لا يُمكن لحزب الاستعمار أن يَتحكَّم في بلد مُستقِلّ

16 نوفمبر 2015 12:28

د. عبد العلي الودغيري

هوية بريس – الإثنين 16 نونبر 2015

أصدر وزيرُ التربية الوطنية هذه الأيام مذكِّرة موجَّهة إلى مديري الأكاديميات يدعوهم فيها إلى الشروع في تَنفيذ خُطة التراجع عن تعريب المواد العلمية بالسلك الثانوي التأهيلي والجِذْع المشترَك التكنولوجي بدءاً من السنة الدراسية الحالية، في انتظار الانتقال إلى الخُطوة الثانية وهي التراجع عن تعريب المواد العلمية في السلك الإعدادي تطبيقاً للرافعة الثالثة عشرة من الرؤية الاستراتيجية. وننبه بالمناسبة إلى أن كلمة الجِذْع وردت في نص المذكرة المنشور بالدال المهملة لا بالذال المعجمة كما يقتضيه الصوابُ، وذلك استهتاراً واستِخفافاً بالعربية على عادة السيد الوزير في التعامُل معها.

لقد أقدَم الوزير، بمذكِّرته هاته، على تدشين مرحلة خطيرة من التراجُع الصريح الواضِح عن حصيلة أكثر من رُبع قَرن مضى على تخرُّج الفوج الأول من حاملي البكالوريا المعرَّبة، وقد أصبحوا يُعدّون اليوم بالآلاف، فيهم الأطباء الأكفاء اللامِعون، والمهندسون المُبرِّزون المقتدرون، ومسؤولون كبار وأساتذة وباحثون وعلماء في كل حقول المعرفة والتخصُّصات الدقيقة، لا تعتمد عليهم الدولةُ المغربيةُ وحدها، بل لقد أصبحوا عَوناً وسَنَداً لكثير من الدول الغربية والعربية في كل أنحاء العالَم. ومع ذلك يُصرُّ سيادةُ الوزير أن يعتبر التعليم الذي حصلوا عليه والتفوّق الذي نالوه والاجتهاد الذي بَذلوه، كله ظلَّ ناقصاً ودون المستوى المطلوب، لا لشيءٍ إلا لأنهم لم يحصلوا على بكالوريا مُفَرنسَة، ذلك لظنه أن الفَرنَسة وحدها هي الكفيل بازدهار التعليم ورفع مستواه.

وها نحن بعد مضيِّ واحد وستين عاماً من الإعلان عن الاستقلال، نجد أنفسنا، مع صدور هذه المذكرة التَّراجُعية المشؤومة، وكأنما كنا في وَهمٍ كبير، وحُلُمٍ لذيذ، ثم أَفَقنا منه على فاجِعة، لنجد أنفسَنا في زَنازِن ذلك السِّجن اللغوي المُظلِم الذي حَشَرنا فيه الاستعمارُ، لم نُغادِرها قطُّ، ولم نتخلَّص من حَيرَتنا وتردُّدَنا وبُؤسَنا الفكري وخَيبَتنا الثقافية. ما زلنا بعد هذا العُمر الطويل الذي شابَ فيه الوَليدُ (وما بالُه لا يَشيبُ بعد واحد وستين عاماً)، عاجزين عن تحديد اختياراتنا الكبرى بأنفسنا ومن تلقاء ذاتنا في مَنأى عن التأثير الأجنبي والتدخُّل الخارجي. ها نحن بمثل هذا القرار الفردي الصادر عن وزير أَعطى لنفسه حَجماً أضخم من حجم الحكومة كلها، برئيسها وسائرِ أعضائها، نُعلن للعالِم أَننا لم نَصل بعدُ إلى مرحلة الرُّشد، وأننا فاقِدون للأهلية لا نستحقُّ ذلك الاستقلالَ الذي نتبجَّح بالحُصول عليه. لقد كان الاستعمار الاستيطاني يُمارسُ عن طريق مُقيمه العام كلَّ أصنافِ الحِجْر والوصاية على عقولنا، ويتولَّى بنفسه التخطيط والتفكير والتدبير لنا ولمستقبل أبنائنا وأحفادنا. وقد أثبتَ الواقِعُ اليوم أن دارَ لُقمان ما زالت على حالها. لا شيءَ فيها قد تغيَّرَ عما كان، سوى أن شخص المقيم العام الساهِر على الحماية الفرنسية قد اضطُرَّ للغياب، لمصلحة تهمُّه، وتركَ مَكانَه حِزباً قويّاً عَتيداً فيه من الجنود والجَحافِل والحُماة والأنصار ما يَكفي لتأمين مصالحه، والاطمئنان التام على أن كل ما يصدر في إيالَتنا الشريفة من قرارات واختيارات كبرى، يسير دائماً على الوجه المَطلوبِ، يُوافِقُ المُرادَ، ولا يَحيدُ عن الخَطِّ المرسوم، والشُّغْلُ كلُّه على ما يُرام.

