أحمد عصيد متحدّثا في القضية الفلسطينية: موقف مثالي وممارسة خاطئة..

04 ديسمبر 2020 18:23

هوية بريس- محمد زاوي

لم تسلم قضايا عديدة من انتقائية وإرادوية ومثالية أحمد عصيد، منها القضية الفلسطينية. وإذ يتخبط منهج التفكير لدى عصيد في خطأين فادحين هما: لا تاريخانية المعرفة وإهمال الأدوار التاريخية للإيديولوجيا؛ فإننا نزعم، بداية، أنه لن يخرج في تناوله للقضية الفلسطينية عن هذين الخطأين. فعوض أن يتصور أحمد عصيد الصراع العربي-الصهيوني في واقعه التاريخي، نجده يتصوره في رغبته وإرادته، ويخضعه لذاته. وعوض أن يميز بين الحقيقة والإيديولوجيات ويعترف لهذه بأدوارها التاريخية، نجده يصب جام غضبه على إيديولوجيات وطنية وقومية وإسلامية ليسقط في أخرى عولمية.

******

بين الموقف المثالي والممارسة الخاطئة:

يقول أحمد عصيد في مقال له بعنوان “الأمازيغية والقضية الفلسطينية”: “من الناحية المبدئية ترمز الصهيونية إلى الاحتلال والعنصرية والعنف”.

ويقول في أحد ردوده على أحمد ويحمان: “أنا أدافع عن يهود المغرب وليس عن محبي إسرائيل (…) إننا نحن الأمازيغ نميز بين يهودنا واليهودية المغربية وبين إسرائيل والصهيونية، إذ ينبغي التمييز بينهما.

(…) عندما يأتي اليهود المغاربة في أي بلد في العالم، بما فيها إسرائيل، إلى المغرب، علينا أن نعتبرهم منا، وأن نتمنى أن يستثمروا في بلدهم، وأن يعيشوا بيننا لأنهم يهودنا، تاريخيا 300 ألف يهودي تمّ تهجيرهم من المغرب في ظروف صعبة”.

موقف أحمد عصيد، من الكيان الصهيوني، مطلوب من حيث الخطاب، إلا أنه معيب من ناحيتين:

– لا يستكمل التفسير: فالكيان الصهيوني محتل، هذا معروف. ولكن، كيف نفسر وجوده في الوطن العربي؟ إنه الإيجاد المصطنَع للرأسمال التمويلي الاحتكاري في قلب الوطن العربي، لأغراض: شل القدرات القومية للوطن العربية اقتصاديا وسياسيا وثقافيا، تجزئة الوطن العربي وتحويله إلى جغرافيا للاختراق والصراع الداخلي، الوصول إلى الخامات النفطية والغازية والمعدنية للوطن العربي بالضغط والابتزاز والاختراق، التجسس على إدارات الدول والمجتمعات لتكبيل زعمائها وقياداتها واغتيال الذين يشكلون خطرا منهم (والاغتيال يكون ماديا، كما يكون معنويا)… إلخ.

– ينتج، في حالة عصيد، ممارسة معيبة وخاطئة. ومن سقطات عصيد العملية، بخصوص النضال من أجل تحرير الشعب الفلسطيني ومعه الوطن العربي ككل، تمكنّا من رصد السقطات التالية:

أولا؛ التربص بهفوات المقاومة الفلسطينية وأخطائها.

فلم تسلم منه لا المقاومة القومية التقدمية (منظمة التحرير الفلسطينية، حركة فتح)، ولا المقاومة الإسلامية (حركة حماس). فطعن في الأولى، مدعيا التباس موقفها بخصوص قضية الصحراء المغربية، والحال أن موقفها الرسمي كان واضحا، وبيان سفارة فلسطين بالرباط شاهدٌ على ذلك. وطعن في الثانية، مستنكرا على إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، استشفاء وعيش بعض أفراد عائلته في الأراضي الفلسطينية المحتلة (“إسرائيل” حاليا وغصبا). إن اختزال المقاومة الفلسطينية ومحاصرتها، في مجال معقّد من العلاقات السياسية الدولة، الأمر الذي تَعذُر فيه الدولة المغربية، قبل غيرها، المقاومة الفلسطينية؛ هذا الاختزال هو ما يؤكد لنا افتقار عصيد لعقل رجل الدولة، إضافة إلى افتقاره لعقل رجل المجتمع المحكوم بشرطه التاريخي.

ثانيا؛ الموقف الرجعي من “زيارة إسرائيل” والدفاع عن اليهود المغاربة الذين قبلوا بالصهيونية مآلا لهم.

