عندما يصبح الإعلام أداة هدم

18 مارس 2015 13:53
عندما يصبح الإعلام أداة هدم

عندما يصبح الإعلام أداة هدم

د. رشيد نافع

هوية بريس – الأربعاء 18 مارس 2015

فكم ترى من مكرٍ كبار، في الليل والنهار، سعيًا في وأد عفاف أهل الإسلام، عبر إشاعة الفواحش، وتيسير سبلها، وإغلاق منافذ الحلال أو تضييقه، وتلميع سير هاتكيها، والتهكم برموز العفاف، كم ترى في مجتمعات الإسلام من سعي حثيث لإشاعة الفحشاء، عبر صور عديدة، وفي مجالاتٍ كثيرة، حكى الله وكشف حقيقة أهلها فقال: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا) [النساء:27].

إن من إشاعة الفاحشة ما تفعله بعض المنابر الإعلامية والمجلات والجرائد الإلكترونية، التي تخصصت بنشر أخبار الجرائم وهذا لا شك أنه من إشاعة الفاحشة وإن كانت حقاً، فكيف وهذه تقتات على الأكاذيب في عامة أحوالها

إن بعض وسائل إعلامنا التي نرجو منها ولها كل خير قد حَادَت عن منهاج الإسلام في التعامل مع الجريمة والمجرمين (هبة بريس نموذجا)، إذ تقدِّم للجمهور أخبار الجرائم من قتلٍ وزنًا وسرقَةٍ ما يسيء إلى سمعة وطننا ويشوه أخلاقياته ومبادئه وقيمه وثوابته بحجة معالجة هذه السلبيات، والحق أنهم يزيدونها ألمًا وجراحًا.

فانتشرت الصحف والبرامج المرئية التي تُعنى بأخبار الجرائم والحوادث وزاد من حجم هذه المأساة قبول شريحة من الناس لهذه النوعية من الأخبار وتهافتهم عليها.

وأيضًا وجود الفضائيَّات (الفضائحيَّات) التي تطرق أبواب الجنس، وتعزف على أوتار الغرائز والرذائل، وإشعال نار الفتنة في قلوب الشباب والشيوخ على حد سواء.

إنَّ للإسلامِ منهجًا يختلف عما يحدث اليوم في دنيا الناس من السخرية والتشهير بالعُصَاةِ عبر صفحات وسائل الإعلام المختلفة، فهو يحافظ على كرامة الإنسان وإن كان عاصيًا، بهدف البقاء عليه كفرد يمكن علاجه، أو على أقل تقدير لا يكون سببًا في انحرافه، فقد كان النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم يستر على مرتكب الجريمة؛ لعله أن يتوب بينه وبين نفسه أو يعود إلى ربِّه، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: أُتِيَ النَّبِـيّ صلى الله عليه وسلم بِسَكْرَانَ فَأَمَرَ بِضَرْبِهِ، فَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِيَدِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِنَعْلِهِ، وَمِنَّا مَنْ يَضْرِبُهُ بِثَوْبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ رَجُلٌ: مَا لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تَكُونُوا عَوْنَ الشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ» رواه البخاري.

فما يحدث لكثير من العصاة والمجرمين في هذه الأزمان، أنه يحس أن المجتمع يقف مع الشيطان مناوئًا له في كل شيء، لا يعطه الفرصة، ليثبت توبته وعودته إلى طريق الحق وسلوكه سبيل المؤمنين.

فما يكون من هذا الموقف العدائي الشائن من المجتمع -بسبب ما أخذه من جرعات إعلامية على طريقة هبة بريس- إلا أن يتحول هذا العاصي إلى مجرم حقيقي يتلذذ بالمعاصي بل ويكون معلمًا لغيره، حتى لا يكون وحده في هذا المستنقع، فبذا يسود الشر في قطاع كبير من المجتمع!

ولعلَّ في هذا وغيره كثير من الحِكم الرَّبَّانيَّة التي جعلت الشريعة بمنْأًى عن السخرية أو التشهير بالعصاة.

