الوقف والتنمية البشرية

18 فبراير 2015 16:56
الوقف والتنمية البشرية

الوقف والتنمية البشرية

د. أحمد الريسوني

هوية بريس – الأربعاء 18 فبراير 2015

إن الوقف الإسلامي قد تركز بصورة أساس وكبيرة على التنمية البشرية، أي تنمية العنصر البشري الذي هو منطلق أي تنمية وأساسها وهدفها.

ولئن كان المفهوم الغربي المادي للتنمية يجعل الإنسان مجرد وسيلة للتنمية وقاطرة لها، فإن المفهوم الإسلامي يجعل التنمية كلها وبكل جوانبها ونتائجها مجرد وسيلة لخدمة الإنسان وترقيته وتكريمه.

الإنسان في المفهوم المادي للتنمية هو آلة الإنتاج ووقوده. وحتى حينما يستفيد من نتائج التنمية المادية، فإنما هو حينئذ مستهلك ومنشط لدورة التنمية الاقتصادية. ولذلك يتولى أرباب الإنتاج توجيه المستهلكين والتحكم في سلوكهم الاستهلاكي، ليتحول الكائن البشري في النهاية إلى وسيلة للإنتاج ولتصريف الإنتاج، لا أقل ولا أكثر. أما في الإسلام، فإن تنمية الإنسان نفسه بكل أبعاده الروحية والنفسية والعقلية والبدنية هي التنمية الحقيقية، ولذلك وجدنا حركة الوقف الإسلامي تضع مبادراتها في خدمة هذه الأبعاد كلها في آن واحد. بل نجدها تخصص الجزء الأعظم فيها للأوقاف ذات المنافع المعنوية والمردودية التربوية، تنميةً للإنسان وتزكيةً لنفسه، وترقيةً لفكره وسلوكه.

وفي دراسة عن الوقف الإسلامي في عدد من الأقطار الإسلامية1، ينتهي الباحث إلى أن الأموال الحبسية تتوزع على المجالات الخيرية، كما يلي:

– %27 للجياع.

– %11 للمساجد.

– %11 للمدارس.

– %9 لأبناء السبيل.

– %8 للكتاتيب.

– %7 للتكايا والزوايا.

– %5 للحرمين الشريفين.

– %5 للفقراء والمعوزين.

– %17 لأغراض مختلفة أخرى.

ومن الواضح أن أكثر من نصف الأوقاف قد تم رصده لتنمية الإنسان روحيا وعلميا وسلوكيا، والباقي لتلبية الاحتياجات المادية للإنسان، على وجه المواساة والمؤاخاة والرفق والإحسان، لا على وجه الربح والاستغلال والابتزاز.

ومن الوارد التحفظ على تعميم هذه النتائج باعتبار أنها إنما تتعلق ببعض الأوقاف (104 أوقاف) وببعض الأقطار (مصر، سورية، فلسطين، تركيا…)، وفي فترة زمنية محددة (1940 – 1947م) ولكنها مع ذلك تمثل نموذجاً هاماً، ولا تبعد عن التوجهات العامة للأوقاف الإسلامية، بالرغم من الاختلافات والتفاوتات بحسب كل زمان ومكان.

إن التنمية البشرية بأبعادها ومعاييرها المشار إليها، والتي يمثل الوقف بتوجهاته المذكورة نموذجاً لها، من شأنها أن تجعل المجتمع أكثر وئاماً وانسجاماً وتوازناً واستقراراً، تضعف فيه التوترات والحزازات، وتقل فيه الجرائم والاعتداءات. ومن شأنها كذلك أن تجعل الأفراد أكثر اطمئناناً وارتياحاً وسعادةً، حتى لمن كانت حياتهم المادية متواضعة.

الوقف والتنمية الاقتصادية

حينما نستحضر أن الأموال والممتلكات الحبسية قد أصبحت، مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال، تمثل جزءاً كبيراً من الثروة الوطنية ومن الحركة الاقتصادية لمعظم البلدان الإسلامية، فإننا ندرك بداهة أن الوقف أصبح -أو يمكن أن يصبح- قوة اقتصادية فاعلة.

وإذا علمنا أن الجزء الأكبر من هذه الثروة ومن هذه القوة الاقتصادية، قد آل إلى تسيير الدولة وإشرافها وتوجيهها، وذلك منذ قرون، قبل أن يصبح في العهد الحديث لكل بلد وزارة للأوقاف، فإن هذه القوة الاقتصادية تصبح قابلة لكي توجه نحو الإسهام في تنمية اقتصادية منسجمة ومتكاملة مع الثروات الوطنية الأخرى، بما لا يخلّ برسالة الوقف ووظائفه المحددة.

