زوجة معتقل.. هموم ومآسي وآهات

02 أكتوبر 2013 22:55

خنساء سلاوي

هوية بريس – الأربعاء 02 أكتوبر 2013م

هذا ما يحكيه لسان حال كل زوجة ابتليت بسجن زوجها:

ابتسامتك الجميلة، نظراتك الحنونة، كلماتك العذبة، حضنك الدافئ صارت ذكرى لي أنا وصغاري، تزيدنا ألما وحرقة، ارتسمت صورتك في أعيننا، لم نعد نرى غيرك، ولا يسمع في البيت غير اسمك، ولا نفتر من ذكرك.

كلما حاولت أن أشغل الصغار عنك، عاد طيفك يجول بيننا، فكل جدار في البيت يذكرنا بك، وكل زاوية تحكي أياما من ماضينا، كلما فتحت دولابنا هبت نسائم عطرك الزكي، فتجدد في قلبي شوقي إليك، والتهب جرحي من جديد، فبكيت خفية بعيدا عن أنظار صغارنا..

أفر إلى السجادة أصلي ركعتين، فما إن أكبر حتى أتذكر إمامتك بنا، وكيف كانت تلاوتك تزيدنا خشوعا وسكينة. أفتح المصحف، فأتذكر تلك اليدين التي كانت تحمله وتلك الأعين التي كانت تدمع عند تلاوته. أقوم للفجر على المنبه، أوقظ أبناءنا للصلاة، وأتذكر أيام كنت توقظنا وتأخذهم معك للمسجد وتربيهم على الصلاة ومبادئ الدين، أوقظهم  كل صباح وأتمنى أن ليتني لم أفعل، كل يوم يكررون نفس السؤال وأتلعثم في الإجابة أو أنسيهم الموضوع، يسألونني: “هل عاد أبي؟”، فقد كان آخر أمل علقوه قبل نومهم أنك ستعود ذات صباح وتحمل معك الهدايا والحلويات كما يعود كل الآباء بعد غياب طويل.

أمضي للمطبخ أعد وجبة الفطور، وأنظر إلى أبنائي وهم يتسابقون للشرب من فنجانك المفضل، أما أنا فقد تعودت أن أتجرع مرارة البعد عنك، نسد رمقنا بشيء من الطعام، ولا أدري كيف تقاسي الجوع والظلام، قد تعودت على إطعام صغارنا كل يوم معاني الصبر والوفاء، وأن أسقيهم من ماء الرضا واليقين ثم أنير لهم يومهم بمزيد من الأمل.

يقاسون اليتم وأنت على قيد الحياة، يفتقدون قبلاتك الحارة قبل ذهابهم للمدرسة ويفتقدون حضنك عند عودتهم، كانوا ينتظرون رجوعك من العمل كل مساء ويعدون الدقائق وهم خلف الباب، ها هم ينتظرون عودتك طوال أيام، ويعدون الأشهر والسنين.

أخرج من بيتنا الصغير بحثا عن لقمة عيش، وأتعفف عن ما يقدمه الأقارب والجيران والمحسنون من مساعدات، لقد كنت تلبي لنا كل الحاجيات وما كنت في حاجة للخروج للعمل، لكني صرت الآن عاجزة أن أوفر لك أبسط الأشياء عند زيارتك.

 كنت توفر المال  لتمتعنا بأجمل الخرجات والرحلات أثناء العطلة، لكني صرت الآن أوفر بعض الدراهم للتنقل إليك. كنت تكلفني بإخراج بعض الصدقات للفقراء، لكني صرت الآن من زمرتهم، لم أتوقع يوما أن اليد المعطاءة ستمد لها الصدقات، ولا كنت أتوقع يوما أني سأعيش على دراهم معدودة أنا وأطفالي..

أعود مساء، ببعض الطعام البسيط لأسد به رمق أبنائي، ويعصرون قلبي حينما يبكون لأني لم أحضر لهم ما كنت تشتريه لهم من قبل، من حلويات وشوكولاطة! ويا فرحتهم حين أحضر لهم ياغورت، يتقاسمونه والسعيد منهم من نال غطاء الياغورت يلعقه! لم أعد أستطيع أن أشتري لهم كل يوم حليبا، فقدت شحبت وجوههم الصغيرة بشرب الشاي الذي لم أسدد بعد ثمنه ولا ثمن السكر للبقال. زملاؤهم ينعمون بلذيذ المثلجات، بينما أخجل حينما أتذكر أن لم يعد في بيتي ماء بارد منذ غادرتنا، فقد بعت الثلاجة، لأشتري لهم بثمنها كتبا مدرسية، وحمدا لله أني قد بعتها فقدت أرهقتني أيضا فاتورة الكهرباء..

أعود مساء مرهقة، لأنظف البيت وأغسل الثياب ثم أعد طعام العشاء، ويناديني بين الفينة والأخرى أبنائي لأعينهم على واجباتهم المدرسية، فما أجد من حيلة تجعلني أوازي بين عملي وأشغال البيت والعناية بهم، لقد كنت تهتم بهم عندما أكون منهمكة في أشغال البيت وكنت تهتم بدروسهم وتنتبه لهم. ها هم الآن يهملون دراستهم ويخرجون للشارع للعب الكرة، فمهما حرصتُ على تربيتهم فلن تكون لي هيبة، كهيبتك وصرامة كصرامتك.

