إضاءات مَنْهَجِيَّةً فِي قَضَايَا مُلِحَّةٍ: (ح5) العُلَمَاءُ وَالأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَن المُنْكَرِ

23 فبراير 2018 22:44
كارثة في نظام حساب معدل السادس أساسي!!

هوية بريس – نور الدين درواش

لقد شرع الله لهذه الأمة عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما شرعها للأمم قبلنا، وأخبرنا عمَّا أحلَّ ببني إسرائيل من اللّعن والسّخط حين تركوا القيام بحقها، فقال: “لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ” [المائدة:77-78].

ولذلك توعد النبي صلى الله عليه وسلم التاركين لهذا الأمر العظيم بعموم العقاب، فَعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمَانِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ” [رواه الترمذي (2169)، وحسنه الألباني].

وذلك اللعن وهذا الوعيد يدلان على وجوب إقامة هذه الشعيرة العظيمة التي  في تحقيق الإيمان مع تحصيلها تَحَقُّقٌ للخيرية التي شَرَّفَ الله بها هذه الأمة حين قال:” كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ”[آل عمران:110].

بل أمر بها أمرا واضحا وجعلها سبيلا للفلاح فقال: “وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” [آل عمران:104].

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مراتب تغيير المنكر فعن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ». [رواه مسلم(78)].

فالتغيير باليد واللسان يكون حسب الوسع والقدرة والإمكان؛ فهو باليد للسلطان ومن ينوب عنه وللأب في بيته… وما شابه ذلك، وهو باللسان لمن قدر على التكلم والبيان من العلماء والدعاة والناصحين من عموم المسلمين وغيرهم وفق ضوابط وشروط..

أما من عجز عنهما فيلزمه  أن يُنكر المنكر بقلبه، لا عذر له في ترك ذلك، وهذه المرتبة الأخيرة  واجبة على كل حال إذ ليس فيها ضرر ولا تخشى منها مفسدة ومن تركها فليس بمؤمن ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم” أَضْعَفَ الْإِيمَانِ” بل قال: “وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ” [رواه مسلم(80)].

قال شيخ الإسلام: “فأضعف الإيمان الإنكار بالقلب فمن لم يكن في قلبه بُغضُ المنكر الذي يُبغضه الله ورسوله لم يكن معه من الإيمان شيء” [مجموع الفتاوى(8/367)].

وكلما بَعُدَ الناس عن زمان النبوة كلما كَثُر الفساد واستشرى المنكر وصعب تغييره، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: “يُوشِكُ مَنْ عَاشَ مِنْكُمْ أَنْ يَرَى مُنْكَرًا لَا يَسْتَطِيعُ لَهُ غَيْرَ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِهِ أَنَّهُ لَهُ كَارِه” [جامع العلوم والحكم(2/245)].

وقد وقعت في هذا الزمان فتنٌ عظيمة وفسادٌ عريض، وانحراف كبير عن الشريعة الإسلامية من قِبَل عموم الناس حكاما ومحكومين ما جعل كثيرا من الشباب يُلقون باللائمة في هذا كله على أهل العلم؛ مُتَّهِمِينَهُم بتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للولاة والحكام والسَّاسَة.

ولا شك أن على العلماء فيما يجري مسؤولية عظيمة ولا يستطيع أحد أن يبرئ ساحة كل من يُنسب للعلم، وبخاصة من انحرف منهجه وضل سبيله فصار يستعمل العلم للدفاع عن الباطل و”شرعنة” السوء وإحياء المَوَاتِ من البدع والضلالات وفاسِدِ العوائد وقبيح العادات… بل قد يوجد من العلماء من صَلُحت عقيدته وسَلِمَ منهجه لكنك تجد في تَدَيُّنه ضعف ورِقَّة فيجنح للسلامة الشخصية على حساب الأمة بل ربما باع دينه بعرض من الدنيا قليل.

ولهذا قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلَمَائِنَا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَمَنْ فَسَدَ مِنْ عُبَّادنا كَانَ فِيهِ شَبَهٌ مِنَ النَّصَارَى” [تفسير ابن كثير (التوبة الآية34)].

