العمل السياسي شفَّاف.. وكشَّاف!؟

26 مارس 2014 18:08
العمل السياسي شفَّاف.. وكشَّاف!؟

العمل السياسي شفَّاف.. وكشَّاف!؟

محمد أقديم

هوية بريس – الأربعاء 26 مارس 2014

العمل السياسي كَشَّاف وشفَّاف، ويكاد المشتغلون به يظهرون عراة، لذلك يبدو لنا السياسيون، أكثر من غيرهم، وكأنهم أسوء البشر أخلاقا، وأقبح الناس سلوكا، وأقلهم حياء، وليس ذلك لأن سلوك غيرهم من المشتغلين بالثقافة والفكر والدين والتربية والتعليم والصحافة والاقتصاد والمجتمع أقلُّ سُوء وقُبْحا من سلوك السياسيين.

وإنما لأن هؤلاء المشتغلين بغير السياسة لا ولم ينخرطوا بعد في العمل السياسي، أو لا يريدون ذلك، إما لأنهم يعرفون أن العمل السياسي، الذي بطبعه كاشف وفاضح، سيكشف حقيقتهم ويفجّر تناقضاتهم، ويفضح حقيقتهم، وبالتالي فهم غير قادرين على هذه المغامرة، فيتذرعون بالعديد من المبرّرات.

في كل مجالات الحياة يستطيع الشخص أن يغطي عن عيوبه ويَتَسَتَّرَ عن نواقصه، ويستطيع أن يدَّعي الطهرانية والاستقامة دون أن يتمكَّن الناس من إدراك حقيقته، التي من المحتمل أن تكون مخالفة لما يدَّعيه من استقامة وصلاح لمدَّة طويلة، وربّما قد لا تُعرفُ حقيقته بالمرّة ولكن في العمل السياسي عموما، وفي موقع صناعة القرار فيه خاصة، ستُكشَفُ حقيقته، ويُرْفَعُ عنها الغطاء منذ الوهلة الأولى من انخراطه فيه. ويبقى العمل السياسي، وخاصة دائرة التدبير ومركز صناعة القرار فيه، هو المجال الذي تتوفر فيه كل الشروط المواتية لتفجير التناقضات الكامنة في شخصية كل إنسان لتكون مكشوفة أمام الجميع، ومُعْلَنَةَ على رؤوس الأشهاد، في حين تسمح مجالات الحياة الأخرى بالتستُّر على هذه التناقضات وإخفاءها جزئيا أو كليا.

فالتموقع في المعارضة، والاشتغال بالمجالات الأخرى في الحياة ذات العلاقة بالقضايا الأكثر ثباتا والأقل حركية، يجعل هامش الأخطاء والهفوات والعثرات فيها شاسعا وواسعا، وفرص تصحيحها كبيرة، وكونها مجالات قطاعية وفئوية، إذ غالبا ما تكون مرتبطة بفئات اجتماعية معينة ومحدودة، يجعلها لا تثير إلا أنظار الفئات المعنية بها، على عكس العمل السياسي وموقع صناعة القرار، الذي هو ملتقى السياسات العمومية ومجمع السياسات القطاعية، حيث هامش الخطأ والمناورة ضيق وفرص تصحيحه نادرة، وكل هفوة أو زلَّة فيه تثير أنظار الجميع، وخاصة وسائل الإعلام، التي تضع صانعي القرار السياسي، أكثر من غيرهم، تحت مجهر متابعة ومراقبة الجميع.

وإذا كان المُشْتَغلُ بالسياسة عموما، وصانع القرار السياسي على وجه الخصوص، مُطَالَبَا بتنزيل المبادئ والنظريات وترجمة الأقوال والمخططات إلى ممارسات فردية وسلوكات وجماعية وتحويلها إلى سياسات عمومية، على شكل قوانين وإجراءات تدبيرية ملموسة وإنجازات ميدانية، وإذا كان هذا التنزيل والترجمة والتحويل هو أصعب معادلة وأقسى امتحان وأشق اختبار في حياة كل فرد أو جماعة أو تنظيم أو دولة، حيث تُصطدم المبادئ والطموحات والنظريات والمخططات في الواقع بالعوائق والعراقيل والإكراهات، فإن المشتغلون في المجالات الأخرى -غير السياسة ومركز صناعة القرار- لازالوا يقبعون في موقع -أو على الأقل في مرحلة- التصريح بالنوايا الحسنة، وصياغة المبادئ العامة، والتعبير عن الأفكار الجميلة بالأقوال الرنانة، والإعلان عن النظريات الحالمة، وينتظرون من السياسيين وصانعي القرار السياسي ترجمتها إلى ممارسات وسلوكات وسياسات، بل ويُطالبونَهُمْ بذلك، ويلحُّون في مطلبهم، وينتقدونهم، ويحتجُّون عليهم، ولم ولن يكلّفوا أنفسهم بعد عناء المرور الى مجال الممارسة السياسية لتنزيل ولو جزءَ يسيرا من نظرياتهم، وتطبيق ولو قليلا من أقوالهم، وترجمة شيء من نواياهم.

إن طبيعة العمل السياسي باعتباره ممارسة جماعية فعلية وعمل ميداني في مجال متغير، يفرض على صانع القرار اتخاذ إجراءات مستعجلة، مما يُحَتّمُ عليه ارتكاب الكثير من الأخطاء. ولكون السياسة اشتغال على المصالح المتغيرة، حيث تختلف التقديرات وتتعدد الاجتهادات، مما يجلب الكثير الاختلافات والتناقضات، مما يتطلب من المشتغل بالسياسة الكثير من المرونة والليونة، ويجعل السياسي يرتكب العديد من الهفوات، وتعتري عمله الكثير من النواقص. ثم إن المشتغل بالسياسة باعتبارها عملا جماعيا مرتبطا بالمصلحة العامة، يجعل كل الأنظار متجهة إليه، أكثر من غيره من المشتغلين في مجالات الحياة الأخرى، ويضع السياسيين تحت مجهر الإعلام، وباعتبار السياسة شأنا عاما ومجالا للتدافع والصراع والمواجهات المستمرة والمؤامرات الدائمة بين مختلف القوى الاجتماعية والسياسية، التي تدافع عن مصالحها، فهذا يزيد من حجم المعلومات المُرَوَّجَة حول المشتغلين بها ومن الإشاعات المتداولة عنهم تهويلا وتهوينا أكثر من غيرهم، ومما يعطي في النهاية الانطباع بكون السياسيين والمشتغلين بالسياسة شياطين آدميين، وغير المشتغلين بالسياسة ملائكة منزَّهين.

وخلاصة القول: “لي قال العصيدة باردة يدير يدو فيها”.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M