بين العقل والمعتقدات الدينية، أية علاقة؟

04 نوفمبر 2013 20:36

د. محمد وراضي

هوية بريس – الإثنين 04 نونبر 2013م

أن نكتب، وأن نتوقع ثناء القراء علينا وإشادتهم بنا، دعوة مباشرة إلى الاسترزاق بما نكتبه! حتى وإن لم يكن ما ننتظره منهم مالا أو هبات، كالتي تقدم إلى المشرفين على أوكار الفكر الظلامي الديني، وعلى الوصوليين الانتفاعيين ممن يجسدون الفكر الظلامي السلطوي والحزبي والسياسي بامتياز!

إننا حين نكتب، فلكي تصل أفكارنا إلى القراء، ولهم بعد ذلك حرية القبول أو الرفض، لكن على أساس منطقي يقضي بتحديد الأدلة المقنعة لتبرير الرفض أو الاعتراض، الذي وقع اختيارهم عليه، مع التأكيد الفوري على أن الردود لن تكون مستوفية لكافة الشروط، متى تم حصرها في حدود بضعة سطور. كحال القارئ الوحيد الذي أراد -باللغة الفرنسية- أن يخبرني ككاتب مقال، وأن يخبر قراء هذا المقال وغيره من مقالاتي، بانتفاء أية علاقة بين العقل والمعتقدات. وكأن محور مقالي هو ما يريد أن يفهمني إياه،، أو يسلط الضوء عليه لفائدة من يقتفون أثره. والحال أن منحى المقال الذي علق عليه أكثر من قارئ، سياسي أكثر منه ديني. حتى مؤلفي المنشور عام 2008م تحت عنوان: “عرقلة الفكر الظلامي الديني للنهضة المغربية” يشير إلى نفس المنحى. لكن الفكر الظلامي يطرح مقابل الفكر النوراني أو التنويري. ومقياس تفعيلهما على أرض الواقع لا تخطئه الأعين الناقدة النافذة. فجعل الأضرحة شراكا لأكل أموال المغفلين بالباطل فكر ظلامي! واستغلال القيمين عليها للدعاية السياسية فكر ظلامي! وما قيل عنها يقال عن الزوايا التي لا يتخرج منها غير المشوهين للدين الحق، والذين يقومون لفائدة الدولة بأدوار، تمكنها من الاستمرارية كسند عندي ظلامي الهوية!

غير أن ادعاء الحكام والأحزاب بأن شعوبنا عبر العالم العربي تتمتع بالحرية والديمقراطية، في ظل دولة الحق والقانون، فكر ظلامي بامتياز! إذ أنه يتناقض مع واقع الحال. وإلا لم يكن هناك من داع للانتفاضات الجماهيرية التي وصفت بالربيع العربي. هذا الحراك التاريخي الذي يريد التخلص من الاستبداد أو من الدكتاتوريات التي تحمل أرطالا من الفكر التضليلي السلطوي في عقولها وعلى أكتافها منذ عقود!

وبما أن تعليق من نفى أية علاقة بين العقل والمعتقدات. مستشهدا بقوله تعالى: “الرحمان علم القرآن. خلق الإنسان. علمه البيان. الشمس والقمر بحسبان. والنجم والشجر يسجدان”. بما أن تعليقه ذكي كصاحبه الذي ترك باب نظرته إلى الدين مفتوحا على مصراعيه، من خلال ما استشهد به منذ حين. ومن خلال حميته تجاه طاغية تونس الأسبق: حبيب بورقيبة. فقد بدا لي أن أناقشه، إنما دون أن أقتنع مثله بغياب أية صلة بين العقل والمعتقدات؟

