العدل والإحسان وأفق المشاركة السياسية

16 فبراير 2024 21:48

هوية بريس –عبد الرحيم مفكير

تقديم: السياق العام للوثيقة السياسية للعدل والإحسان

بتاريخ الثلاثاء 25 رجب 1445هـ/ 6 فبراير 2024م أصدرت جماعة العدل والإحسان وثيقتها السياسية إلى الرأي العام ونخبه وقواه السياسية والمدنية، الوثيقة التي جاءت في سياق سياسي دولي ووطني مـتأزم عرف حربا روسيا على أوكرانيا، وهجوما وحشيا من الصهاينة على قطاع غزة بعد طوفان الأقصى السابع من أكتوبر بعد حصار تجاوز 16 سنة من الحصار والتجويع والتنكيل، ومحاولة القضاء على فصائل المقاومة الفلسطينية دون أن يتحقق المبتغى، وتأييد دولي غير مسبوق عرى التبجح الغربي بالديموقراطية وحقوق الإنسان. وقد تكالبت كل القوى على قطاع معزول وحركة مقاومة صامدة بعثرت كل أوراق المنتظم الدولي، وأخرجت ملايين الحناجر  المعارضة للإبادة الصهيونية لشعب أعزل، وأذكت الحماس، وأحييت الروح من جديد في نفوس جيل الممانعة والمقاومة، وكشفت عن سوءات أغلب الأنظمة الخانعة والتابعة للغطرسة الأمريكية. وعلى المستوى الإقليمي ما زالت قضية الصحراء المغربية تعرف صراع الإخوة الأعداء حيث انحاز الحكام الجزائريون لمقولة تحقيق المصير، والدعم اللامشروط للبوليساريو، بالرغم من أحقية المغرب في أراضي والتي هي جزء منه تستولي عليه الجارة الجزائر، وتحدي المغرب لكل أعداء وحدته الترابية بتنمية أقاليمه الجنوبية، والاستثمار في عمق إفريقيا، والمحافظة على  وحدته الترابية، وفي السياق المحلي جاءت الوثيقة بعد تجربة تدبير الإسلاميين للشأن العام خلال ولايتين متتاليتين، وما صاحبها من تحديات وحاجة إلى تقييم المرحلة، وعرض المنجز الحكومي للعدالة والتنمية الذي اختار المشاركة السياسية، وخاض غمارها منذ الوحدة ، والالتحاق بحزب الدكتور الخطيب، عكس خيار جماعة عبد السلام ياسين، وتوقف هذا المسار بعد 8 شتنبر الذي جاء بالأحرار لتسيير الشأن العام، والاخفاقات التي عرفتها أغلب القطاعات، لاسيما الصحة والتعليم، ومجال التنمية، وإضراب الأساتذة الذي دام أشهرا ما زالت تداعياتها إلى اليوم بالرغم من توقيع محضر اتفاق بين الحكومة والنقابات، والأخطر فضيحة مسؤولين برلمانيين ومستشارين، وتورطهم في قضايا فساد كبير. وموت لأغلب الأحزاب السياسية ونفور المواطنين المغاربة من العمل الحزبي والنقابي، وأضحى المغرب بلدا بدون طعم سياسي أو نقاش فكري، وعدم الاهتمام بالتحولات المجتمعية، والانغماس في التحديات اليومية لتلبية الحاجيات الأسرية الضرورية، وفتح الباب على مصراعيه لنقد السياسة المغربية وخيارات الدولة والأحزاب عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

في هذا السياق المكهرب تأتي الوثيقة السياسية التي اختير لها الزمان، فهي في شهر رجب، تعبيرا عن مرحلة الإسراء والمعراج من عالم إلى عالم، ومرحلة إلى أخرى، قد تكون إيذانا بفك الارتباط بين التربوي والسياسي، أو تشكيل حزب سياسي بالمغرب ينضاف إلى باقي الأحزاب التي تعرف أعطابا عدة، ونفورا شعبيا، وتهما بالاسترزاق والفساد، ومجالا للغنى والتسلق المجتمعي، باستثناء بعض من حافظوا على ماء الوجه، وبقوا أوفياء لمبادئهم وللعمل السياسي المتزن. وتحمل هذه الوثيقة التي تمتد إلى  196 صفحة، رؤية الجماعة للعديد من القضايا الراهنة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية في كل المجالات، وتتوزع إلى مقدمة وأربعة محاور كبرى:

