غير الخاضعة لقوانين السلامة.

ومثل تزوير الشهادات الطبية، لقضاء مصالح شخصية على حساب مصالح الناس. وفي إحدى البلاد العربية، ثبت أن 44% من الشهادات الطبية الممنوحة مزورة.

ومثل التزوير في بيان حال الخطيب الراغب في الزواج، وأنه على دين وخلق، ووظيفة محترمة، وهو ربما لا يصلي ولا عمل له، وتزيين حال المخطوبة، وأنها على مستوى عال من الصلاح، ومهارة تدبير البيت، وواقعها على عكس ذلك، وهو ما يفسر نسبة الطلاق عندنا، التي تزيد عن ربع نسبة المتزوجين كل سنة.

ومثل تزوير نقاط التلاميذ من أجل تمكينهم من النجاح في مباريات قد تكون مصيرية بالنسبة للمواطنين، كمباريات الطب، الذي يحتاج حنكة كبيرة، وخبرة واسعة، لما له من علاقة بأرواح المرضى، ومصائر حياة العباد.

ومثل تزوير المظاهر الخارجية، بألبسة مستعارة، ومساحيق تخفي الحقيقة، سمعة ورياء. ولقد قالت امرأة للنبي  -صلى الله عليه وسلم-: “إن لي ضرة، فهل عليَّ جناح أن أتشبع من مال زوجي بما لم يعطني؟ فقال رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-: “المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور” متفق عليه.

وعن سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية المدينة، فخطبنا، وأخرج كبة من شعر، فقال: “ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود. إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بلغه، فسماه الزور” متفق عليه. وفي الصحيحين قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لعن الله الواصلة والمستوصلة“. والواصلة هي التي تصل الشعر بغيره، والمستوصلة هي التي تطلب فعل ذلك.

فالشهادة إذا تحولت عن وظيفتها، صارت سندا للباطل، فيستعان بها على الظلم، والقضاء بحكم زائف. ومن ثم رفضت شهادة من عرف بسوء خلق. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ تَجُوزُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ، وَلاَ زَانٍ وَلاَ زَانِيَةٍ، وَلاَ ذِي غِمْرٍ (حقد) عَلَى أَخِيهِ” صحيح سنن أبي داود. فالسلامة كل السلامة في الصدق وخوف الله تعالى، فلا تؤتى البيوت إلا من أبوابها، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M