إن عصيد لا يزور إسرائيل، ولكنه يدافع عن حرية غيره في زيارتها، ويدعو إلى التطبيع مع اليهود المغاربة الذين اختاروا “إسرائيل” كبلد ثانٍ لهم (أي “الصهيونية” كخيار). وكل ذلك يدعو إليه عصيد تحت قناع: “حاجة اليهود المغاربة ذوي الجنسية الإسرائيلية إلى من يحيي حفلاتهم في إسرائيل”.

وإننا لتساءل: كيف يعتبر عصيد “الكيان الصهيوني” محتلا، ويدعو في نفس الوقت إلى التطبيع مع المستفيدين من هذا الاحتلال؟ كيف تذوب قضية كبرى في جو من الفلكلور والغناء والموسيقى؟

فإما أن عصيد يتحايل على جمهورٍ يتابعه، أو أنه جاهل بالأبعاد الكبرى للقضية الفلسطينية. ألا يعلم عصيد أن مدنيي “إسرائيل” ما هم إلا دروع بشرية لقاعدة عسكرية زرعها الغرب الرأسمالي في قلب الوطن العربي؟ ألا يعلم أن التطبيع مع “حاملي الجنسية الإسرائيلية” هو اعتراف ب”دولة الكيان الصهيوني” وهي مجرد “طارئ” في التاريخ العربي ككل؟ ألا يعلم أنّ هذا “الطارئ” قد عمل منذ تأسيسه على تجزئة الوطن العربي وتفكيك عراه الثقافية وتمهيد طريق الإمبريالية الغربية لاستنزاف ثرواته الطبيعية؟ أليس من التدليس استدعاء “الخطاب الإنسانوي” لتزييف معركة قائمة بين الوطن العربي ونقيضه الغرب الإمبريالي، وما التناقض مع إسرائيل إلا جزء من هذا التناقض؟

قد يتحجج عصيد بمناوراتٍ لإدارات الدول هنا وهناك، أو باستثمار بعض الإدارات لعلاقاتها التاريخية بيهودها الملتحقين ب”إسرائيل” في إيجاد حلّ لبعض ملفاتها العالقة. ونحن نجيبه: “المناورة لا تلغي الخطر الاستراتيجي ل”إسرائيل” على جميع دول الوطن العربي، وإدارات الدول أكثر وعيا من عصيد بذلك، وهو مما تختص به دون غيرها. أما النخب المجتمعية، فدورها يتجلى في توعية الشعوب بالخطر الصهيوني، وتحريضها على رفضه ومقاطعته ومواجهته بالوسائل المتاحة. ما يحِلّ للمجتمعات، قد لا يحل للدول. وفي كثير من الأحيان، تضطر إدارات الدول إلى إبداء مواقفها المبدئية عن طريق تحريك إدارات المجتمع. فتحفظ ماء وجهها وتعبر عن خطها الاستراتيجي، دون أن تضع نفسها في حرج أمام “جماعات وظيفية صهيونية ضاغطة” أو أمام قوى دولية تمارس الابتزاز.

ثالثا؛ الحكم اللاتاريخي على زعماء المقاومة وشيوخها ورجالاتها

كتب عصيد في إحدى تدويناته، معلقا على اغتيال محسن فخري زاده: “لم يسبق لإسرائيل أن اغتالت فقيها مسلما أو داعية من الدعاة المفوهين أو خطيب مسجد أو أحد الرقاة الشرعيين، أي من يسميهم المسلمون خطأ ب”العلماء”، إنها تستهدف العلماء الحقيقيين المختصين في العلوم الدقيقة وخاصة الفيزياء النووية، لأن أساس التفوق في عصرنا هو العلم والعقلانية العلمية، بجانب الديمقراطية وحقوق الإنسان طبعا، وليس التشدد في الدين وإحياء الفقه القديم والحلم بالخلافة وإشاعة الكراهية وتكريس الاستبداد والتقاليد البالية”.

وهذا قول مغرض ومدلس، ومحرّف للحقيقة، بغرض إخراج “إيديولوجيا المقاومة” من دائرة الصراع العربي الإسرائيلي، ومن دائرة الصراع بين الوطن العربي والإمبريالية الجديدة. وما محسن فخري زاده، كعالِم نووي، إلا النموذج الذي أساء عصيد قراءته، أو لعله قرأه قراءة زائفة ولا ترى الحقيقة كما هي.

فلا الكيان الصهيوني يغتال “علماء الفيزياء النووية” وحدهم، وإلا ففي أي خانة من الاغتيال سندخل اغتيال: أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وعباس موسوي وموسى الصدر… إلخ؟ ولا الإمبريالية تغتال “المتخصصين في العلوم الدقيقة والتكنولوجيات” وحدهم، وإلا في أي خانة سندخل اختفاء المهدي بن بركة، وموت عزيز بلال في ظروف غامضة، واغتيال كل من حسين مرة ومهدي عامل… إلخ؟

ولم يسبق للكيان الصهيوني أن اغتال عالما غير مقاوم، أو لا ينتمي إلى مشروع للمقاومة. ففي إيران وحدها تمّ اغتيال أربعة علماء نوويين قبل اغتيال محسن فخري زاده، هم التالية أسماؤهم:

– مسعود علي محمدي (2010).