فالإسلام أمر بالستر على الأعراض، حتى لا تشيع الفاحشة بين المجتمع لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ؛ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ» صحيح الترغيب والترهيب.

أمّا من عُرِفَ بالأذى والفساد والمجاهرة بالفسق وعدم المبالاة بما يرتكب، ولا يكترث لما يقال عنه فيندب كشف حاله للنّاس وإشاعة أمره بينهم حتّى يتوقَّوْهُ ويحذرُوا شرَّهُ.

وقد تعرض هذه الوسائل لقطات من خلالها تبث المناظر الخليعة، واللقطات التي يخجل الحياء من وصفها.

 فما أقدمت عليه هذه الوسائل الإعلامية يُعَدُّ مخالفةً صريحةً لمنهاج الإسلام في التعامل مع الجرائم والمجرمين وَكسبًا للمال وجمعًا للحرام وأكل أموال الناس بالباطل، وتقليدًا أعمى للغرب المنهك في جرائمه، والتشدق بحرية الرأي! ألاَ فليتَّقِ اللهَ القائمون على هذه الوسائل؛ وليكونوا إخوانًا لنا صادقين ومواطنين صالحين ومصلحين.

هذا وتوجد آثار سلبية تنشأ عن نشر الجرائم بشكلها الراهن على المجتمع، منها:

إن نشر الجريمة على هذا النحو المعروف يُجرِّئُ السُّفَهاء في المجتمع على ارتكاب تلك الجرائم التي يقرؤونها أو يشاهدونها عَبْرَ وسائل الإعلام المختلفة، وقد يُعدّلون في بعض الخطط والوسائل، وبذا يتحولون إلى مجرمين حقيقيين، وتزداد رقعة الجريمة ولا تنكمش ويتسع الخرق على الراقع كما هو الحال الآن.

وأيضا عندما تطالعنا بعض المواقع ووسائل الإعلام بالجرائم وأخبارها ليل نهار فإنه يقَلُّ وقعها على قلوب الناس وتذهب هيبتها من ضمائرهم، ويصبحوا لا يعبأون بها، حتى لو قيل: إنَّ فُلانًا قتل عشرة أشخاص، قال الناس: لا جديد، أو قيل: إن فلانًا زنا، قال الناس: لا يهم.. أو قيل إن جماعة سطوا على مؤسسة مالية وسرقوا ما فيها، قال الناس: “صافي هادشي ولفناه”.

وهكذا لم يَعُدْ يكترث الناس بهذه الأخبار ولا ثمَّ تأثر في قلوبهم.

وقد وَبَّخَ اللهُ تعالى بني إسرائيل، لقسوة قلوبهم بعد أن رأوا الآيات البينات على حقيقة وجوده وقيوميته وصدق رسله، ومعلوم أنَّ الاطلاع على الآيات البينات ترقق القلب، فقال تعالى مُوَبِّخًا إيَّاهم: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].

كما أنه إذا اعتاد الناس أن يروا الجرائم ليل نهار فسوف يتكون في أذهانهم مفاهيم خاطئة عن المجتمع وأهله فيتخيل الواحد منهم أنَّ المجتمع كله أشرارٌ مجرمون آثمون، ويردد العبارة التي طالما سمعناها في هذه الأيام وهي: (ما بقى في الدنيا خير)، و(الله يرحم ناس زمان)، وتكون أقواله وأفعاله وتصرفاته حسب ما تكوَّن لديه من أفكار ومفاهيم خاطئة، بل قد يقع في تلك الرذائل، من رشوة وقذف المحصنات.. الخ.

وهكذا الذين يعتادون مشاهدة بعض المقاطع وقراءة الصحف ومطالعة أخبار الحوادث والجرائم تتكون لديهم صورة باهتة سوداء عن المجتمع إلا من رحم ربك، فعندما يرون الناس يمشون في الشوارع يقولون في أنفسهم: إنهم جميعًا لصوص أو إنهم جميعًا زُنَاة، ولا يثقون في تعاملهم معهم، ومهما أوتي الدعاة من قوة البيان وسحر اللسان وعذوبة القلم؛ فإنهم لا يستطيعون زحزحتهم عن مواقفهم وإقناعهم بأن الذين ارتكبوا الجرائم وعُرضوا في الجرائد والمجلات أو شاهدوهم عبر وسائل الإعلام المرئية ما هم إلا شواذ المجتمع، مع هذا كله لا تجدي النصيحة، ولا ينفع الدواء بعد أن تمكن الداء وبعد أن تجرعوا من وسائل الإعلام السُّمَّ الزعاف الذي لا يستطيع المعالجون علاجه!