-المنطلقات والأفق

-المحور السياسي: حرية وعدل وحكم المؤسسات

-المحور الاقتصادي والاجتماعي: عدالة وتكافل وتنمية مستدامة

-المحور المجتمعي: كرامة وتضامن وتربية متوازنة

وقد حضر للندوة الصحفية التي عقدتها الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان شخصيات سياسية وأكاديمية بارزة، أغلبها يتقاسم مع “العدل والإحسان” قناعات إيديولوجية إسلامية (حركة التوحيد والإصلاح، البديل الحضاري)، أو قناعات سياسية حقوقية (خديجة الرياضي، المعطي منجب الخ).

مسارات العدل والإحسان

لقد مرت جماعة العدل والإحسان من مسار طويل منذ التأسيس إلى اليوم، وارتبطت بشخصية كاريزمية تمثلت في الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله، الذي أصبحت الجماعة تصف بالإمام المجدد. وجاءت أغلب الرؤى التصورية والبرامج برؤية شيخها متضمنة  في أغلب كتبه. وكانت مرحلة النشأة والتثبيت 1972 – 1979م ، حيث بدأت باختيار الفقيد عبد السلام ياسين الخروج من جلباب البوتشيشية، وتوجيه   رسالة ” الإسلام أو الطوفان “إلى الراحل الحسن الثاني رحمه الله، و لا يمكن في الأدبيات الفكرية تجاوز كتاب ” الإسلام بين الدعوة والدولة الصادر سنة 72م و“ الإسلام غدا“ 73م، ووجهت أغلب الأفكار المتضمنة بقراءات  نقدية ركزت على التصوف . ويمكننا اختزال كتاب الإسلام بين الدعوة والدولة”  في مجمله في مستويين: مستوى بينة الدولة، ومستوى خاصية العمل الإسلامين ثنائية الدعوة والقيادة الجهادية،  وانعدام التمييز بين الدين والسياسة لإقامة الدولة. وقد رفض في الكتاب الثاني جاهلية عبد السلام ياسين جاهلية المجتمع القطبية ليستبدلها بالفتنة.

ففي هذه المرحلة ركز على إنجاز مهمتين الأولى في تقعيد العمل الإسلامي ( وضع الأسس الفكرية نظرية الجهاد والتربوية مفهوم الصحبة (صوفي)، والثانية سياسة توحيده ( مجلة الجماعة 79)  محاولة التوحيد بين السلفية والصوفية ص 29.

 أما التوحيد الأفقي بين الإسلام الدعوي والإسلام الحركي ( ينظر إلى ان الجماعات القائمة اقتصرت عل جانب واحد من التربية إما الروحية أو تعليم النصوص الشرعية ص 30).

وفي خطوة  ثانية يمكن تسميتها بمرحلة البناء  انطلقت سنة 1980 م،  فقد شرعت الجماعة في بناء نفسها، وانتقلت من الدعوة الخاصة إلى الدعوة العامة، وتوجه المرشد العام إلى النخبة لمحاورتها، ودعا المثقفين للالتحاق بالجماعة، وتم تصحيح المفاهيم حيث اختار القومة عوض الثورة، وبين المأزق القومي. ليأتي التحول من الإطار العام إلى الإطار الخاص انطلاقا من أسرة الجماعة إلى جمعية الجماعة الخيرية 83/87 ( انظر فصول القانون الأساسي ص 47 وما بعدها )

وتعتبر  سنة 87، سنة التحول في فكر الجماعة ومسارها حيث رفع شعار ” العدل والإحسان“ وتم وضع إطار للهيكلة المؤتمر العام، المرشد العام، مجلس الإرشاد، مجلس التنفيذ القطري، الهيئات التربوية (الأسرة، الشعبة، الجهة، الإقليم) الهيكلة القطاعية القطاع الطلابي …
1990 م حضر الجماعة وشد الحبل مع السلطة 30 دجنبر 90حصار المرشد العام (السيرة الذاتية ص  63 وما بعدها).