أنظر إلى صغارنا وقد نحفت أجسادهم المستورة بثياب مرقعة، وأنظر إلى أرجلهم التي لم تعد أحذيتهم تتسع لها، فمنذ أن كسوتَهم في آخر عيد لك معنا، لم ينعموا بثياب جديدة. صرت أستحيي من نظرات المدرسين لأبنائي، ومن سخرية زملائهم، ويشتد ألمي كلما شكوا لي ذلك، فإلى الله المشتكى.

كلما حل شهر غشت أوفر شيئا من المال على حساب جوعهم، لأسدد به أثمنة الكتب البالية مطلع شتنبر، وغالبا ما أفاجأ أنه رغم كل ما وفرت لا يمكنني سداد أثمنة العشرات من الدفاتر والأغلفة. زملاؤهم قد اقتنى لهم آباؤهم محفظات ووزرات جديدة، ويتفاخرون بها بينهم، بينما أطفالي ظلوا بنفس المحفظات البالية والوزرات المرقعة.

يحل الخريف، ويحل معه مزيد من البؤس، نحتاج إلى ماء دافئ طوال الوقت، إلا أني لا أستطيع سداد ثمن قارورة الغاز..

يحتاج صغاري إلى معاطف ومظلات، لكني أكتفي بإعطائهم بلاستيك يحفظون به حقائبهم من المطر، حتى لا تتبتل دفاترهم؛ يعودون إليّ مساء بأحذية ممزقة قد تسرب إليها الماء، فأرسلهم صباحا بنعال من البلاستيك ريثما تجف أحذيتهم فأصلحها باللصاق.

يحل العيد، وقد اشترى كل الآباء لأبنائهم ثيابا وأحذية جديدة، إلا أن أبنائي قد حلت عليهم أحزان جديدة، يقاسون الحرمان والفقر في صمت، فعيد الفطر كالأضحى والعيد كغيره عندهم من الأيام، إلا أنه يعود بآلام لطالما حاولوا تناسيها، فبدلا من أن يجدد الفرحة في قلوبهم، إلا أنه يجدد الحزن في أعماقهم. عيد الأضحى أشد عليهم من الفطر، ففي كل بيت خروف وفي بيتهم دجاجة، ولا يرضون بما يجود علينا به الجيران من لحم، فهم يريدون خروفا أقرن يسوقونه معك من السوق إلى البيت، ثم يشاركونك ذبحه وسلخه.

عادة ما يُحرجون في المدرسة بعد عودتهم من العطل، فكل يحكي عن سفره وفرحته، إلا أن أبنائي يكتفون بذكر قضائهم للعطلة بين جدران البيت الكئيبة، ويكتفون بزيارتك في السجن مرتين أو ثلاث في السنة، فإمكانياتي لا تسمح لي بأخذهم للزيارة كل أسبوع ولا مرة في الشهر خاصة وأنك ترحّل في كل مرة من سجن لآخر، فأبناؤنا يعدون زيارتك سفرهم، الذي يظلون ينتظرونه بشوق، يخرجون به من بؤسهم اليومي وينعمون ولو للحظات بابتسامتك وينعمون بفرحة عارمة داخل أسوار السجن، ولا أخفيك أني أحيانا أستعير بعض الملابس والأحذية ليزوروك، وذلك حتى لا يزيدك حالهم ألما إلى ألمك، وكم يسعدني أن أرى تلك الأسنان ترسم أجمل ابتسامة غابت عنها منذ أشهر، وكيف لا وذلك أسعد يوم عندهم في السنة، ينسون به كل المآسي تلك قاسوها، يريدون أن يحكوا لك كل تفاصيلها خلال تلك الدقائق المعدودة، ويريدون أن يشكوني إليك، وأن يشكوا هذا الحرمان الذي يقاسونه معي؛ وكأني تعمدت تجويعهم وتفقيرهم في غيابك، يحكون بكل براءة آلامهم، لكنهم يقطعون الكلام ويغيرونه ولا تدري لماذا، فذلك لأني أشير إليهم بالسكوت حتى لا يجرحوك، يتمنون أن لو توقفت عجلة الزمن، لكن السجان يباغتهم بإعلامهم أن الزيارة قد انتهت؛ ويباغتوني هم بدورهم بسؤالهم المعهود: “لماذا لا يعود معنا أبي؟”

أربي أبناءنا بمفردي ولا أجيد ذلك، أخشى أن أعودهم على حناني ثم لا يهابوني أو يطيعوني لما آمرهم، وأخشى أن أغلظ عليهم غلظة كغلظتك فيفقدون الإحساس بحناني، كلما غضبت عليهم أو صرخت في وجههم لتأديبهم، كانت صرختهم أقوى من صرختي، تلك الصرخة التي تهتز لها أعماقي  وجوارحي وتهتز لها أركان البيت؛ إنها صرخة المظلوم، فما ذنب أبنائي ليفقدوك، وما ذنبك حينما زجوا بك في غياهب السجن بلا جريمة أو جنحة أو جناية ارتكبتها.. 

 إنهم يصرخون بأعلى صوتهم: “نريد أبي”!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M