الطائرة الحقيقية.. (قصة قصيرة)

11 مايو 2016 21:39
وضع الكحل في عيني الأسد

أحمد هيهات

هوية بريس – الأربعاء 11 ماي 2016

كان لبشّار حلم كبير يزيد كبرا وعظما كلما زادت سنوات عمره التي لم تعادل بعد أصابع يديه الغضة، فهذا الحلم لم يفارقه منذ أن نظر بوعي بريء للعبة ابن جيرانه حافظ بحب كبير وشغف منقطع النظير ورغبة كبيرة في امتلاك مثل تلك الطائرة التي تطير بين يدي حافظ طيرانا حقيقيا في عيني بشّار وإن كانت في حقيقتها مجرد لعبة بلاستيكية من صنع صيني.

منذ ذلك اليوم وهو يحلم بامتلاك طائرة حقيقية يمسكها بيديه ويستمتع برحلتها راكبا مقاوما لحظة هبوطها القوية المخيفة بعينين جاحظتين، متمتعا بقيادتها ربانا يسابق بها الغيوم المتمهلة التي لم تستقر بعد على اختيار مكان الهبوط والهطول، ويراقص بها أسراب الطيور التي تبسط أجنحتها في السماوات لا تخشى الأيادي الآدمية الماكرة التي تقدم الطعام باليد اليمنى وتشحذ السكين باليد اليسرى.

أيقظه والده الذي كان أسمر اللون أصفر الأسنان أشعث الشعر تلك الليلة من نومه في ساعة متأخرة بعد عودته من هيامه الطويل على وجهه بلا وجهة أو قرار، عاد وقد تأبط خيرا كبيرا لابنه، قام بشار من نومه متثاقلا وهو يدعك عينيه ليخلصهما من الغشاء الرقيق الذي يغطي جفنيه بسبب الرمد الربيعي الذي يهيج مع المواد المحسسة كاللقاح وغبار الطلع الذي يكثر في هذا الوقت من السنة، ومع الانفراجات الأولى بين الجفنين لمح مقدمة الطائرة فطار من مكانه تجاه والده وتناول الطائرة الصغيرة دون أن يلقي التحية على والده الذي عاد بعد غياب طويل، وبدأ من توه الجري وتحريك الطائرة اللعبة في حركات تحليق متقنة وصوت مرافق معبر عن اقتراب أو ابتعاد الطائرة، تابع بشار تحليقه بطائرته إلى أن انبلج فلق الصبح.

بدأت أحلام بشار وتطلعاته تكبر فطلب من والد أن يصطحبه إلى رؤية طائرة حقيقية وهي تقلع مخلفة رياحا تقتلع الأشجار ذات الأصول غير الثابتة وغير المتجذرة، وتحلق بصوتها المدوي المرعب الذي يكاد يخرق الأرض، لأنه يريد تطوير أدائه في قيادة طائرته والتحليق بها، بصورة تحاكي بل تطابق التحليق الحقيقي للطائرة، فأجابه والده بأن الأمر ليس سهلا ولا متاحا إلا في ظروف معينة ومخصوصة، وأنه لا يرى الطائرة إلا المسافرون عبرها أو العاملون في المطارات، وما سوى ذلك فإنه أمر متعذر، وحتى يطمئن ابنه أكثر أخبره أنه أيضا لم يسبق له أن رأى طائرة حقيقية إلا عبر التلفاز في الأفلام أو عندما يستقلها أو ينزل منها أحد المسؤولين الكبار الذين لا نراهم أيضا إلا عبر شاشة التلفاز.

لم يقتنع بشار ولم يستسلم وعمل على معاودة الطلب من أبيه من حين إلى آخر وفي كل مرة كان يحصل على الجواب نفسه، فتمتلئ نفسه حزنا وكمدا على خيبة أمله في رؤية حبيبته الوحيدة التي يمكنه أن يقدم في سبيل رؤيتها أغلى وأحب ما لديه حتى روحه شرط أن يحتفظ بالحواس التي تساعده على الاستمتاع بلحظة اللقاء بحبيبته الطائرة.

مرت الأيام ودارت الأيام ولكن اللقاء لم يحصل، فبدأ اليأس يتسلل إلى قلب بشار وعقله ثم بدأ يتخلص من هذا الحلم الذي استعصى على التحقق، واكتفى من الطائرة بالصورة، وضرب صفحا عن الأصل الذي يبدو أنه غير موجود وغير متاح في دنيا الفقراء الذين يجب أن يحلموا بوعيهم وألا يستسلموا للاوعي الذي يسخر منهم ويوهمهم بأنهم والأغنياء سواء في الأحلام.

في يوم من الأيام وبينما القرية الصغيرة التي يسكنها بشار رفقة أسرته تغط في نوم عميق قبيل الفجر بساعة وبضع دقائق، انتهى إلى سمع بشار دوي طائرة على مسافة تتضاءل شيئا فشيئا، فظن أنه يحلم وحاول أن يطرد هذا الحلم المستحيل من نومه، غير أن الصوت يزداد قوة وقربا فقرر أن يستيقظ حتى يتخلص من هذا الصوت الذي لم يعد يرغب في سماعه في أحلامه، ولما استيقظ لم يختف الصوت بل قوي واتضح، فخرج من البيت ليستطلع الأمر فرأى أنوار الطائرة المبهرة، فبدأ يصرخ فرحا وسعادة ويلوح لها بيديه، ثم دخل مسرعا ليوقظ والده من أجل أن يرى الطائرة الحقيقية هذه المرة، ولكنه لم يعد لأن الطائرة الروسية الصنع قد دمرت المنزل ومن فيه.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M