وفي مرحلة ثالثة تأسست الدائرة السياسية للتعبير عن رؤية الجماعة لما هو حزبي وسياسي، مع التمسك بموقف اللامشاركة، ورفض الدساتير التي تعتبر ممنوحة، والاعتماد على التأطير الجماهيري لتشكيل الجماعة الضاغطة، والقيام بالقومة بتربية المجتمع على رفض كل اختيارات المخزن، وانتظار توفير الشروط الموضوعية للمشاركة السياسية، وانتقاد تجربة التوحيد والإصلاح، التي تعتبر في تصور الياسينيين حركة منبطحة ومخزنية وإن لم تعبر عنها في أدبياتها، ولكن يتداولها أعضاؤها لدرجة تخوين زعمات هذا التنظيم الذي اختار طريقا مخالفا لها، بالرغم من الغزل المتبادل في بعض المناسبات بين التنظيمين، والأكيد أنهما على مفترق الطرق. وهذا ما دفع الجماعة للانفتاح على تيار اليسار الراديكالي والحقوقيين، ومن يلتقون معهم في الموقف من المخزن، وتجلى ذلك بوضوح خلال انتفاضة الربيع العربي، وما فتئت الجماعة أن انسحبت من هذا التنسيق لاعتبارات بسطتها في مواقعها وعلى لسان قياديها مما دفع مكونات التنسيق لتوجيه تهم للجماعة.

إن مرحلة ما بعد الحسن الثاني والعهد الجديد بقيادة محمد السادس، تم فيها الإفراج عن الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله، الأمر الذي دفع الجماعة للتفكير في حكامة إدارة المرحلة، والتعامل بحكمة مع الواقع الجديد. وقد أسفرت هذه المرحلة عن تحركات عبد السلام ياسين رحمه الله الذي جاب المغرب للتواصل مع القواعد، وفي نفس الوقت التفكير الجدي في مخطط “ما بعد الحصار” وكان لزاما الانفتاح على كل الأطياف المجتمعية والحساسيات، إلا أنه التبشير بنهاية نظام في 2006م بعثر كل الأوراق. ولم تغير الجماعة موقفها من المخزن، وبقيت متمسكة برؤيتها وتصورها حول طبيعة النظام، وحلم الخلافة على منهج النبوة، إلى أن خرج الفقيد عبد السلام ياسين رحمه الله بتوجيه رسالة إلى من يهمهم الأمر اعتمدت مصطلحا جديدا وهو التوبة العمرية، تعامل معها النظام برد سريع من طرف المجلس العلمي الأعلى عبر كتيب.

لقد اعتمدت الجماعة في أغلب أدبياتها على كتابات المرشد العام فهو المنظر والمؤطر للفكر مما يفرض حسب باحثين منهم ضريف محمد، اعتبار الجماعة جماعة ياسينية ، ولا نكاد نجد كتابات الأعضاء إلى لماما، ونشطت هذه الكتابات بعد رحيل رئيس الجماعة.

إن من أسس الجماعة التربية الروحية ” الصوفية“ بكل شروطها، وتأثرت بالفكر الشيعي على مستوى الطرح السياسي “ولاية الفقيه” “ولاية المرشد” “ونظرية الخلافة” . ويبقى من أهم مميزات الجماعة علنية الممارسة والوضوح في الخطاب ونبذها للعنف.  وقد رفضت الجماعة فكرة المفاصلة ونبذت السرية وقبلت بالمشاركة على مستوى التنظير دون التطبيق إلا بتوفر شروط تقدمها بين يدي هذه المشاركة، التي يمكننا أن نسميها المشاركة المشروطة.