فمن جهة هناك الفائض الحبسي الذي ينجم عن وفرة الأحباس في بعض المجالات بما يزيد عن حاجتها، مثل الأوقاف المخصصة لتمويل احتياجات المساجد. وعلى سبيل المثال نجد السلطان المغربي الحسن الأول في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، يأذن بتوسيع مارستان طنجة والإنفاق عليه وعلى نزلائه من “أحباس جامع طنجة”2. فمثل هذا الفائض يمكن توجيهه وصرفه بما يتكامل مع الاحتياجات التنموية. وكذلك الاستثمارات الحبسية، وأعني بها الأرباح التي جاءت وتزايدت من خلال استثمار الفائض الحبسي، ومن خلال مداخيل الأكرية الحبسية لفترات طويلة متعاقبة. فهذه أيضاً قابلة للتوجيه بما يخدم التنمية ويتكامل معها مع إبقائها أموالاً حبسية في أصولها وأرباحها.

ومن جهة أخرى، فإن هناك أحباساًً كثيرة أصبحت بتقادم الزمن مجهولة الغرض والمجال، فهذه أيضاً تصبح قابلة للاجتهاد والتوجيه بما يخدم الأهداف العامة للمحبسين، ويحقق الإسهام في التنمية الاقتصادية للمجتمع.

كما أننا نجد مرافق حبسية قد اندثرت، وكانت لها أحباس عظيمة مثل المدارس والمارستانات وعدد من المساجد ودور الضيافة والإيواء. وكذلك الأحباس التي كانت مخصصة لتوفير المياه وشق الطرق وبناء القناطر وإقامة الأسوار حول المدن، فلا شك أن قدراً من أحباسها قد آل إلى الأحباس العمومية الواقعة تحت مسؤولية وزارات الأوقاف. إذاً لابد من تخصيص بعض أموال الأوقاف العمومية لإعادة مثل هذه المرافق، وهي خدمة تنموية واضحة، فضلاً عن كون إعادتها هو نوع من الوفاء للمحبسين ومقاصدهم وشروطهم.

وإذا ما أعيد فتح هذه المجالات الحبسية وبصفة رسمية، فإن المحبسين اليوم سيتجهون إليها ويسهمون فيها من جديد، كما أسهم فيها أسلافهم.

بل إن بعض المحبسين السابقين كانت لهم مبادرات رائدة في مجال خدمة التنمية الاقتصادية، مثل تحبيس أراض زراعية لفائدة الأيتام ليقوموا بزراعتها وأخذ غلتها، بحيث يعطى كل يتيم مقداراً معيناً من الأرض. ومثل هذا كان بفاس بالمغرب لفائدة الفقراء والمساكين3. ومنهم من كانوا يحبسون مقادير من الحبوب لاتخاذها بذوراً للفلاحين الذين لا يجدون بذوراً في موسم الزرع، ثم يعيدونها بعد الحصاد، ليستفيد منها غيرهم… وهكذا4. فبالرغم من أن الحبوب تعتبر من المواد الغذائية التي لا تصلح للوقف لكونها تفنى وتستهلك، فقد أوجد بعض المحبسين تلك الصيغة الذكية لتحبيسها وضمان استمرارها، ولو أنه استمرار مثلي، وليس استمراراً عينياً.

ومثل هذا يقال في تحبيس النقود، وتخصيصها للقروض المحضة أو لقروض للمضاربة. وتحبيس النقود على هاتين الصورتين، تولَّد من آراء بعض الفقهاء، كما وجد رضاءً لدى بعض المحبسين5. وقد أصبح تحبيس النقود اليوم ميسوراً وأكثر نفعاً وفاعلية، بفضل الخدمات المصرفية، ولتقدم الإمكانيات العلمية والتقنية للضبط والمحاسبة والمتابعة. وقد أصبحت اليوم بعض الهيئات الخيرية الوقفية -كما رأينا- تنشىء صندوقاً خاصاً للقروض. ولاشك أن هذه القروض تكون عرضة للتناقص مع مرور الوقت، ولكن هذا التناقص تعوضه -وقد تفوقه- تحبيسات نقدية يضيفها محبسون جدد، أو من خلال أرباح تدرها بعض تلك القروض التي تعطى بهدف المضاربة.

