فِــــيمَ نَخْتَلِفْ..؟! (ح2)

19 أبريل 2014 14:32
فِــــيمَ نَخْتَلِفْ..؟! (ح2)

فِــــيمَ نَخْتَلِفْ..؟! (ح2)

د. عادل رفوش

هوية بريس – السبت 19 أبريل 2014

إنه لا حَرَجَ عليك أن تنزل كتبَ التحذير من المبتدعات والمخالفات والأحزاب والجماعات، بكل ما فيها من الذم والإنكار على ما وصفته بأنه “بدعة ضلالة” “مُحْدَثٌ منكر” “انحرافٌ خطير”…

ولكنني أهمس في قلبك: هل توصيفك له بأنه “بدعة محدثٌ منكر”؛ سليمٌ مُنقح محرر..؟؟

وهل تدرك -مَثَلاً- حقيقةً ولو على الأقلِّ معنى الإضافة في قوله: “..من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد..”؛ ما هي أبعاد الأمر المراد، ومن المقصود بضمير “نا” الذي أضيف إليه… بغض النظر عن التفاصيل والأدلة والأقاويل والتعاليل الأخرى المذكورة في هذا الباب وفي غيره من أبواب هذا العلم الشرعي المبارك الشريف…

قال ابن تيميةَ: (إنَّ التمييزَ بينَ جنسِ المعروفِ وجنسِ المنكرِ، وجنس الدليل وغير الدليل يتيسَّرُ كثيراً، فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل؛ بحيث تقدِّمُ عند التزاحم أعرف المعروفين فتدعو إليهِ، وتنكر أنكر المنكرين وتُرَجِّحُ أقوى الدليلين فإنه خاصة العلماءِ بهذا الدين) (الاقتضاء 1/298).

ويقول في (الاستقامة 2/165): (…وأما الكفار فزوال عقل الكافرِ خيرٌ له وللمسلمينَ، أما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله ولا عن الصلاة، بل يصده عن الكفر والفسقِ… فيكونُ ذلك خيراً للمؤمنين؛ وليسَ هذا إباحةً للخمرِ والسكْرِ؛ ولكنه دَفْعٌ لِشَرِّ الشَّرَّيْنِ بأدناهما..).

وهذا هو المغزى العميق الذي يحيل عليه شيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً في وسطية أهل الإسلام بين الملل؛ ووسطية أهل السنة والجماعة في الإسلام بين أهل النِّحَلِ…

ومنه قولته: “أهل السنة أعلم بالحق وأرحم بالخلق”… ولذا كان من أهم علامات البدع “التعالمُ والبلادةُ والفظاظةُ”، وإن كان بعضهم قد يخيل إليهِ أنه “كان شديداً في التمسك بالدين”.. “سيفاً على المجسمة”.. -كما يُخَيَّلُ للروافضِ وهم يعادون الأصحاب-…. ونحو ذلك من البتر المُشَوِّهِ للشريعة ولمذهب السلف والسنة…

وخذ على ذلك مثالاً قد ينفعك تأمله لتفهم المقصود من الدعوة إلى التلاقح الفكري والتعاون المعرفي بين العلماء والدعاة -وإن كان شيخي العلامة ابن عدود رحمه لا يرتضي هذا العطف- .. وإن اختلفوا في غير ثوابت الأصول…

لماذا تتشنج أعْصابُنا إنكارا حين التباحث في تقسيم البدعة -غير الضلالة- اصطلاحاً..

وينافح إقراراً عن تقسيم التوحيد اصطلاحاً… (وبعض الناس يعكسها).

لا يعنيني رأيك بقدر ما يعنيني أن تكون ممن يتأمل في اختياراته التي يتخذها دينا ويتحرى بصيرة العلم والتقى والإنصاف… دون التأثر بردود الفعل؛

لا تأثر ولا تأثيرَ إلا  بالشجرة المباركة “لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيئ ولولم تمسسه نارٌ نورٌ على نور”.

وإنني على هذا المنوال لا أجد غضاضة في أَخْذِ حكمةٍ -وعندنا في تراثنا الأطيبُ- من سبينوزا صاحب كتاب اللاهوت والسياسة (وما أكثر ضلالاته) إذ يقول:

“إني أضع عن طيب خاطر كل ما كتبته أمام السلطات العليا في وطني؛ لكي تفحصه وتصدر حكمها عليه؛ فإن رأت أني قلت شيئا مناقضاً لديني أو لقوانين وطني أو للمصلحة العامة فإني أسحب ما قلته”.

قلت: ولكن الإشكال اليوم أن قليلا من ينصف الحكمة حتى يصنف الكلمة المقولة فَضْلاً عن أن ينصفَ قائلَها؛ هل فعلا ناقضت الشرع أو عاكست الوطن أو عارضت مصالح الأمة…

بل يقع الظلم كثيرا فلا يدري المأخوذ فيما أخذ ولا لم تقامُ المعارك؛ ولا لم كثيرٌ من الأقاربُ لا يصلون إلى كلمة سواءٍ؛ مع أنهم أمروا بها مع من ألحد في الدين…

حتى صار لسان حال بعضنا: (أنا أحاربُ إخواني المسلمينَ إذاً فأنا موجودٌ..).

قال ابن تيميةَ: (فالحاصلُ أنه تجبُ الموازنَةُ بين الحسناتِ والسيئات التي تجتمع في هذا الباب وأمثاله وجوداً وعَدَماً) (الاستقامة1/167).

وقال رحمه الله في تشخيصٍ بديعٍ لأخوةِ الدينِ بينَ المسلمين حتى ولو حصل التخالف والتخاشن فإنَّ البغيَ مرفوضٌ والأصل هو التعاون والتراحم…

قال شيخ الإسلام: “مثل الأخوة في الله كمثل اليد والعين؛ فإذا دمعت العين مسحت اليد دمعها، وإذا تألمت اليد بكت العين لأجلها…”.

