الانتخابات التركية بعيون مغربية

19 مايو 2023 08:05

هوية بريس – بلال التليدي

ليس ثمة أدنى شك أن الانتخابات التركية شكلت لحظة فارقة في تاريخ الديمقراطية، ووجهت نظر الباحثين في نماذج الديمقراطية إلى عناصر القوة والصلابة التي تتمتع بها التجربة الديمقراطية التركية في الوقت الذي بدأت بعض النماذج الغربية، تبين عن مخاطر تواجهها، كما هو الشأن في التجربة الديمقراطية الأمريكية التي عرفت في الانتخابات الرئاسية السابقة تحديات خطيرة ساءلت قدرة هذا النموذج على تحصين ذاته أمام واقع الانقسام السياسي والاجتماعي، فنسبة المشاركة التي عرفتها الانتخابات التركية (حوالي تسعين بالمائة) تعتبر مؤشرا كافيا على نضج التجربة واستقرارها وفرادتها.

الواقع أن جو الاستقطاب الحاد الذي عرفته هذه الانتخابات، ودخول العامل الخارجي على الخط، وتعقد البيئة الإثنية، والجدل حول استثمار بعض القضايا الإقليمية والأمنية في السجال الانتخابي، فضلا عن الصراع السياسي والإيديولوجي بين قطبين، وشدة الرهان على تثبيت تجربة الإسلاميين في الحكم من جهة، ومحاولة إنهاء آخر حلقة في مشروعهم السياسي في المنطقة من جهة أخرى، كل ذلك غطى على الخصائص الصلبة التي يتمتع بها هذا النموذج الديمقراطي.

في المغرب، كما في سائر دول العالم العربي، كان الرأي العام منقسما على وجهتي نظر، الأولى، مسكونة بفكرة دعم النموذج التركي الذي يشق طريقه نحو النهوض الحضاري، ويقاوم الممانعة الأمريكية والأوروبية، ويناور بكل الأوراق من أجل تحسين تموقعه في العالم، وتحسين شروط التفاوض مع الغير. والثانية، مسكونة بفكرة إسقاط تجربة الإسلام السياسي، أو بالأحرى إنهاء آخر حلقة من حلقاته في الحكم، بعد أن أنهى خريف الديمقراطية الآمال التي حملها معه الربيع العربي.

المثير جدا في سلوك بعض النخب اليسارية، أن مواقفها هذه المرة جاءت على نقيض من أطروحتها الفكرية، أو على الأقل، من تموقعاتها الطبقية، فبدل أن تحدد بوصلتها بملاحظة اتجاهات السياسات الأمريكية والأوروبية، والنظر إلى موقع التجربة التركية ضمن مشروع التحرر، أو على الأقل ضمن المشروع النقيض للمشروع الأمريكي، أزالت هذا الاعتبار الاستراتيجي من عقلها النظري، وأضحت الفكرة اليسارية عندها أقرب إلى إيديولوجية سياسية، يتلخص هدفها في مواجهة «الرجعية» حتى ولو كانت هذه الرجعية المزعومة، نقيضا استراتيجيا للامبريالية التي تمثلها المصالح الأمريكية التوسعية في المنطقة.

بعض النخب التي كانت ملهمة بالنموذج التركي، أو بالصيغة الجديدة التي قدمها الإسلام السياسي التركي، سواء في التركيز على قضية التدبير والإنجاز، أو في تدبير العلاقة بين السياسي والديني، أو في شكل التعامل مع التناقضات الدولية، بدأت تنقل بالحرف ما تنتجه بعض مراكز التفكير الأمريكية القريبة من اللوبي الصهيوني، والتي تحذر من انحراف التجربة التركية في الصيغة الأردوغانية، وتحولها إلى ديكتاتورية سياسية، ومشروع لأسلمة الدولة والمجتمع بشكل قسري.

الإسلاميون تابعوا نتائج الانتخابات التركية ربما أكثر من متابعتهم لنتائج الانتخابات المغربية التي أسقطت العدالة والتنمية المغربي من قيادة الحكومة، وتقديرهم، أن سقوط تجربة رجب طيب أردوغان، تعني سد الباب وبشكل نهائي عن استعادة المبادرة، ومن المرجح أن متابعتهم للجولة الثانية ستكون بحجم أكبر من الجولة الأولى، وإن كان التردد يخترق مثقفيهم حول نقاط القوة التي تضاف لرصيد الرئيس رجب طيب أردوغان بعد فوز حزبه بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية، وأيضا نقاط الضعف، في حالة العجز عن إقناع المكون الكردي، أو على الأقل، تحييد دعمه للمعارضة.