لكنَّ تعميم هذا الحكم والاتهام على كافة أهل العلم أو أغلبهم  ظلم لهم، وجناية عظيمة عليهم وعلى الأمة، ولهذا نجد الثمرة السيئة لبعض الدعاة الذين لا يفتؤون يدندنون حول هذا الموضوع تشويهَ صورة العلماء في عين الأمة وتجريء الشباب عليهم وتنفيرهم منهم وإساءة الظن بهم، والمسارعة إلا اتهامهم بكل نقيصة… وبعدها يكون الارتماء في بحار الضلال والانحراف والفساد غلواً أو جفاءً.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة شرعية عظيمة وفريضة حتمية لازمة وهذا لا ينازع فيه أحد، لكن تَمَّتَ ضوابط وشروط ينبغي اعتبارها في الأمر والنهي، وكل تغييب لهذه الضوابط بدافع الحماس والغيرة يؤدي إلى عواقب وخيمة ونتائج سيئة للغاية.

فمن هذه الضوابط أن العالمَ قد يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر  ليَقِينِه أو غلبة ظنه أن ما سيترتب على كلامه من المنكر والمفسدة أكثر مما يترتب على سكوته، ومعلوم أن مشروعية الإنكار مشروطة بعدم جني مفسدة أعظم، وهذا مما قرره أهل العلم؛ قال شيخ الإسلام:” فَتَارَةً يَصْلُحُ الْأَمْرُ؛ وَتَارَةً يَصْلُحُ النَّهْيُ؛ وَتَارَةً لَا يَصْلُحُ لَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ حَيْثُ كَانَ الْمَعْرُوفُ وَالْمُنْكَرُ مُتَلَازِمَيْنِ؛ وَذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمُعَيَّنَةِ الْوَاقِعَةِ” [مجموع الفتاوى (28/130)].

ويُفَصِّل رحمه الله في موطن آخر فيقول: “لَكِن إِذا كَانَ الشَّخْص أَو الطَّائِفَة لَا تفعل مَأْمُورا إِلَّا بمحظور أعظم مِنْهُ أَو لَا تتْرك مَأْمُورا إِلَّا لمحظور أعظم مِنْهُ؛ لم يَأْمر أمرا يسْتَلْزم وُقُوع مَحْظُور رَاجِح وَلم ينْه نهيا يسْتَلْزم وُقُوع مَأْمُور رَاجِح، فَإِن الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والنهى عَن الْمُنكر هُوَ الَّذِي بُعثت بِهِ الرُّسُل وَالْمَقْصُود تَحْصِيل الْمصَالح وتكميلها وتعطيل الْمَفَاسِد وتقليلها بِحَسب الْإِمْكَان

فَإِذا كَانَ الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مستلزما من الْفساد أَكثر مِمَّا فِيهِ من الصّلاح لم يكن مَشْرُوعا وَقد كره أَئِمَّة السّنة الْقِتَال فِي الْفِتْنَة الَّتِي يسميها كثير من أهل الْأَهْوَاء الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر فَإِن ذَلِك إِذا كَانَ يُوجب فتْنَة هِيَ اعظم فَسَادًا مِمَّا فِي ترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لم يدْفع أدنى الفسادين باعلاهما بل يدْفع أعلاهما بِاحْتِمَال أدناهما”[الاستقامة(2/330)]