– مجيد شهرياري (2010).

– داريوش رضايي نجاد (2011).

– مصطفى أحمدي روشن (2012).

وكلهم كانوا مشاركين في البرنامج النووي الإيراني. وما حالة محمد الزواري (كان عضوا بكتائب عز الدين القسام)، المهندس التونسي عنا ببعيدة، وما اغتيال علماء الفيزياء النووية العراقيين بعد السقوط الثاني لبغداد عنّا ببعيدة أيضا.

يضاف إلى كل هذا، أن العالِم الذي أشاد به عصيد ينتمي إلى مشروع نووي، أسسه نظام قومي توسعي أنتجته ثورة ذات إيديولوجيا “شيعية إمامية”، سيجدها عصيد في كتب من قبيل “الحكومة الإسلامية” و”جنود العقل والجهل”… وغيرها من كتب الخميني. والآن، ما على عصيد إلا أن يسافر إلى إيران، ويزور حوزة “قم” وغيرها من الحوزات العلمية الشيعية، وليزر بعدها الثكنات العسكرية للجيش النظامي الإيراني، ليقف بنفسه على الإيديولوجيا التي يربى عليها الطلبة ويُضبَط ويُحرَّض بها الجنود.

أما دعوة عصيد إلى نبذ الكراهية، فلم تكن هي ديدن فخري زاده، وإلا لما ضحى بنفسه في مشروع مقاومة، المقاومون فيه معرّضون لكل خطر، وفي أي وقت. إن إيديولوجية “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل” هي التي تربى في أحضانها فخري زاده، وإن هذا العالِم الذي أشاد به عصيد ليكره أمريكا وإسرائيل كرها شديدا، عكس ما يدّعيه عصيد وأمثاله.

******

وما دخل الأمازيغية؟

المازيغيون مكون مغربي أصيل، يدافعون عن “الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب”، ويدافعون عن العربية الفصحى (شفهية وكتابية) ووحدة الوطن العربي. هكذا كان المازيغيون، وما زال أغلبهم كذلك، قبل أن تخترقهم بعض الجمعيات العولمية الإنسانوية المزوغية (لا المازيغية). وهم بذلك، لا يجدون حرجا في الدفاع عن فلسطين من منطلقات: قومية، أو إسلامية، أو إنسانية. وجدوا أنفسهم في الحركات والأحزاب القومية (أحمد ويحمان نموذجا)، وفي الحركات الإسلامية (سعد الدين العثماني نموذجا)، وهي كلها حركات إنسانية تدافع عن الإنسان بالإنسان في شرط الإنسان، حسب مبلغها من الوعي بالشرط التاريخي، وفي إطار الإيديولوجيات المتاحة.

وحيث يقول أحمد عصيد (في مقال “الأمازيغية والقضية الفلسطينية”): “فالفاعلون الأمازيغيون الذين دافعوا دوما عن خصوصية وطنية وشمال إفريقية لم يكونوا يستطيعون، من جهة، تكريس نفس الخطاب المساند لفلسطين أو العراق الذي تروجه التيارات المذكورة (القومية والإسلامية)، لأنه في النهاية يصب في تكريس الانتماء القومي العربي-الإسلامي للمغرب وتغييب هويته الأصيلة، ومن جهة أخرى، لم يكن باستطاعتهم إنكار الحق الفلسطيني اعتبارا لمساندة الحركة الأمازيغية المبدئية لكل الشعوب المضطهدة والمحتلة”؛ حيث يقول ذلك، فإنه:

– يصطنع تعارضا بين المازيغيين والخصوصيتين العربية والإسلامية.

– يستبدل إيديولوجيات ناجعة ومؤثرة ومُجمَع عليها بإيديولوجيات دخيلة، بل ومفكِّكة.

– يتوهم الدفاع عن فلسطين والشعب الفلسطيني، وهو يضعف قضيتهما باصطناع التناقضات الزائفة في المغرب، كقطر من الوطن العربي.

– يمتص الإشكالية الحقيقية (ما السبيل إلى حل التناقض بين: الكيان الصهيوني وكافة الفئات الاجتماعية في الوطن العربي)، لصالح إشكالية زائفة (ما السبيل إلى إيجاد حل للتناقض بين: المزوغيين وما طرأ على الأمازيغ من إسلام وعروبة؟)

وهذا ليس دفاعا عمليا وتاريخيا عن القضية الفلسطينية، ولا هو دفاع عن المازيغيين في شرطهم المغربي والعربي، مهما ادعى أحمد عصيد ذلك، ألف مرة بعد ألف مرة.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M