وقفة تأملية في مسلك الخصوصية الدينية

04 يناير 2014 19:02
وقفة تأملية في مسلك الخصوصية الدينية

وقفة تأملية في مسلك الخصوصية الدينية

محمد بوقنطار            

هوية بريس – السبت 04 يناير 2014م

حينما يجنح الكثير من شباب الأمة إلى الانقلاب عن القيم المجتمعية، فيتبنى كل ما هو وافد غربي حتى إن كانت بضاعة هذا الوافد مخالفة للمعلوم الديني والثابت العرفي.

وحينما تجنح السياسات الإعلامية إلى ضخ منتوج سمعي بصري ومكتوب منحاز إلى لغة المستعمر وثقافته وفلسفته وخلاعته منقلب مستصغر للثوابت المحلية..

وحينما تعطى الانطباعات المغلوطة بقصد أو بغيره تشرح قصرا قضية التمدن والتحضر والحداثة في واجب فتح الباب الداخلي أمام رياح معلولات الإلحاد والتنصير والتغريب والانسلاخ الخلقي..

وحينما تصير الحرية في ثوبها المدني عنوانا لكل فوضى عاصفة بالقيم والأخلاق والفضائل منتصرة لمشاعية الجنس والمثلية واللادينية.

وحينما تنشط مدارس التنصير ونوادي الماسونية مخترقة حصون الفرد والأسرة والمجتمع؛ داعية بكل صفاقة باسم ربها يسوع وأبنائه البنائين إلى الردة والارتداد عن الدين العظيم.

وحينما تتحول نظرة المجتمع الحداثي إلى الدين من منقبة اعتباره حصن عز وفخار ونجاة إلى نظرة يأس وأفيونية وهلاك للحرث والنسل.

وحينما تتحرك سخائم المجوسية وعصابات الرفض تبغي الفساد والإفساد في جغرافيا الانتساب العميق إلى منهج النجاة منهج “ما أنا عليه وأصحابي”.

وحينما تسعى العولمة الثقافية مدعومة بعولمة الردع العسكري إلى تعميم النمط الثقافي الغربي  وتذويب الثقافات الأخرى وتهجينها وطمسها ومن تم حصول النتيجة المرجوة التي هي التنازل عن الخصوصية والهوية الثقافية لصالح النموذج الأقوى، النموذج الثقافي الأمريكي وما يندرج تحت عمومياته من تفصيلات صهيوصليبية.

وحينما يتحول التعايش والتجانس الفسيفسائي للمجتمع والذي ساد لقرون من الزمن خلت، إلى لاءات وعربدات تنفخ في رماد نعرات الجاهلية الأولى، باسم حق تقرير المصير والحركات الانفصالية، وباسم الشعوب الأصيلة المضطهدة زعما وحقها كأقلية في الاستصراخ بمستعمر الأمس لتطبيق برامجها وأجندة تحركها المدخول.

حينها فقط يكون المسوغ الشرعي والكوني قد بلغ نصابا لا يقبل التراجع ولا القهقرى دون واجب وحتمية رفع لواء الخصوصية المميزة التي تتكسر على صلد صفوانها كل الموبقات السالفة الذكر.

وهنا وفي غير تزاحم يستأثر الدين وعصمته بدوره كمشترك تذوب في فضائه فوارق اللغة واللهجات والعرق وعوامل الإقصاء الأخرى كشعار وآلية ضامنة لتفوق الخصوصية والنجاة من خطر التماهي والانسراب مع تيارات التغريب الجارفة الهالكة.

وحتى نوجه الصوب وجب الاستدراك على كون الخصوصية الدينية، لا نعني بها في هذا المقام تلك الخصوصية القادحة في استيعابية الدين وكله المبارك، المؤمنة ببعضه المتداعية على بعضه الآخر باسم التهريب الديني أو رفع شعاري تحصين الهوية الدينية المحلية من نوازع التطرف المشرقي ورعاية الأمن الروحي للمواطنين.

إذ قد تكون الخصوصية هنا هي محض إنتاج وتصرف بشري يؤخذ منه ويرد، إذ قد يخشى في هذا الإطار أن تصير الخصوصية أو تكاد دينا إلى جانب الدين الإسلامي أو على حد تعبير الشاطبي في الاعتصام “طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية”، سيما وأننا نؤمن في هذا الخصوص أننا لا نملك على مستوى الإرث النصي ذاتا مستقلة عن حضارة الأمة وتراثها المعرفي الديني المشرقي.