وقال:” فَالْعَالِمُ تَارَةً يَأْمُرُ وَتَارَةً يَنْهَى وَتَارَةً يُبِيحُ وَتَارَةً يَسْكُتُ عَنْ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ أَوْ الْإِبَاحَةِ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاحِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ أَوْ النَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ الْخَالِصِ أَوْ الرَّاجِحِ وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يُرَجَّحُ الرَّاجِحُ – كَمَا تَقَدَّمَ – بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُمْكِنِ: إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِظُلْمِهِ وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ كَمَا قِيلَ: إنَّ مِنْ الْمَسَائِلِ مَسَائِلَ جَوَابُهَا السُّكُوتُ كَمَا سَكَتَ الشَّارِعُ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ عَنْ الْأَمْرِ بِأَشْيَاءَ وَالنَّهْيِ عَنْ أَشْيَاءَ حَتَّى عَلَا الْإِسْلَامُ وَظَهَرَ. فَالْعَالِمُ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغِ كَذَلِكَ؛ قَدْ يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ كَمَا أَخَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إنْزَالَ آيَاتٍ وَبَيَانَ أَحْكَامٍ إلَى وَقْتِ تَمَكُّنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا إلَى بَيَانِهَا.” [مجموع الفتاوى (20/58-59)].

وقال ابن القيم -رحمه الله-: ” إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبّه اللَّه ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى اللَّه ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان اللَّه يبغضه ويمقت أهله….”

ثم  قال: ” فإنكار المنكر أربع درجات:

الأولى: أن يزول ويخْلُفَه ضده.

الثانية: أن يَقِّلَّ وإن لم يُزل بجملته.

الثالثة: أن يخْلُفَه ما هو مثله.

الرابعة: أن يخْلُفَه ما هو شر منه.

فالدرجتان الأولَتَانِ مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة مُحَرَّمة”[إعلام الموقعين(4/339)].

فهذا التأصيل الدقيق من شيخ الإسلام الثاني يدل على فقه عميق مستمد من أصول الشريعة وقواعدها،

ثم ضرب لذلك… فقال: “فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله كرمي النشاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفساق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مكاء وتصدية فإن نقلتهم عنه إلى طاعة الله فهو المراد، وإلا كان تركهم على ذلك خيرا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك، فكان ما هم فيه شاغلا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلا بكتب المجون ونحوها وخِفْتَ من نقله عنها انتقالَه إلى كتب البدع والضلال والسحر فدعه وكتبه الأولى، وهذا باب واسع”.

فلاحظ حفظك الله كيف جعل -رَحِمَهُ الله- تركَ صاحب المنكر على منكره مُقَدَّما على صرفه عنه إذا خِيفَ أن ينتقل منه إلى ما هو أشد منه.

إن اعتبار العالم لمآلات فعله أو قوله -أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر أو غير ذلك…- أصلٌ شرعيٌ معتبرٌ قال الإمام الشاطبي:” النَّظَرُ فِي مَآلَات الْأَفْعَالِ مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا كَانَتِ الْأَفْعَالُ مُوَافِقَةً أَوْ مُخَالِفَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَحْكُمُ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْإِقْدَامِ أَوْ بِالْإِحْجَامِ إِلَّا بَعْدَ نَظَرِهِ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ، مَشْرُوعًا لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ تُسْتَجْلَبُ، أَوْ لِمَفْسَدَةٍ تُدْرَأُ، وَلَكِنْ لَهُ مَآلٌ عَلَى خِلَافِ مَا قُصِدَ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ لِمَفْسَدَةٍ تَنْشَأُ عَنْهُ أَوْ مَصْلَحَةٍ تَنْدَفِعُ بِهِ، وَلَكِنْ لَهُ مَآلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ” [الموافقات(5/177)] .

ومن الأمثلة التي أوردها الإمام الشاطبي لهذه القاعدة أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك  قتل المنافقين خشية أن يتحدث الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه، وترك  بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خشية أن يثير ذلك فتنة لكونهم حديثي عهد بكفر، ونهى عن منع الأعرابي من إكمال بوله في المسجد خشية تنجيس نفسه أو ثيابه أو المسجد أو ما يحصل له من الضرر الصحي…

فهذه منكرات ثلاثة ترك النبي صلى الله عليه وسلم تغييرها درءا لما يترتب على هذا التغيير من المحاذير.

