الجعد والقسري.. وأمور أخرى

19 مايو 2015 19:59
الجعد والقسري.. وأمور أخرى

الجعد والقسري.. وأمور أخرى

د. البشير عصام

هوية بريس – الثلاثاء 19 ماي 2015

بسم الله الرحمن الرحيم؛ الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه.

كأن القارئ يسأل بعد قراءة هذا العنوان: ما لنا وللجعد والقسري؟ بل: مَن ذاك الجعد؟ ومن هذا القسري؟ وما الغاية المرجوة من بحث مثل هذه القصص التاريخية البائدة؟

وجوابي لك أيها القارئ العزيز: أن تحرير المسائل العلمية لا يعترف بتباعد الزمان حاكما، ولا بتباين المكان مؤثرا!

وما ذنبي: إذا كان ماضينا يعيش في حاضرنا، برّاق الوميض، راسخ الجذور؟ بل ما ذنبي: إذا كان بعضنا يأبى أن يثبت حكما عصريا مخالفا للمستقر المعهود، دون أن يبحث له عن أصل في تاريخنا، ولو أن يكون متكلفا متعسفا؟!

ملخص القضية: أن خالدا القسري كان عاملا لبني أمية على العراق، وأنه قبض على الجعد بن درهم، وقتَله بواسط -في قصة مشهورة- يوم عيد الأضحى، وقال قبل قتله -فيما ينقل أهل التاريخ-: “يا أيها الناس ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم. إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا”.

واشتهرت القصة، وأثنى الناس على صنيع خالد، مع معرفتهم بحاله.

ومرت القرون على ذلك، إلى أن جاء في عصرنا من يبني على هذه القصة أصولا، ويركب منها مقولات فكرية مستحدثة. وملخصها هذه الدعوى:

“لم يقتل القسريُّ الجعدَ إلا لسبب سياسي،

والقسري ظالم فاجر،

والجعد ثائر ومصلح سياسي،

وابن تيمية أساء بثنائه على القسري،

وينبغي إلغاء عقوبة الإعدام سدا لذريعة الإعدام السياسي كالذي كان من القسري على الجعد”.

فما قصة هذه الدعوى؟ وما توجيهها الفكري والشرعي؟

مقدمات ممهدات:

هنا ثلاث مقدمات بين يدي المقصود:

المقدمة الأولى: التأصيل الفكري للدعوى

تندرج هذه الدعوى ضمن مقولة صارت شائعة في الفكر العربي المعاصر، وهي المبالغة في التفسير السياسي للقضايا والنزاعات العقدية التي عرفها تاريخ الأمة.

وهكذا شاع في الكتابات العصرية تسييس كل شيء تقريبا، بدءا من طرق الاستدلال وافتراق الناس حولها، وانتهاء بالنتائج العقدية الكبرى في أبواب القدر والصفات والإيمان، وفي مسألة خلق القرآن، وأصول علم الكلام عموما.

وإذا كنتُ لا أنكر الأثر السياسي في بعض الاختلافات التاريخية، فإن الغلو في التسييس، ينمّ عن عجز عميق عن تفهم الدوافع العقدية والإيمانية المتجاوِزة للمادة، والتي تبعث البشر عموما وأهل الإسلام خصوصا على تبني تصورات معينة، وبناء تصرفات وولاءات عليها، بقطع النظر عن الدوافع المادية الخالصة، المتضمَّنة في الفعل السياسي من سلطة وجاه ومال ونحو ذلك.

المقدمة الثانية: لا جديد!

هذه الدعوى التي تخرج بين الفينة والأخرى تفتقر -للأسف- إلى الحد الأدنى من الإبداع والتجديد في إنتاج المقولات الفكرية!

أما أصل دعوی التسييس للقضايا العقدية، فأنتجها المستشرقون وأطالوا فيها (وليراجع كتابان نافعان في هذا الباب، هما: “التأويل الحداثي للتراث” لإبراهيم السكران، و”التفسير السياسي للقضايا العقدية في الفكر العربي” لسلطان العميري).

وفي خصوص مسألتنا، تكلم في القضية: علي سامي النشار في ”نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام”، ومحمد علي الجابري في “العقل السياسي العربي”.