 حيث لا يمكن النظر إلى سهمنا من هذا الإرث النفيس إلا في ضوء الكل العام المتحرك في فلك مفاهيم الأمة الموسعة لتحجير القطرية الدينية الفارقة، ولعل هذا المقصد النبيل لن يتأتى إلا في إطار البحث الجاد المخلص عن الذات الجامعة التي أساس وجودها استيعابية كل الدين والاعتصام الجماعي بحبل الله والالتقاء على الكلمة السواء.

ويبقى كل ما دون هذا المدرج الرفيع قد يؤدي نقيض مقصده ويهرول في ضد صوبه المراد شرعا وكونا، وليس هذا بخفي في عالم ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، إذ صارت المادة اللاصقة لعملية التراص والبناء هي عينها المادة التي تفت في عضد مقام الجسد الواحد، وذلك بتصرف يحقق مطلب “إن الذئب يأكل من الغنم القاصية”.

فلما كان الغرب الحاقد المتربص يرى قدرة هذا الدين في توحيد الكلمة ولمّ الشمل وجمع الشتات، عمل عبر محصلات ونتائج وخلاصات معاهده للدراسات الاستراتيجية، وبعثاته الإغاثية والتنصيرية، وقروضه الضخمة المشروطة بتوصيات جارحة، وعملائه من العلمانيين وشواكل الإغراب من المتفلسفة والمتكلمين والمتحولين والمتمصوفين القبوريين على العبور على ظهر البدع والمحدثات وكذا المحددات الضابطة والفاصلة بمعياريته هو وحده بين الاعتدال والتطرف، وبين الوسطية والغلو، وبين التسامح والعنف، وبين الجهاد والبغي.

 ولعل الذين انخدعوا بنفعية الطعم ورأوا في مسلك الخصوصية مدخلا من مداخل التميز والإشعاع الذي يمكن أن تقوم على أس فلسفته فكرة تحرير العقل القطري من ربقة التبعية للمشرق الإسلامي مهبط الوحي، وإظهار التفوق والنبوغ الذي تميز به استقلال الأولياء المحليين في طقس تعبدهم عقيدة وفقها وسلوكا عن أصل مشرقية التنزيل والإرسال المبارك، وقفوا على حقيقة كيف تحولت الخصوصية إلى بطاقة حمراء ترفع وتشهر في وجه من تجمعنا بهم روابط الدين واللغة والتاريخ باسم التحصين ومحاربة المذاهب الدخيلة.

وكيف أن هذه البطاقة الحمراء تستحيل إلى خضراء راغبة رائمة كسب ود ومودة الآخر باسم التسامح والبر والإحسان والإقساط إلى الذين أخرجوا إخوانا لنا من ديارهم، وخسفوا بهم الأرض، وانتهكوا فيهم العرض، واستباحوا فيهم كل شيء من البعوضة إلى الفيل.

 ولا تستغرب بعد هذا ومثله من المسوغات والمبررات وجود من يرفع شعار الخصوصية والانتصار لها والاعتزاز بالتفرد في باب العقيدة والفقه والسلوك من الذين لم تلامس أردافهم ونواصيهم سجاد بيوت الله من الذين بلونا خبرهم فوقفنا بالصوت والصورة على حقيقة أن علاقتهم بالله كانت ولا تزال في درك الصفر.

ولن نحتاج إلى كثير جهد لنقف على كلام أمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي “إدريس لشكر” وهو يثني خيرا على تميز المغاربة وتفردهم عبر قرون بخصيصة الانتساب إلى عقيدة الأشعري وفقه مالك وسلوك الجنيد، ثم لن نذهب بعيدا في عمق الاستدراك التاريخي في متتالية الناسخ والمنسوخ لنجده يتباكى في حضرة نسوة حزبه على ظلم الإسلام للمرأة، فيدعو إلى تحريم وتجريم شعيرة التعدد وإلغاء حكمة التمايز في فريضة الإرث، فهل يا ترى قال بهذا الأشعري ومالك والجنيد حتى يقول به هذا المترف في باب الخصوصية الدينية المغربية؟ 

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M