ومن النماذج العَمَلِية والوقائع التاريخية التي تدل على إعمال العلماء لهذا الفقه  ما نقله ابن القيم رحمه الله عن شيخه على سبيل التمثيل بعد التأصيل فقال:” وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم. “[إعلام الموقعين(4/340)].

ومن مظاهر درء المفاسد منع  أفراد الأمة من إقامة الحدود وهو  وظيفة للسلطان دفعا لما قد يترتب على ذلك من المفاسد كالهرْج والفوضى؛ قال شيخ الإسلام:” وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه: مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق، ويجلد الشارب، ويقيم الحدود؛ لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد؛ لأن كل واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك؛ فهذا مما ينبغي أن يقتصر فيه على ولي الأمر المطاع كالسلطان ونوابه.”[المستدرك على مجموع الفتاوى(3/203)].

فهل يقول قائل: إن المانع من إقامة أفراد الناس للحدود محارب لشرع الله كاره لإقامته مُزَهِّدٌ في إحيائه؟؟

إن طبيعة الشباب تميل لمظاهر البطولة والتحدي، وهذا أمر يجعل الكثيرين منهم يتمنون من العالم أن يصدع بالحق ويعلن الصدق وأن يبارز الحاكم بالمعارضة والإنكار مهما كانت نتيجة ذلك وهذا حماس فارغ لا ينضبط بشرع ولا يصدر عن عقل.

فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا»[رواه مسلم(1854)].

قال القاضي عياض: قوله: ” ولكن من رضى وتابع “: دليل على أن المعاقبة على السكوت على المنكر إنما هو لمن رضيه، وأعان فيه بقول أو فعل أو متابعة، أو كان يقدر على تغييره فتركه. فأما مع عدم القدرة فبالقلب وعدم الرضا به” [إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم(6/264)].

بل إن  كثيرا من الشباب يريد من العلماء أن يصرخ  بإنكار  المنكر مع تعيين صاحبه وهذا ليس شرطا ولا لازما في التغيير فإن الله تعالى قد أمر بتغيير المنكر لا بتعيين صاحبه ولاسيما إذا كان سلطانا…

ومما يجدر بيانه في هذا المقام أيضا أن الخوف من صاحب المنكر على النفس أو المال أو الغير يُعد مانعا شرعيا من الإنكار، قال الإمام النووي:” وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ إِلَّا بِأَنْ يَخَافَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، أَوْ يَخَافَ عَلَى غَيْرِهِ مَفْسَدَةً أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْمُنْكَرِ الْوَاقِعِ.”[روضة الطالبين(10/221)]

قال الحافظ ابن رجب:” إِنْ خَشِيَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ أَنْ يُؤْذِيَ أَهْلَهُ أَوْ جِيرَانَهُ، لَمْ يَنْبَغِ لَهُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ حِينَئِذٍ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعَدِّي الْأَذَى إِلَى غَيْرِهِ، كَذَلِكَ قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ وَغَيْرُهُ، وَمَعَ هَذَا، فَمَتَى خَافَ مِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ السَّيْفَ، أَوِ السَّوْطَ، أَوِ الْحَبْسَ، أَوِ الْقَيْدَ، أَوِ النَّفْيَ، أَوْ أَخْذَ الْمَالِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَذَى، سَقَطَ أَمْرُهُمْ وَنَهْيُهُمْ، وَقَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ عَلَى ذَلِكَ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَغَيْرُهُمْ.”[جامع العلوم والحكم(2/249)] .

وقال القرطبي:” وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ لِمَنْ أَطَاقَهُ وَأَمِنَ الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ خَافَ فَيُنْكِرُ بِقَلْبِهِ وَيَهْجُرُ ذَا الْمُنْكَرِ وَلَا يُخَالِطُهُ” [الجامع لأحكام القرآن، (المائدة:79)].