وأما جمال الدين القاسمي فقد حام في كتابه ”تاريخ الجهمية والمعتزلة” حول هذا المعنى، ولكنه لما كان بصدد التأريخ لا إنتاج الأفكار، فإنه اكتفى في الفصلين المعدّين للجعد والقسري بقولة واحدة يتيمة، هي قوله (ص 38): “.. ومنهم من رأى أن قتله كان لأمر سياسي إلا أنه موّه باسم الدين إقناعا للعامة بقتله”. وهذا كما ترى كلام مرسل، لا دليل عليه.

المقدمة الثالثة: في منهج نقد الروايات

لا يشك عارف بعلوم الشريعة، أن التعامل مع الروايات التاريخية (وروايات السيرة) ليس مثل التعامل مع الأحاديث المرفوعة والموقوفة، لما ينبني على ثبوت هذه من استنباط للأحكام الشرعية، بخلاف تلك. وقد كانت رسالتي لشهادة الدراسات العليا المعمقة (الماجستير) حول هذا الموضوع، وذكرتُ فيه مما ذكرت بحثا عن الواقدي وابن إسحق.

فليس هذا جديدا عليّ، ولا هو مِما أنكره.

ولكن، عدم التشديد في أسانيد الروايات التاريخية لا يعني عند أحد من العلماء، أن قبولها أو ردها يكون بمحض التشهي، وبأسلوب “أنتقي ما يلائمني، وأرد ما يشوّش على تصوراتي المسبقة”. وإنما هو منهج واحد مطّرد، وإلا كان منهجا مخالفا لأصول البحث العلمي.

وفي خصوص روايتنا هذه، فإنني أقرر ابتداء أنها لا تصح من جهة الإسناد. ولكنني مستعد لأن أقبلها لشهرتها بين العلماء، ولكن بشرط ألا أجتزئ منها ما يعجبني وأترك غيره. وسيأتي بيان الأمر إن شاء الله تعالى.

تهافت الدعوى:

عجبت لدعوى لا يقيم عليها صاحبها دليلا واحدا!

وغياب الدليل كاف في إبطالها، إذ المتقرر -شرعا وعقلا- أن البينة على المدّعي!

ولكنني مع ذلك سأتبرع بذكر أوجه استدلالية تنقض الدعوى، وتبين تهافتها.

الوجه الأول:

فرضنا أن الجعد قُتل لسبب سياسي. فأول ما يخطر بالبال: ما هذا السبب السياسي المزعوم؟

عند البحث في الروايات التاريخية، لن تجد ذكرا لسبب سياسي يصلح لتفسير هذا القتل!

وتسأل أصحاب الدعوى، فلا تخرج من سؤالهم بما ينقع غلتك!

فأما الشيخ القاسمي -رحمه الله- فقد سبق النقل عنه، وأنه دعوى مرسلة، منقولة عن قوم مجهولين.

وأما النشار فقال (1/331): “لا نستطيع أن نصدق أن قتله كان لآرائه الفكرية، بل يبدو أنه لسبب سياسي”. وهذا كما ترى يكفي في ردّه أن يقال: “وأنا أستطيع أن أصدق ذلك”، فتكون دعوى بدعوى! وما هكذا يكون تقرير مسائل العلم!

وأما الجابري فأثبت السبب فقال (318): “كان الجعد بن درهم من المعارضين البارزين، وقد انضم إلى يزيد بن المهلب الذي ثار على يزيد بن عبد الملك بن مروان بالعراق”. وأحال على الطبري، “ولكن الطبري لم يذكر الجعد في تلك الفتنة، ولم يرد له أي ذكر فيها!”.

(يراجع كتاب سلطان العميري في النقل عن النشار والجابري وفي نفي ورود ذلك عند الطبري).

ويتأكد نفي هذا السبب بـ:

الوجه الثاني:

وهو أن الجعد كان -فيما يقال- داعية للجبر والإرجاء، مثل تلميذه الجهم. فإن صح هذا، فكيف يقتل بنو أمية من يدعو لهاتين البدعتين، والحال أنهما تثبتان ملكهم، حتى قال النضر بن شميل عن الإرجاء: “ذاك دين يعجب الملوك”؟!

(وقد حاول الجابري أن يفسر جبر الجهم وإرجاءه بما يثبت له قولته، لكنه لم يأتِ بمقنع. وتفصيل ذلك في كتاب العميري).