لا شكَّ في أن ما أقدَم عليه الوزيرُ تَحوُّلٌ خطيرٌ بكل معاني الكلمة، لأنه بمثابة إعلان حربٍ مكشوفة على هويتنا الوطنية التي تُجسِّدُها اللغة وما يَرتبطُ بها من ثقافة وحضارة ضاربة في أعماق التاريخ، تعود بنا إلى سنوات الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي عانَى فيها المغرب من وَيلات الفتنة والتمزُّق والصراع الاجتماعي والسياسي مما عَطَّل مسيرةَ البلاد لأكثر من نصف قرن.

ومع هذا نسأل أنفُسَنا: ولماذا نُلقي اللومَ كلَّ اللوم على شخص الوزيرٍ مع أنه لم يَفعل سوى أن حاول تطبيق بند واحد من (رؤية استراتيجية الإصلاح) الصادرة عن المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي منذ أشهر قليلة؟ لكن جوابَنا عن هذا، أن تلك الخطة نفسها قد تضَمَّنت كثيراً من النقائص والعيوب والثَّغَرات والتراجُعات الخطيرة التي سبَق أن حَذَّرنا منها ومن مَغبَّتها وآثارها السيئة، وكتَبنا في شأنها مقالة مُطوَّلة نُشرت بعنوان: (لنركب القطار الفرنسي ولا يهمنا أن يتوقَّف). ومنذ ذلك الحين ونحن ننتظر أن تقع مُراجعة تلك الخطة وتوسيع الاستشارات بشأنها إلى أن تستقرّ على طريقٍ مستقيم يَرتضيه الناسُ وتقبل به الأغلبيةُ ممن يَعنيهم الأمر، ولاسيما فئة المختصّين، فتُعادُ صياغتُها على هذا الأساس قبل الشروع في تطبيقها وتنفيذ بنودها. وكان من المنتظر أيضاً أن يقع عرضُ خطة المجلس الأعلى على البرلمان لمناقشتها وتعديلها قبل إقرارها، وقبل أن تصبح وثيقةً مُلزِمةً. أما وأنها ظلت مجرد توصية صادرة عن مجلس استشاري لا حق له في اتخاذ القرار، فإننا نرى من الخطأ الفادح أن يستعجل وزير التربية تطبيقَ توصياتها وهي ليست محلَّ إجماعٍ، وليس لها أيُّ صفة قانونية مُلزِمة. ولقد قلنا في مناسبات سابقة، إنه لا يجوز لفرد وحده أو لجماعة محدودة العدد ذات مهمة استشارية تمَّ اختيارُ أعضائها بطريقة خاصة، أن يُقرِّر أحدُهما أو كلاهُما في القضايا المصيرية الكبرى مثل قضية التعليم ولغة التعليم.

ثم نعود ونسأل مرةً أخرى:

ولماذا يُلامُ الوزيرُ وحده وكأنه حكومةٌ مستقلة بذاتها؟

لماذا نخصُّه وحده بالمحاسبة والمُساءلة ونُعفي الحكومة التي ينتمي إليها بكلِّ مكوِّناتها وأعضائها وأجهزتها ورئيسها من مسؤولية مثل هذا القرار المتعلِّق بقضية كبيرة جداً وحسّاسة جداً لا يمكن أن تَحسِم فيها مُذكِّرة بسيطةٌ يُوقِعُها وزيرٌ مهما بلغت قوتُه ونُفوذُه؟

ومتى كان لوزير من الوزراء مثل هذه الصلاحيات المُطلقة التي يتوقَّف عليها مُستقبل بلدِ بحاله دون أن يسأله أو يُحاسِبه أحد؟

وهل يمكن أن نتصوّرٍ أن الوزير قد اتخذ المبادرة التي اتخذَها من تلقاء نفسه وعلى مسؤوليته الشخصية دون الرجوع للحكومة ورئيسها وبقية أعضائها ومُكوِّناتها ودونما حاجة لتضامُنٍ حكومي؟