وكذلك تسهم المشاريع الحبسية في تحريك التنمية الاقتصادية، وذلك حينما يتم بناء مشروع كبير، أو قابل للنمو والاتساع شيئاً فشيئاً، كأن يبدأ مثلاً عبارة عن مدرسة أو مستشفى أو مسجد جامع، ثم تقوم حول المشروع الأصلي تجمعات سكنية ومرافق للخدمات ( فنادق) ودكاكين (سوق) محبسة على المشروع الأصلي، فهذه الصورة كثيراً ما وقعت وتكررت، بحيث يصبح المشروع الحبسي نواة وملتقى لمركز تجاري واسع وكبير، بل قد يكون نواة لمدينة من المدن.

وإلى هذه الأشكال المباشرة لإسهامات الوقف في التنمية الاقتصادية، وهي أشكال قابلة للتوسع والتنوع والتطور، يمكن أن نستحضر إسهامات أخرى غير مباشرة.

فالوقف التعليمي يسهم في إيجاد الإنسان الذي يصلح للتنمية ويدفع بها إلى الأمام. والدول اليوم تتقدم في التنمية الاقتصادية بقدر ما تتقدم في تعليم أبنائها وحسن تثقيفهم.

وكذلك الشأن في الوقف الصحي، فتوفير الخدمات الصحية، وتقليل المرضى والمعلولين في المجتمع، إنما هو خدمة غير مباشرة تنمي العنصر البشري الذي هو محرك التنمية وعمادها الأول.

وحركة الوقف تسهم في امتصاص اليد العاملة والتخفيف من البطالة، وذلك إسهام تنموي واضح.

وإذا كانت الدولة الحديثة قد أصبحت تتكفل بتلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية العمومية، من تعليم وصحة وبنيات أساس وتشغيل وإغاثة للمحتاجين في الظروف العادية وفي حالات الطوارئ والكوارث، وأصبحت تنشىء لذلك وزارات ومؤسسات رسمية لا حصر لها، وترصد لها ميزانيات ضخمة من الميزانية العامة للدولة، فإن الأوقاف حين تتولى إقامة هذه المرافق والمؤسسات وتقوم بتمويلها وتسييرها، فإنها تخفف من مسؤوليات الدولة وميزانيتها بنسبة كبيرة وقابلة للنمو أكثر فأكثر، و كلما كان هناك تشجيع ورعاية للوقف وللواقفين. وهكذا تتمكن الدولة من تخصيص إمكاناتها للمجالات التنموية التي تعرف خصاصاً وضعفاً.

نحو تطوير الوقف وتفعيل دوره

الوقف الإسلامي بمبادئه وأحكامه، وبدوره التاريخي الكبير، وبإسهاماته الضخمة في بناء المجتمع الإسلامي وترقيته وتقويته وتمدينه، يعتبر رصيداً دينيا وحضاريا هائلاً، يمكن الاعتماد عليه في تحسين أوضاع المسلمين اليوم، والإسهام الفعال في معركة التنمية والنهضة. ولكن ذلك يحتاج إلى عناية ورعاية وإلى تطوير وتمكين، لكي يأخذ الوقف مكانته ويستأنف رسالته على نحو أوسع وأنجع مما هو عليه الآن.

واجب العلماء والدعاة

يتمثّل واجب العلماء والدعاة أولاً في التوعية والتعبئة، ذلك أن معظم المسلمين، عامتهم وخاصتهم، فقراؤهم وأغنياؤهم، يجهلون إلى حد كبير -أو جهلاً تاماً- مكانة الوقف في الإسلام أو في النظام الاجتماعي الإسلامي، ويجهلون الأدوار الفعلية التي اضطلع بها الوقف عبر تاريخ الإسلام. وحتى الذين يعرفون شيئاً من ذلك، فإن معرفتهم في الغالب لا تتجاوز مجال بناء المساجد وما يتصل بها، ولا يعرفون أن الوقف يمكنه أن يواجه الجهل والأمية، والفقر والمجاعة، والمرض والإعاقة، وأن يسهم في التعليم الجامعي والبحث العلمي، وفي إقامة التجهيزات والبنيات الضرورية لتطوير المجتمع وتمدينه، خاصة في العالم القروي الذي مازال يعيش إلى حد كبير على هامش العصر.

إن واجب العلماء والدعاة والمفكرين الإسلاميين هو أن يعرّفوا المسلمين بهذا كله ويشرحوه لهم، وأن يدعوهم ويُعَبِّئوهم، خاصة أصحاب المسؤولية والأغنياء – نحو التجاوب والتفاعل والمبادرة والمساندة، وذلك عبر وسائل الإعلام، والمنابر العلمية والتعليمية، وعبر الخطب والدروس والمقالات والمؤلفات، والزيارات والاتصالات… إلخ.