ويزيد الأمر تأكيدا:

الوجه الثالث:

وهو أن الجعد كان مؤدبا لمروان بن محمد الأموي، الملقب بالحمار، حتى صار يقال له: “مروان الجعدي”. والملوك لا يختارون لتأديب أولادهم إلا المقربين منهم. فدلّ هذا على أن الجعد لم يكن ثائرا، ولا مصلحا سياسيا، كما يتوهم أصحاب الدعوى. وإنما كان مقربا من الملوك، أظهر مقالة كفرية فقتلوه.

هذا هو التفسير الأقرب والأصوب، ولا يمكن -علميا- الانتقال عنه (بأن يقال مثلا: كان مقربا منهم ثم ثار عليهم) إلا بدليل معتبر. وذاك شيء لا يوجد!!

الوجه الرابع:

إذا أثبتنا الرواية التاريخية للقصة، فلِم لا نأخذها كاملة، ولا نقتصر على ذكر القتل؟ وقد قررنا في المقدمة الثالثة خطورة الانتقاء من الروايات بحسب المراد إثباته.

وإذا أثبتنا الرواية طالعَنا فيها قولُ المؤرخين: “إن الجعد بن درهم أظهر مقالته بخلق القرآن أيام هشام بن عبد الملك، فأخذه هشام وأرسله إلى خالد القسري وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فحبسه خالد ولم يقتله، فبلغ الخبر هشاما، فكتب إلى خالد يلومه وعزم عليه أن يقتله..”.

وفيها قول القسري: “فإني مضح بالجعد بن درهم. إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا”.

فهذه الروايات صريحة في سبب القتل، ولا ذكر فيها لخروج مسلح ولا لسبب سياسي آخر.

فإن قيل: ألا يمكن أن يكذب القسري فيدعي سببا، والسبب الحقيقي غيرُه؟

فالجواب:

أولا: العلم لا يقوم على الاحتمالات العقلية المجردة عن البراهين.

وثانيا: أن الكذب لم يكن شائعا في سياسيي ذلك العصر، خلافا لما عليه الحال اليوم. وكان شرفاء العرب وأهل الهيئات منهم يكرهون الكذب قبل الإسلام، ومن باب أحرى: بعده؟ ولتُستحضر قصة أبي سفيان مع هرقل، في صحيح البخاري. ويؤكده أنه قيل لسيار بن الحكم: أتروي عن مثل خالد (القسري)؟ فقال: “إنه أشرف من أن يكذب”. وهذا معنى صحيح معروف.

وثالثا: ما الذي يخشاه القسري وهو الأمير الممكّن من قتل الجعد بن درهم، حتى يحتاج للتمويه والكذب؟

أكان الجعد من الشرفاء الطامعين في الخلافة؟

كلا! بل كان من الموالي، أصله من خراسان، أسلم أبوه وصار من موالي بني مروان!

أكان وراءه جيش يغضب لقتله؟

كلا! بل كان رجلا وحيدا، مؤدِّبا وداعية إلى بدعة جديدة، أتباعُها قلة قليلة في ذلك الزمان!

ويؤكد هذا:

رابعا: أن أمراء بني أمية -والملوك عامة- لم يكونوا يتحرجون من الإعلان عن قتل الخارج عليهم، لأنه خارج عليهم. وهكذا كانوا يقتلون أسرى الخوارج صبرا، لأنهم خرجوا على طاعة الأمراء. وهذا الحجاج قتل سعيد بن جبير -رحمه الله- لأنه خرج في فتنة ابن الأشعث، ولم يحتج الحجاج أن يدّعي على سعيد سببا آخر لقتله، غير خروجه.

الوجه الخامس:

لنفترض تنزلا أن القسري كان ظالما فاجرا -كما يقول أصحاب الدعوى نقلا عن كتب التاريخ والأدب-، ما الذي يمنع أن يقتل هذا الظالمُ مبتدعا يخالف دينَ الأمة في العلم أو العمل، لا لشيء إلا لبدعته وضلاله؟

وليعتبر القارئ بظَلَمة هذا الزمان: هل كل من يقتلونه لا يكون قتله إلا لسبب سياسي، أم يمكن أن يقتل الظالمُ: مرتدّا لردّته، أو قاتلا متسلسلا لإجرامه، أو ما أشبه ذلك؟

الجواب واضح!