وقد كان منهاج النبي صلى الله عليه وسلم يخالف تمامًا منهاج وسائل إعلامنا فكان صلى الله عليه وسلم يحرص على تعليم الصحابة الخير ونشره فيهم، ويزهدهم عن نشر أخبار الفساد؛ حتى لا يتأثروا بها، أو تميل قلوبهم إليها، فكانت حياته صلى الله عليه وسلم مع الصحابة في خير دائم، يخرجون من طاعة إلى طاعة، ومن معروف إلى معروف؛ فعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم :«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ أَنَا، قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ: أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ» رواه مسلم.

فلم يكن صلى الله عليه وسلم يتوانى عن صحبه الكرام في نصحهم ودفعهم للخير دفعًا، وحثهم على بذل الطاعة التي تبعدهم عن المعاصي، بل وعن ذكرها أو تخيلها، وإن كان ها هنا مقال لأهل الإعلام فنقول لهم: هلا أعلنتم في صحافتكم ومواقعكم وقلتم: من أصبح متبرعًا لمستشفى؟ من أصبح منفقًا على دور الأيتام؟ من أصبح منفقًا على إخوانه الضعفاء؟ من كذا..؟ من كذا…؟! من نشر أخبار الخير التي تعم البلاد والعباد، وأن تقصروا عن أخبار الفساد التي تلقى قبولاً يومًا بعد يوم من الجماهير الغافلة عن شريعة الله!

وكان النَّـبِيّ صلى الله عليه وسلم عندما يغضب من فعل شخص أو لا يعجبه قوله، ويخاف أن ينتشر هذا القول أو الفعل في المجتمع المسلم كان صلى الله عليه وسلم يصعد المنبر (أداة الإعلام) ويخطب، ويقول: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا…».

إن هذا ليس من منهجنا ولا على طريقتنا، ولا يذكر اسم الفاعل،حتى لا يُشعره بحرج أو يجعله مَسَارَ تندُّرٍ للمجتمع، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا بَلَغَهُ عَنْ الرَّجُلِ الشَّيْءُ لَمْ يَقُلْ: مَا بَالُ فُلَانٍ يَقُولُ؛ وَلَكِنْ يَقُولُ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا؟!) صحيح الجامع.

وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يعالج الانحرافات التي تطرأ أو السلبيات التي تظهر في حنَايَا المجتمع بأسلوب بديع ينُمُّ عن عقلية واعية محافظة على الآداب العامة للمجتمع، من هذا يتضح أنَّ ما يفعله بعض من يشرف على صفحات ومواقع إلكترونية من شرح الجرائم على منبرهم شرحًا مفصَّلاً كما يفعله بعض الذين يسيئون لسمعة بلدنا المغرب الحبيب ليس من دين الإسلام في شيء، بل هو نشر للجريمة في عقول طائفة من المجتمع، تتلذذ بسماع مثل هذه الأخبار، ولو أنهم فعلوا مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: هناك بعض الناس يفعلون كذا وكذا، ويُعرِّضون ولا يصرحون ويجملون، ولا يفصلون لكان خيرًا لهم وللإسلام والمسلمين.

والمطلوب الإقلاع فورًا عن قراءة أو مشاهدة أخبار الجرائم لما لها من تأثير سلبي هدام لأخلاق الفرد والجماعة، والبحث عن أخبار الخير والبناء والتعمير في المجتمع المسلم لِمَا لها من تأثير إيجابي في نفس المسلم، وبالتالي على المجتمع.

اللهم احفظ بلدنا المغرب من كيد الكائدين ومكر الماكرين وعبث العابثين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M