نحن أمام أَمرين لا ثالثَ لهما: إما أن الرجل قد اتخذ مبادرتَه بالفعل دون الرجوع لأحد، بما في ذلك رئيسه المباشر في الحكومة، وفي غَفلة من الجميع، وهذا ما نستبعده ولا يكاد أحد يَستسيغه أو يقبله. وإما أن الحكومة ضالعةٌ معه في الخُطوة التي أعلنَها، لكنها غير قادرة على الجَهر برأيها وتحمُّل كامل مسؤوليتها أمام الشعب، لأسباب قد يكون من بينها ضَعفُها وهشاشتُها وحِرصُها على الاستمرار بأي شكل، وخوفُها على نفسها من التَّفكُّك والتصدُّع الذي ظهرت بعضُ علاماته في أكثر من مناسبة، لعل آخرها تلك الحركةُ التمرُّدية التي لوَّح بها وزيرا الفلاحة والمالية في قضية الصندوق المعلوم. على أن علة الهشاشة في الحكومة الحالية كانت بادية على ملامحها منذ نشأتها الأولى بحُكم طريقة تأليفها من أحزاب مختلفة المشارب والمذاهب، متناقضة المَرجِعيات، مما جعلها فاقِدةً لوحدة الرأي والتماسُك والمَنهَج والبرنامَج، عاجِزة عن الحسم في كثير من القرارات الجذرية والإصلاحية الصحيحة التي كان ينتظرها الشعب حقاً.

إني أكتُب هذه الكلمات، وأتوجَّه بكل صدق وأمانة، من موقع المُثقَّف المؤمن بالرسالة المُلقاة على عاتقه، إلى الأستاذ عبد الإلاه بنكيران، بصفته رئيساً لحكومة مسؤولة وأميناً عاماً لحزب علَّقنا عليه كثيراً من الآمال، فأقول: إن الأمر الأكثر إيلامًا بالنسبة لي شخصياً ولشريحة واسعة من المجتمع، هو أن نرى مثل هذه القرارات الخطيرة والخاطئة تُمَرَّر في عهد حكومة يقودُها فصيلٌ سياسي له مرجعية إسلامية هُوِيّاتية. فنحن لم نكن لنتصوَّر في لحظة من اللحظات أن يأتي يومٌ تكون فيه بدايةُ النهاية للغة العربية في المغرب على يد حزب إسلامي أو في عهد رئيس حكومة ذي مرجعية إسلامية يُدافع عن الهوية والقضايا الوطنية الجوهرية. ولطالما وجَّهنا اللوم لحكومة التناوب التي تَرأَّسها الأستاذ اليوسفي وشاركت فيها أحزاب وطنية معروفة، ولحكومة الأستاذ عباس الفاسي، حين قَصَّرَتا في تقديم الكثير مما كان ينبغي تقديمُه لهذه اللغة الوطنية. لكن -والحق يقال- لا أحد من المسؤولين في الحكومتين السابقتين (حكومة اليوسفي وعباس الفاسي) بلغت به الجُرأة إلى حدِّ انتقاصِ حقٍّ صار مكتسَباً لهذه اللغة في يوم من الأيام. فهل من المعقول أن نعيش يوماً نرى فيه اللغة العربية تُنحَر بخِنجَر الحكومة التي يقودها ويُشاركُ فيها حزبُ العدالة والتنمية وهو الذي لم يكسَب عطفَ الشارع ولم يصل إلى المنزلة التي وصلها إلا على أكتاف الذين ملأت قلوبَهُم الأحلامُ بأن يجدوا فيه ما فقَدوه في غيره، لاسيما بعد أن آلت حالُ الأحزاب الوطنية الكبرى إلى ما آلت إليه؟

إننا نُشفِق على أَنفسنا من أن تقتلنا المَرارةُ وخَيبةُ الآمال هذه المرة، ونُشفق على حالة الإحباط واليأس والاكتئاب التي يمكن أن يُصاب بها هذا الشعب الذي ما زال يُوليكم الكثيرَ من ثقته ومُؤازَرته. فماذا عسى أن يؤول إليه أَمرُه بعد أن يَتيَقَّن من أن كل آماله ذهَبت أدراجَ الرياح، سوى العودة إلى التطاحُن والصراعات والفِتَن التي لا تُبقي ولا تَذَر. إن اليأس قاتِلٌ للأفراد والأشخاص، مُهلِك ومُدمِّرٌ لمستقبل الأُمَم والشعوب. ومسؤوليتُكم اليوم هي تجنُّب كل ما من شأنه أن يؤدي إلى فُقدان هذا الاستقرار الذي ننعمُ به ويحسُدُنا الآخرون عليه.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M