كما أن من واجب العلماء والهيئات العلمية إنجاز مزيد من الدراسات والأبحاث العلمية حول الوقف ورسالته وأحكامه، وترويجها وتعميمها أكثر ما يمكن. كما أن حركة الوقف في عصرنا وظروفنا بحاجة إلى تنمية الاجتهاد الفقهي حول أحكام الوقف ونوازله وإشكالاته، حتى لا يبقى الحبس حبيس اجتهادات وشروط وأنماط عرضية توضع لزمانها ولظروفها ودواعيها الآنية. وفي هذا الصدد أود أن أنوه بوزارة الأوقاف الكويتية، على الندوات والأبحاث والإصدارات والمبادرات الفعلية السائرة في هذا الاتجاه، وكذلك مكتبة الشيخ علي بن عبد اللَّه آل ثاني الوقفية العالمية، بقطر، فقد أحدثت – ضمن خدماتها العلمية لحركة الوقف – جائزة سنوية، خصص موضوعها أكثر من مرة لقضايا الوقف المعاصرة، مثل: الوقف ودوره في التنمية، الوقف ودوره في حفظ البيئة… إلخ.

واجب الحكومات

إن الحكومات في العالم الإسلامي مدعوة إلى أن تأخذ مسألة الوقف بعناية وجدية، و ليس فقط باعتباره واقعاً موروثاً يجب الإشراف عليه وتسيير ما هو قائم منه على ما هو عليه، أومتابعة نضوبه وانكماش مجالاته وتقلص موارده. بل عليها اعتباره أمانة واجبة الرعاية والتطوير، واعتباره ركيزة أصيلة من ركائز التنمية والنهوض بالمجتمع.

ومن التدابير التي يجب على الحكومات اتخاذها في هذا الصدد:

1- الاشتراك والريادة فيما يقوم به العلماء والدعاة من تنظيم حملات التوعية والتعبئة، وخدمة الجانب العلمي للوقف.

2- اعتماد الشفافية التامة والصرامة الضرورية في تسيير الأموال والممتلكات الوقفية، وإشراك العلماء والنزهاء والمحبسين في تسييرها ومراقبتها. ومن المعلوم أن ما يصيب الأموال الحبسية من سوء تدبير، ومن تبذير واختلاس أو تفويت للحقوق، وما يحيط بعض جوانب الإشراف على الأوقاف من شكوك وشبهات، كل ذلك يؤدي بالناس إلى الإمساك والامتناع عن تحبيس أموالهم، خشية أن تؤول إلى شيء من هذا.

3- تيسير القوانين والتشريعات والإجراءات الإدارية للتحبيس، فإذا كان ذلك يطلب عادة لفائدة المستثمرين، وهم طلاب أرباح لأنفسهم قبل كل شيء، فإن الذين يتبرعون ويتخلون عن كريم أموالهم لفائدة أمتهم ومجتمعهم، يجب من باب أولى أن يلقوا كل تسهيل وتيسير، بل كل ترحيب وتشجيع وتكريم، بعيداً عن كل عرقلة أو مماطلة أو تعقيد.

4- السماح للمحبسين باعتماد الطريقة التي يختارونها لإدارة أحباسهم والتصرف فيها. ومما لا خلاف فيه بين الفقهاء، أنه يجوز للمحبس أن يبقى مشرفاً ومسيِّراً بنفسه لحبسه. كما من حقه أن يوكل على ذلك من شاء من الناس، سواء في حياته أو بعد مماته. فمن سلم حبسه للدولة فذاك، ومن أبقاه تحت إشرافه أو عين له ناظراً فله ذلك. وهذا يشجع المحبسين ويكثرهم، لأنه يسمح لهم بأن يختاروا الطريقة والجهة المكلفة بحبسهم بما يحقق رضاهم وطمأنينتهم.

نعم، إن للدولة الحق في مراقبة الأحباس الخاصة والقيّمين عليها من وكلاء ونظار ومستخدمين، لكن عليها أن تيسّر الإشراف الخاص على الأحباس، إذا اختار أصحابها ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

* الوقف الإسلامي؛ مجالاته وأبعاده.

1- قدمت الدراسة ضمن، أبحاث ندوة ”نحو دور تنموي للوقف” نظمتها وزارة الأوقاف الكويتية، بتاريخ: 1-3 مايو 1993.

2- الأحباس الإسلامية في المملكة المغربية، (ص:29-22).

3- الوقف في الفكر الإسلامي، (1/132-133).

4- المعيار المعرب، للونشريسي، (7/120).

5- أنظر الوقف في الفكر الإسلامي، (1/134-135). المعيار المعرب، (7/44). الوقف ودوره في التنمية، لعبد الستار الهيتي ط. وزارة الأوقاف القطرية، (ص:37).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M