عندما قال ديكارت: “العقل أعدل قسمة بين الناس”. فمعناه عندي أن الاستعداد للتعلم فطري لدى أي إنسان على الإطلاق. وهذا ما أشار إليه نبينا إذ يقول: “كل مولود يولد على الفطرة. فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”. فصح أن المعارف مكتسبة لا موروثة، في انتصاري الواضح هنا للنظرية التجريبية في المعرفة، لا للنظرية المثالية. حتى القرآن الكريم يؤيد بجلاء ما انتصرت له. يكفي قوله تعالى: “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا. وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون”. في إشارة إلى أن الحواس منافذ للإطلالة على العالم، ولربط الصلة الأولى به. وفي مقدمتها حاسة السمع وحاسة البصر. وهما حاستان أساسيتان جالبتان خارج ذواتنا لمواد منها سوف تتألف أو تتشكل الأفئدة، والتي هي العقول هنا في الآية. فالطفل الذي يحس ولا يدرك في المرحلة الأولى، يدرك حسيا في المرحلة الثانية. ثم يدرك تجريديا في المرحلة الثالثة. فيكون عندها قادرا على التمييز، لا بين الأشياء المادية فحسب، وإنما كذلك بين التصورات الذهنية التي توجد من ضمنها القناعات التي يتشبث بها حتى ولو كانت وراثية. والقناعات هنا لا يقف أمامنا أي مانع من ترجمتها دينيا إلى معتقدات.

هذا ولا يوجد أي إنسان بمنأى عن التزود بمعتقدات عشيرته، أو مجتمعه، وله بعد ذلك أن يغيرها إن هو أدرك سن النضج العقلي من باب “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”.

فقد كانت نساء بني النضير ممن لم يعش لهن أولاد، يلزمن أنفسهن بتهويدهم إن هم عاشوا لهن. لأن اليهودية في نظرهن أفضل من عبادة الأوثان. فكان أن قلن: وبما أن الله جاءنا بالإسلام، فسوف نكرههم عليه. أي على اعتناقه. فرد القرآن عليهن بقوله تعالى: “لا إكراه في الدين”. يعني أن الإنسان حر في اختيار قناعاته في الجملة. سميناها معتقدات أو سميناها تصورات أو أفكارا أو أيديولوجيات. والأهم عندي هنا أن العقل حاضر في الاختيار لا غائب عنه كما يدعي صاحب قضيتنا.. والاختيار موضوعه المعتقدات، والمعاملات. مع ضرورة اعتبار المعتقدات تحديدا أساسا نظريا عقلانيا لتوابعها.

فإن نحن سلمنا جدلا بحق الاختيار – وهو ما لن يعترض صاحبنا عليه – فنسلم جدلا كذلك بوجود فرق بين النظري والتطبيقي.. فالفزيائي المتفرغ لدراسة ظاهرة بعينها إلى حين اقتناعه بفرض عقلي يفسرها دون ما سواه. لا بد له من حمل فرضه ذاك إلى المختبر لغاية إخضاعه للتجريب. لأن التجريب هو الذي يكشف عما إذا كان صحيحا أو غير صحيح. مقبولا أو غير مقبول.

وبما أن المعتقدات بمثابة الشق النظري من الدين. فإن العبادات والمعاملات بمثابة الشق التطبيقي منه. والانتقال من النظري إلى التطبيقي يقتضي الاقتناع بالشقين كليهما، كما يقتضي قبل كل شيئ وبعده، حضور العقل في القبول بهما أو في رفضهما. والسيرة النبوية مليئة بنماذج من المعترضين المنكرين للدين الذي جاء به محمد بن عبد الله جملة وتفصيلا. واعتراضهم وإنكارهم عماده العقل أو التقليد، أو كليهما، دون الجزم بأنهم ليسوا عقلاء. ودون الجزم بكون المعتنقين للدين الجديد محرومين من الفهم والفطانة والحكمة والإدراك السليم الذي يمكن أصحابه من التمييز بين الحق والباطل! مما يعني أن الادعاء بكون الرابط بين المعتقدات والعقل مفقودا ولا وجود له، اعتقاد باطل وقبض الريح!!!

لن أخوض هنا في موضوع المعتقدات الإسلامية جملة وتفصيلا. وهي قناعات أو مسلمات عند المؤمنين المخلصين الصادقين، لا يتطرق إليها أدنى شك. إنما لا بأس من التذكير بعمودها الفقري ممثلا في الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره. وهي عند خصومنا لا شك غير مستندة على أي أساس عقلي. لكننا سوف نبعد عنها هذا الاتهام الصادر عمن يقال بخصوصهم: “من جهل شيئا عاداه”!