قال السرخسي”وَالرُّخْصَةُ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الْمُلْجَأِ بِشَرْطِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إلَّا أَنَّ هُنَا إنْ امْتَنَعَ كَانَ مُثَابًا عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بَاقِيَةٌ، فَهُوَ فِي الِامْتِنَاعِ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ، وَالْمُتَمَسِّكُ بِالْعَزِيمَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُتَرَخِّصِ بِالرُّخْصَةِ”[المبسوط(24/50)]

فالسكوت عند الخوف رخصة وللعالم أن يأخذ بالعزيمة فيبارز أهل الباطل ما دام لا يخاف أن يتعداه الضرر. فقد أخذ سيدنا عمار بن ياسر بالرخصة، فيما اختار بلال وعبد الله بن حذافة وغيرهم العزيمة  فقد “اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوَاليَ المكرَه عَلَى الْكُفْرِ، إِبْقَاءً لِمُهْجَتِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَقْتِلَ”[تفسير ابن كثير، (النحل:106)] لكن لا ينبغي جعلُ ذلك سبيلاً لاتهام المترخص بالمداهنة والعمالة والجبن وما شابه.

ولهذا لم يعتبر العلماء بكلام الإمام أحمد رحمه الله في نهيه هم الكتابة عمن أجاب في الفتنة، قال الذهبي:”قَالَ سَعِيْدُ بنُ عَمْرٍو البَرْذَعِيُّ: سَمِعْتُ الحَافِظَ أَبَا زُرْعَةَ الرَّازِيَّ يَقُوْلُ:

كَانَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ لاَ يَرَى الكِتَابَةَ عَنْ أَبِي نَصْرٍ التَّمَّارِ، وَلاَ عَنْ يَحْيَى بنِ مَعِيْنٍ، وَلاَ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ امْتُحِنَ فَأَجَابَ.

قُلْتُ-أي الذهبي-: هَذَا أَمرٌ ضَيِّقٌ، وَلاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ أَجَابَ فِي المِحْنَةِ، بَلْ وَلاَ عَلَى مَنْ أُكرِهَ عَلَى صَرِيحِ الكُفْرِ عَمَلاً بِالآيَةِ – وَهَذَا هُوَ الحَقُّ -.

وَكَانَ يَحْيَى -رَحِمَهُ اللهُ- مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ، فَخَافَ مِنْ سَطْوَةِ الدَّوْلَةِ، وَأَجَابَ تَقِيَّةً.”[السير(11/87)].

وقد شدد الإمام الذهبي النكيرَ والهجومَ على العُقيلي لإيراده الإمام ابن المديني في الضعفاء  بسبب الترخص وكان مما قال:” أفما لك عقلٌ يا عقيلي، أتدرى فيمن تتكلم، وإنما تبعناك في ذكر هذا النمط لنذب عنهم ولنزيف ما قيل فيهم، كأنك لا تدرى أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم في كتابك، فهذا مما لا يرتاب فيه محدث… وأما علي بن المديني فإليه المنتهى في معرفة علل الحديث النبوى، مع كمال المعرفة بنقد الرجال، وسعة الحفظ والتبحر في هذا الشأن، بل لعله فرد زمانه في معناه.”[ميزان الاعتدال(3/140-141)]

هذا ومن الأمور التي لها صلة بهذا الموضوع أن كثيرا من العلماء يعلقون وجوب الأمر والنهي برجاء النفع، وإلا سقط هذا الوجوب؛ قال الإمام الشنقيطي:” ويشترط في وجوبه مظنة النفع به، فإن جزم بعدم الفائدة فيه لم يجب عليه، كما يدل له ظاهر قوله تعالى: فذكر إن نفعت الذكرى”[أضواء البيان، (المائدة:105)] ورجحه أيضا في دفع إيهام الاضطراب وإن كان قول أكثر العلماء على خلافه، وليس المقصود الآن تحقيق القول في هذه المسألة ولا الترجيح وإنما المقصود استحضار أعذار أهل العلم وبعض أسباب تركهم التغيير.

وقد تقدم قول شيخ الإسلام رحمه الله” فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُمْكِنِ: إمَّا لِجَهْلِهِ وَإِمَّا لِظُلْمِهِ وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ”

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M