الإنسان بين كرامة الستر ومرض العري

08 أغسطس 2021 11:31

هوية بريس – حماد القباج

لما انتصرت “العلمانية اللادينية” على “الدين المحرف” في أوروبا؛ أحبت أن تبني تصوراتها للكون والحياة والخلق؛ على أسس علمية تؤكد بها انحراف الدين وجنايته على البشرية.

وكان من أخطائها أنها عممت حربها على الدين مطلقا، ولم تقف عند دينها النصراني المحرف، الذي عبثت به أيادي فجار القساوسة والملوك ..

فكان هذا بمثابة إعلان حرب على الخالق جل وعلا، وتمرد على قيم الأخلاق والفضيلة التي شرعها لعباده.

وكان أول ما بدؤوا به؛ أن عبروا عن تمردهم هذا من خلال “أدب الحداثة” الذي نجسوا شعره ونثره بكلمات تطفح كفرا وإلحادا وتحديا لله رب العالمين.

ثم انبعثت النخبة منهم لتلبس هذا الانحراف لبوس العلم، وتكسوه بثياب رثة من نظريات أريد لها أن تصير حقائق، وتوهمات حرصوا على البرهنة عليها، وأنفقوا في سبيل ذلك الجهد والمال الذي طالما أنفق لتمويل دراسات موجهة ضد الدين والأخلاق.

وهكذا جاء اليهودي (تشارلز روبرت داروين) (Charles Robert Darwin) (ت. 1882م) بنظريته عن أصل الأنواع.

وجاء اليهودي (كارل ماركس) (ت. 1883م) بنظريته عن الاقتصاد وعلاقة الإنسان بالمال.

وجاء اليهودي (سيغموند شلومو فرويد) (ت. 1939م) بنظريته عن الأخلاق والسلوك الجنسي للإنسان.

ولم يكن توجههم اللاديني محض صدفة، كما أن يهوديتهم لم تكن مجرد صدفة؛ بل كان ذلك مؤشرا على “المخطط الصهيوني” لمواجهة الدين والأخلاق.

ولم تستطع هذه النظريات أن تبرح مكانها، ولا أن تجد لها في سوق العلم والمعرفة الصحيحة رواجا؛ بل أبطلها “العلم” وأسقطتها “التجربة الموضوعية”، فضلا عن “الدين الحق”..

وكان من التصورات والأوهام التي أفرزها ذلك التوجه الإلحادي الإباحي؛ أن الإنسان الأول كان جاهلا إلى درجة تجعله قريبا من الحيوان، وكان في شكله عاريا وذا صورة بشعة!

وعملت “وسائل الإعلام” الموجهة على الترويج لهذا التصور، كما عملت “مراكز بحث” على السعي للبرهنة عليه والاستدلال له..

وإذا كنا لا نجد لمثل هذا التصور أي مستند علمي؛ فإننا نجد القرآن الكريم ينص على خلافه:

والقرآن هو النص الوحيد الذي يمكن أن نبرهن بالبراهين القطعية على أنه كلام الله، والله هو الخالق، وخبره عن خلقه هو العلم المحقق والخبر المدقق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

فالمنطق يلزمنا بالوقوف عند ما أثبته الخالق: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.

وقال سبحانه: [والله يعلم وأنتم لا تعلمون].

وقال عز من قائل مبينا أن نظريات الإنسان المنحرفة المتعلقة بالخلق والخليقة لا تستند إلى معطيات موضوعية: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51].

وقال سبحانه مبينا افتقادهم إلى العلم واتباعهم للظنون والأوهام: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24].

وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23].

وبهذا يخرجنا القرآن من وهم ذوي الأهواء إلى علم خالق الأرض والسماء، ومن النظريات المسيسة إلى الحقائق المثبتة..

قال الله تعالى مبينا أن الإنسان الأول كان على جانب عظيم من العلم والمعرفة:

{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 31 – 33].

وقال سبحانه مبينا أنه خلق الإنسان ذا كرامة وسؤدد:

{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70].

وقال عز وجل مبينا أن الإنسان الأول كان يتمتع باللباس بنوعيه الضروري والكمالي:

{يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف (26)]

{لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ}: هو اللباس الضروري

{وَرِيشًا}: هو اللباس الكمالي؛ لباس التجمل والحسن

قال المفسرون:

“امتن الله على بني آدم بما يسر لهم من اللباس الضروري، واللباس الذي المقصود منه الجمال، وهكذا سائر الأشياء؛ كالطعام والشراب والمراكب، والمناكح ونحوها، قد يسر الله للعباد ضروريها، ومكمل ذلك”اهـ

“وفي معنى {أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ} ثلاثة أقوال:

أحدها: خلقنا لكم.

والثاني: ألهمناكم كيفية صنعه.

والثالث: أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتخذ لباساً”اهـ[1]

وبين سبحانه أن انكشاف العورة وظهور السوءة مطلب شيطاني، لا يقبله الإنسان الكريم:

{يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون} [الأعراف 27].

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [طه: 120-121].

وبين الله تعالى أن من أنبيائه من كان يصنع أنواعا من اللباس:

{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} [الأنبياء: 80]

وقد يتساءل المرء: فما مصدر المعلومة التي تفيد بأن الإنسان الأول كان عاريا؟ ومن أين جاءت صور “المستحثات” التي يستدل بها لهذه المعلومة؟

والجواب: أن تلك المعلومات مشحونة بأنواع من التلبيس والمغالطات.

وكان حال بعض علماء المادة معها؛ كحال الكهان الذين يتلقفون خبر السماء من الجن فيزيدون فيه مائة كذبة..

نعم؛ العلم أثبت بأن بني آدم كانت فيهم فئام وتجمعات بشرية عارية من اللباس..

كما أن العلم أثبت بأن الأسباب متنوعة؛ فمنهم من كان لا يعرف اللباس، ومنهم من كان يتعمد التكشف لشبهة في عقله أو مرض في نفسه.

مثال الأول: قبائل كانت تعاني من الفقر والجهل؛ فكانت لا تهتدي إلى صنع اللباس.

ومثال الثاني: تعري العرب عند طوافهم بالكعبة؛ بشبهة أنهم لا ينبغي لهم الطواف بثياب عصوا الله فيها.

ومثال الثالث: العري المعاصر الذي ينبع من هوس جنوني بالتعري والشذوذ الجنسي، مما جعل أصحابه يعلنون انحرافهم بالأفلام والصور الإباحية، ونوادي وشواطئ التعري، والزواج المثلي..

وقد أبرز علماء التاريخ أن البشر الذين كانوا متجردين من اللباس؛ كان منهم أقوام انحرفوا عن توجيهات الأنبياء وما أرشدوا إليه البشرية من كمالات حضارية وسلوك يحفظ الكرامة الإنسانية.

وقد عصى هؤلاء أنبياءهم فيما هو أعظم من “اللباس والستر”، وهو “توحيد الخالق” جل وعلا، وقد انتكسوا بسبب ذلك إلى أحط المظاهر وأقبحها؛ عبادة الأصنام والأحجار والأقمار، فكيف لا ينتكسون فيما هو دون ذلك فيظهرون عراة متجردين؟؟..

{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأعراف: 35، 36].

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] زاد المسير في علم التفسير (2 / 109).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M