فلِم هذا التكلف، لولا هيمنة فكرة التفسير السياسي على العقول؟

عن عقوبة الإعدام:

إنكار عقوبة الإعدام -مع ثبوتها في القرآن والسنة والإجماع- خطأ بيّن، لا يشك فيه.

لكن الطريف في الأمر: طريقة الاستدلال عليه!

فقول القائل: “علينا أن نقف عقوبة الإعدام، سدا لذريعة الإعدام السياسي، الذي وقع في تاريخ الأمة ولا يزال يقع اليوم”، قول متهافت، يكفي في نقضه أن طردَه يؤدي إلى إلغاء العقوبات جميعها!

فسجن المظلوم عشرين سنة لسبب سياسي محض: موجود في واقع اليوم.

فهل نلغي عقوبة الحبس مطلقا، لسد ذريعة الحبس السياسي؟!

فإن قيل: القتل ليس كالسجن، فإنه لا يمكن الرجوع إلى الوراء في الإعدام (Action irréversible)!

فالجواب: وهل يمكن الرجوع إلى الوراء في غيره من العقوبات. هنالك أقوام كثيرون يفضّلون الموت على أن يعيشوا سنوات بل عقودا في السجن! وكيف يمكن إرجاع السنوات الضائعة وراء القضبان؟!

وأقول باختصار: الخطأ المحتمل في التطبيق لا ينبغي أن يكون سببا لإلغاء العمل من أصله، وإنما يكون دافعا لتصحيح التطبيق، ووضع الضمانات العاصمة من الانحراف.

(ولعلي أكتب مقالا خاصا بعقوبة الإعدام يجيب عن هذه الشبهات المثارة).

عن ابن تيمية والقسري:

أما خالد بن عبد الله القسري فقد ذكره أهل الحديث في كتبهم، وجمعوا ما له وما عليه، بمنهج الإنصاف، وميزان العدل.

وملخص ذلك، ما قاله فيه الذهبي: “كان جوادا، ممدحا، معظما، عالي الرتبة، من نبلاء الرجال، لكنه فيه نصب معروف”.

ولأجل نصبه، قال عبدالله بن أحمد: سمعت يحيى بن معين قال: “خالد بن عبدالله القسري كان واليا لبني أمية وكان رجل سوء وكان يقع في علي بن أبي طالب رضي الله عنه”.

ومن أراد الازدياد فليراجع سير النبلاء، وتهذيب التهذيب.

وقد حُمل عليه -مثل عامة الأمراء والملوك- الكثيرُ من الأخبار في كتب الأدب والتاريخ، كالأغاني وتاريخ الطبري وغيرهما. ولكن تحقيق ما صحّ من ذلك وما لم يصح عسير جدا، والركون إلى مرويات مصنفات الأدب والتاريخ في مثل هذه المضايق: استسهال للعلم. ومن تقحّم هذا الباب بطعن أو تزكية، دون حجة نيّرة، فهو قليل الورع!

إذا عُلم هذا، فإنني لم أقف لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ثناء مطلق على خالد القسري، ولكن وجدته يثني على قتله الجعدَ، وينقل ذلك عن أئمة التابعين.

فمن ذلك قوله: “وكان ذلك في زمن التابعين،  فشكروا ذلك”، وقوله: “فضحى بالجعد خالد بن عبد الله القسري بواسط على عهد علماء التابعين وغيرهم من علماء المسلمين وهم بقايا التابعين في وقته: مثل الحسن البصري وغيره الذين حمدوه على ما فعل وشكروا ذلك”.

فابن تيمية يثني على هذا الفعل المخصوص، لا على أفعال الرجل جميعها. ثم إنه لم يتفرد بهذا الثناء بل حين قتل خالدٌ الجعدَ -وكان ذلك زمن التابعين- لم ينكر أحد، بل حمِدوا ذلك وشكروه، كما حمده العلماء من بعدهم، مع أنهم أنكروا ما رأوه ظلما مثل قتل سعيد بن جبير -رحمه الله- ولو أن يكون الإنكار خفية! أما الجعد فالعلماء كلهم فرحوا لمقتله، وشكروا قاتله.

والله الهادي إلى سواء السبيل.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M