وهذه الأزماتُ الفكريةُ على عِلاتها فإنها عِزَّةٌ لأعلام الحق… وعاقبتها بإذن الله إلى العافية؛ والتواريخ  طافحة بالأخبار المزودة…

فإذا رجعنا “إلى ربع عزة” في حديثنا عن السياسةِ فلا بد من سبر التقاسيم وغور المراسيم حتى يحيى الفضلاء عن بينة..

بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ، عسانا نهتدي على بينة من ربنا، ويرزقنا منه رزقاً حَسَناً “وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنِيب“، “فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ“، “إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ“.

عن أي سياسة نحدث:

إننا لا نختلف في التباينات الجُلَّى بين السياسة الشرعية وبين السياسة المعاصرة…

كما أننا لا نختلف في البون الشاسع بين الحياة الشرعية والحياة المعاصرة…

(أي الحياة البَرَّةُ المطمئنة التي أراد لنا ربُّنا، والواقع المرير الذي نعيشه في كثير من مناحي اليوم…).

ولكن هذا لم يكن سبباً لإفراغ الحياة وتركها لمن يخربها؛ بل واجب المصلحين إفادة الحياة ببوصلة التغيير صوب الشريعة والمشروع؛ وما ينطبق على الحياة المعاصرة؛ ينطبق على فروعها كالسياسة المعاصرة وغيرها من اهتمامات الدين والوطن والناس…

ويبقى النظر في الوسائل والأولويات والغايات، وتعيينِ المُحَدِّدات والموازنات…

عن أي سياسة نختلف؛ ونحن نتفق في كل الأصول وفي معظم الفروع…

ألسنا نتفق على مثل الحافظ ابن حجر وعلى مثل قوله رحمه الله في (الفتح:3/512): -فتح الله لنا ولكم أبواب رحماته- (الأميرُ يعملُ في الدينِ بقول أهل العلم ويصيرُ إلى رأيهم).

وقوله في (الفتح:2/450): (يجوزُ عملُ العالم بخلاف الأولى إذا لم يوافقه الحاكم على الأولى).

وقوله في (الفتح:3/448): (يَتَجَنَّبُ وليُّ الأمرِ ما يتسرعُ الناسُ إلى إنكاره؛ وما يخشى منه تولد الضرر عليهم في دينٍ أو دنيا، ويتألف قلوبهم بما لا يترك فيه أمرَ واجبٍ).

وقوله في (الفتح:5/352): (تجوزُ بعضُ المسامحةِ في أمر الدينِ واحتمال الضيمِ فيه؛ ما لم يكن قادحاً في أصلهِ إذا تعينَ ذلك طريقاً للسلامةِ في الحال والصلاحِ في المآل، سواء كان ذلك في حال ضعف المسلمين أو قوَّتهم).

وقوله في (الفتح:4/45): (يحسن التلطف في مخاطبة السلطان ليكون أدعى لقبول النصيحة…. وينكرُ العالمُ على الحاكم ما يغيره من أمر الدين؛ وتكونُ الموعظةُ بلطفٍ ويقتصرُ على الإنكار باللسان إذا لم يستطع باليد).

وقوله (2/138): (يجوز الغضب عند تغيير شيء من أمورِ الدينِ، وإنكار المنكر بإظهار الغضبِ إذا لم يستطع أكثر منه).

وقوله (1/225): (يتركُ إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه).

وقوله (1/338): (المختلف فيه لا يجب إنكاره…، ثم قال 366 ويجوز الرد بعنفٍ على من يماري بغير علمٍ؛ إذا قصد الرادُّ إيضاح الحق وتحذير السامعين من مثل ذلك…).

وقوله (5/193): (ينكر القول الذي لا يوافق الشرع).

وقوله (13/53): (يجب إنكار المنكر؛ لكن شرطه أن لا يلحق المنكر بلاءٌ لا قِبَلَ له به؛ من قتل ونحوه).

أليس هو القائل (6/3): (يطلق الجهاد على مجاهدة النفس والشيطان والفساق: فأما مجاهدة النفس: فعلى تعلم أمور الدين ثم العمل بها ثم تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان: فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار: فتقع باليد والمال واللسان والقلب. وأما مجاهدة الفساق: فباليد ثم باللسان ثم بالقلب).

وقال (6/130): (تجوز المشورة على الإمام بالمصلحة وإن لم يتقدم منه الاستشارة).

وقوله (13/131): (يجوز سكوت العالم عن جواب السائل والمستفتي إذا كانت المسألةُ لا تعرفُ، أو كانت مما لا حاجةَ بالناسِ إليها، أو كانت مما يخشى منها الفتنةُ أو سوءُ التأويل).

فهذا غيضٌ من فيضٍ مما دارسناه في المهاد -بحمد الله- وعن عالم واحد من فحول الأئمة؛ والغرضُ من ذلك التنبيه على ضرورة التحرير والتناصح بصدق وإخلاص في المنقولات قبل اتخاذ المواقف والقرارات…

فمن هذا الذي يهونُ عليه دينه من المسلمين…

ومن الذي يرغب عن الحنيفية السمحة…

ولكن بلزوم التواصي بالحق وبالصبر وبالمرحمة وبالتعاون على البر والتقوى…

فالله تعالى يحب أهل البنيان المرصوص…

كفانا الله شر التنازع والفشل…

 والمؤمنون الصادقون هم الأعلون بإذن الله…

جعلنا الله وإياكم منهم، “إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا“.. “وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى“…

والله تعالى أعلى وأعلم… وهو الهادي المثبت على الصراط السوي.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M