وحتى يدرك صاحبنا مدى ارتباطنا بكافة المعتقدات. ومن ضمنها التصديق بأن “النجم والشجر يسجدان” لخالقهما عز وجل. نطرح عليه وعلى كافة القراء هذه التساؤلات:

هل تخرج نبي الله ورسوله من إحدى الكليات الأدبية أو العلمية أو القانونية أو الطبية؟ أو هل تخرج من إحدى المدارس أو من أحد المعاهد العليا؟ وهل كان متخصصا في الفزياء أو في الكمياء، أو في علم الفلك، أو في الجغرافيا، أو في البيولوجيا، أو في الجيولجيا؟ وهل كان شاعرا أو عرافا أو منجما، أو كاهنا أو قصاصا، أو فيلسوفا، أو أديبا معروفا بمنحاه الأدبي المتميز؟

بما أن الإجابة عن التساؤلات المطروحة بكاملها هي النفي، فلنسق لتنبيه الغافلين المستسلمين إلى كون العقول وحدها ذرائع لإدراك كل شيء! لنسق لهم ما يمكن استخلاصه من آيات قرآنية ذات دلالات واقعية موضوعية محسوسة. رفضها بحجة تناقضها مع العقل، مغامرة مجانية غير محمودة العواقب، حتى من وجهة نظر النقاد المحايدين الذين يدينون بدين آخر غير ديننا الحنيف! وقبل أن نسوقها نذكر القراء بأن العلم يرفض بتاتا ما يعرف بالصدفة. لأن قبوله بها ينسفه من أساسه! فصح أن العالم بما فيه وبمن فيه، خاضع لقوانين ولضوابط، بدونها لن تستقر أحوال كافة المخلوقات على بساطه! ونحن هنا في هذه القضية تحديدا مع العلم. مما يبرهن مبدئيا على وجود الله الذي يعود إليه وحده خلق الكون برمته. ومن خلقه له تتجلى ربوبيته التي ترتكز عليها ألوهيته. وهاكم الآيات المنصبة على الواقع المحسوس الملموس، لا على أوهام ولا على خرافات:

قال تعالى: “لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما. ثم أنشأناه خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين”!

فالنطفة الواردة هنا في الآية تأخذ “طريقها في قناة فلوب -قرن الرحم- إلى أن تدخل الرحم وتنغرس فيه في المنطقة العليا من الجزء الخلفي لجداره. ونعرف اليوم أن هذا النزول يستغرق سبعة أيام تقريبا. فمن علم هذا لسيدنا محمد ص حتى يقول قبل 14 قرنا “يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم”. من أخبره أنها لا تستقر في الرحم فور خلقها!

ثم تأخذ النطفة “في الانقسام إلى خليتين. ثم أربع. ثم ثمان. وهكذا إلى أن تأخذ في الأسبوع الرابع بعد الإخصاب شكل وحجم التوتة المحببة. ومن هنا أخذت إسمها “MORULA“. ثم في نهاية الأسبوع السادس يبتدئ تكوين العظام. وفي الأسبوع الثاني عشر تظهر العضلات الأولى اللاصقة بالنسيج العظمي “فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما”.

هكذا “أوضح لنا علم تشريح الأجنة مختلف مراحل تطور الجنين في بطن الرحم. وهو داخل ثلاثة أغشية رهيفة جدا: هذه الأغشية الثلاثة تخلق مع الجنين وتحيط به وتحفظه إلى يوم ولادته “يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث”.

وجاء في النظم الكريم قوله تعالى: “ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا”. دون أن نحتاج هنا إلى إحصاء الأمراض الناتجة عنه وانتشارها وتأثيرها على الصحة والنسل.

وجاء فيه قوله سبحانه: “حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقودة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب”.

وهذه المحرمات جميعها بينت التجربة خطرها على صحة الإنسان. بدءا بالدم المسفوح، فانتهاء بما يذبح على النصب، والذي هو عينه ما يذبح لغير الله. وذلك حتى لا يعود المسلمون إلى الشرك الذي يقضي كليا على العبودية له وحده سبحانه. خاصة متى اقتنعنا أن محض العبودية له دون غيره، تحرير للإنسان من كل أشكال التبعية إلى حد تقديسه لمتبوعه!!!