الدولة المغربية تنظر بشكل مختلف للموضوع، فمع أن مستقبل الإسلام السياسي يهمها، ويدخل ضمن المعطيات التي تبني عليها موقفها السياسي، إلا أن ثمة معطيات أكثر تأثيرا من هذا الاعتبار.

الدولة المغربية، تحكمها في التعاطي مع الانتخابات التركية اعتبارات تخص مصالحها العليا، وتخص بشكل خاص قضية وحدتها الترابية، ورهاناتها الاستراتيجية في المنطقة.

المغرب لم يكن يطمئن كثيرا للسياسة الخارجية التركية في عهد رجب طيب أردوغان، فهي تقترب كثيرا من المجال الذي يحرك فيه أوراقه الاستراتيجية، فقد ندد المغرب بالتدخل الأجنبي في ليبيا، واعتبر أن الحل في ليبيا ينبغي أن يتم بين الفرقاء الليبيين، وأن التدخل الأجنبي بمختلف ألوانه هو جزء كبير في المشكلة، ولا يمكنه أن يشكل الحل، وهو منزعج أيضا من سياسة تركيا المتوسطية، ولا يطمئن لتقاربها مع الجزائر، ولا لمساعيها بتوسيع نفوذها في القارة السمراء، لكن موقف تركيا الواضح من قضية الصحراء، وانفتاح الأتراك على التعاون الاقتصادي والتجاري والعسكري، والصراع الذي تديره أنقرة مع الاتحاد الأوروبي، كل ذلك، يجعل أردوغان مفضلا لدى المغرب، أو على الأقل مقدورا على التعامل معه والاطمئنان إليه، وذلك لثلاثة، الأول، أن هناك عنصرا مشتركا يجمعهما، وهو التخوف الأوروبي من صعود تركيا في الشرق وصعود المغرب في الغرب، لاسيما وقد أبانا في السنوات الأخيرة عن مسلكيات متقاربة في الضغط على أوروبا لتحصين المصالح القومية بما في ذلك استثمار ورقة العلاقة مع إسرائيل في هذا الاتجاه. والثاني، أنهما معا، يمثلان عنوانا لاستئناف مشروع نهضوي تاريخي، ينظر إليه الغرب بكثير من التوجس والحذر. وأما الثالث، وهو أن البلدين معا، يعرفان تعددا إثنيا، وأن جزءا مهما من السياسات الخارجية الأمريكية والأوروبية، تلعب بورقة الإثنية لإضعافهما، وأنهما معا، يبنيان نموذجهما على وحدة الطيف المجتمعي.

بالنسبة للمعارضة، يبدو الأمر مختلفا، وذلك لأسباب كثيرة، أولها، أنها تدور في المحور الأمريكي، وستكون في حالة الفوز بالرئاسة غير قادرة عن التحرر من الارتهان إلى السياسة الأمريكية والأوروبية، وهو ما سيجعل موقفها من الصحراء غير خاضع لاعتبارات مبدئية. وأما الثاني، فهذه المعارضة، لا تربطها بالمغرب أي نقاط اتفاق على مستوى التناقضات الدولية والإقليمية، فمن المؤكد أنها ستغير موقف تركيا المتوازن من الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وستبتعد كثيرا من الحضن العربي والإسلامي، وستكون أقرب إلى دعم نزعات الانفصال منها إلى دعم وحدة وسيادة الدول الصديقة، وستخرج بدون شك من دائرة إدارة التوتر مع الغرب، بما يعزل موقف المغرب، ويضعف قدرته على تدبير الصراع مع دول أوروبا لتحصين مكتسباته السابقة.

تبدو مصالح الدولة المغربية أقرب إلى أن ترى رجب طيب أردوغان في الرئاسة مرة أخرى، على أن ترى المعارضة تسقطه في الجولة الثانية، لكن، مع ذلك، ثمة اعتبارات سياسية، تجعل من إدارة لعبة التوازن أمرا ضروريا، فعلى مستوى السياسة الخارجية، لا يوجد أدنى شك، أن فوز المعارضة يمثل تحديا بالنسبة إلى المغرب، لكن، على مستوى إدارة الديناميات الداخلية، وبشكل خاص، على الواجهة الإعلامية، ثمة مكاسب مهمة مؤقتة، يتم تحقيقها من ترويج فرضية «نهاية تجربة العدالة والتنمية في تركيا» تندرج ضمن تحقيق التوازن السياسي الداخلي.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M