كما ورد في كتاب الله قوله تعالى: “وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب. صنع الله الذي أتقن كل شيء”. في إشارة إلى كلمة الصناعة الرائجة اليوم في الأوساط العلمية. إلا أن صناعته سبحانه في غاية الإتقان، مقابل صناعة الإنسان التي أدت إلى القضاء من فرط جهله وظلامياته على آلاف البشر! فضلا عما تحدثه من دمار شامل وتلويث للأجواء. يعني أن الآية تخبرنا كيف أن الأرض كروية تدور حول نفسها وحول الشمس. ما دامت الجبال تتحرك تحرك السحاب!

دون المضي كثيرا في تقديم مآت الأمثلة على كون المعتقدات غير بعيدة عما تقبله العقول وترتاح إليه النفوس. ونذكر هنا تحديدا قوله تعالى: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”! فلم إذن ننكر سجود النجم والشجر لخالقهما الذي تلقينا كل ما تضمنه وحيه بكامل الصدق؟ ومن قدم لنا آيات بينات في مجالات شتى، كيف لنا أن نثق به في أشياء ونكفر به في أخرى؟ فإن أخبرنا بكون جميع مخلوقاته تعبده، سلمنا بما أخبرنا به، لأننا كنسبيين لا نتطلع إلى مستوى المطلق. وهذه عقيدتنا. ولغيرنا عقيدته أو قناعاته. ثم إن مداركنا واقعيا لا يمكن أن تتم خارج إطاري الزمان والمكان. وبما أن الزمن فلسفيا هو الحركة في المكان. وبما أن المكان لم يكن موجودا قبل وجود العالم. لكن الله موجود قبل وجوده. أدركنا كيف أنه سبحانه خارجهما. وبما أنه خارجهما، فلا أمل يرجى في معرفة كل ما يتعلق بربوبيته وبألوهيته. وكل ما في الاستطاعة التي أبانت عن فشلها، هو قياس الغائب على الشاهد. كما دأب المتكلمون والمعتزلة بالذات على هذا النهج الذي انتهى بهم إلى الباب المسدود بخصوص مفهوم التوحيد الخالص. فصح أن نضحي بالعلم موضوع المطلقات في سبيل الإيمان، كما قال الفيلسوف الألماني: إيمانويل كانط! مع التأكيد على أنه يقصد الإلهيات أو الماورائيات، لا العلوم التجريبية على وجه التحديد! عندها- أي عند تضحيتنا بالعلم في الصورة الموصوفة – نتفرغ لمقارعة الأفكار، وإجراء التجارب بكثافة في إطار ما يعرف بالبحوث العلمية، عسانا نحسن أوضاع البشرية على وجه الأرض. والحال أن أوضاعها الراهنة في ظل الفكر العلماني الظلامي كما يعرفها صاحب قضيتنا، أدركت قمة السوء والتردي! فالعلماجيون المعتدون باعتماد العقل في اقتناص الآراء أوالقناعات العقلانية، هم من انقلبوا على الشرعية في مصر بتآمر مع الأمبريالية العالمية المتغطرسة! ثم إنهم الذين قتلوا واعتقلوا وعذبوا آلاف المواطنين! نظير إخوانهم في “العقيدة الظلامية” التي مارسوها على الأرض بتونس وليبيا، واليمن، وسوريا التي كاد نصف شعبها يفنى! وكل ذلك بفضل الادعاء بأن العقول في ظل العلمانية، لا في ظل غيرها، هي التي تجعل مصابيح الحرية والكرامة والديمقراطية ترفرف على رؤوس الجماهير الشعبية!!! 

أما حمية صاحبنا تجاه الدكتاتور التونسي الذي أطاح به خلفه الدكتاتور زين العابدن بن علي. فقد انتهى إلى علمنا مساء هذا اليوم (30/10/2013م) لا المبالغة في سبه وشتمه! بل ومحاولة تسوية قبره بالأرض! ولله في خلقه شؤون!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M