رهانات الجماعة: رهان تكتيكي ورهان استراتيجي ، ويقصد بالأول جماهيرية الخيار الإسلامي ، فبصدور كتاب ” الاسلام وتحدى الماركسية اللينينية 87 ” يتأسس فكر مركزية ” تنهيج ” الدعوة أي التدرج بالإنسان من موقعه الإنساني ، من ظروفه المادية ….. إلى فك الرقاب، ويطمح هذا الفكر توسيع مجال جماهيرية الدعوة كي تصل إلى الجامعات والنقابات والتعاونيات والجمعيات المهنية والشباب …. وقد تأتى لها ذلك وركزت على المسألة الاجتماعية، وأعدت لذلك البرنامج ، والأداة كانت المنهاج النبوي: تربية وتنظيما وزحفا  82 م الذي يعتمد التربية الإيمانية لإعداد جيل التغيير وتربية الناس على منهج النبوة الصافية وتحصين التنظيم بتطبيق بنوده في اختيار المسؤولين( صلاحيات المرشد ، وغيرهم ص 155 وما بعدها).

الرهان الاستراتيجي: إعادة بناء الخلافة على منهاج النبوة،  والذي سيتغير بالحديث عن الخلافة العمرية ،  كما أسلفنا ،(انظر مراسلة الملك الشاب ” إلى من يهمهم الأمر والتي رد عليها القصر برفع الحصار عن المرشد العام ليبدأ الحديث عن حصار الجماعة. الرهان الاستراتيجي سنده المرجعي يتجلى في ” نظرات في الفقه والتاريخ“ 89 م والذي تأثر فيه صاحبه بالثورة الإيرانية ومجد فيه الشيعة وأثنى على ولاية الفقيه. ويؤسس فيه إلى وجوب تحقق الموعود النبوي بصياغة ميكانيكية، وجعل له سنده السلوكي ” جند الله“ وهذا المصطلح هو عنوان كتاب لسعيد حوى ضمنه مراتب الجند ومواصفاتهم، ومواصفات الخصال العشر، والصحبة والجماعة، وخصال الصحبة، ومدارج السالكين،….

لقد قسم المرشد العام ، واعتبر انتقال الأمة  من الخلافة إلى الملك العاض انكسارا تاريخيا يقتضي تعرفا عل القوانين الموضوعية التي حكمته، كما يتطلب إدراكا لدلالاته، وتطابق المرجعية الشرعية مع المرجعية التاريخية يبين أن الدعوة الإسلام تشكل ماضيا وحاضرا ومستقبلا من خمس مراحل:

المرحلة الأولى: مرحلة النبوة
والثانية: مرحلة الخلافة على منهج النبوة
والثالثة: مرحلة الحكم العاض بدأت بانتهاء الخلافة الراشدة
المرحلة الرابعة: مرحلة الحكم الجبري وهي التي تعيشها الأمة حاليا، والحكم الجبري هو الحكم الديكتاتوري بلسان العصر
المرحلة الخامسة: عودة الخلافة على منهاج النبوة.

العدل والإحسان والمشاركة السياسية:

هل تؤمن جماعة العدل والإحسان بالمشاركة السياسية، وعلى أي أساس، وما شروط هذه المشاركة، وكيف تعيش حالة التناقض بين تصور الشيخ عبد السلام ياسين وتنزيل الرؤية؟ وهل هي جماعة تربوية أم فاعل سياسي، أم هما معا، وما مجال اشتغال الدائرة السياسية؟ هذه وأسئلة أخرى تفرض علينا مساءلة ما كتبه الشيخ عبد السلام ياسين، للوقوف على مشروعه السياسي.

إذا تتبعنا التصورات والرؤى المذهبية في المجال السياسي و النقابي عند الجماعة  نجد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله  في تشخيصه لمشاكل الأمة يرى أنها متشعبة، كما أن مهمات البناء ثقيلة وحددها في مشكلات سياسية واجتماعية وأخرى مرتبطة بالفساد السياسي والاجتماعي… أما مهمات إصلاح هذه الأوضاع فيكون بعد ” القومة” مثل الجبال، ويقترح ضرورة إشراك الشعب المستضعف والتائبون من كل الطبقات. يقول عبد السلام ياسين” وعندما يستفحل وباء الرأسمالية ويطوق عنق العامل والفلاح والشعوب المستضعفة بطوق هيمنته ليمص الدماء نقوم إن شاء الله القومة الكبرى ومن ضمنها القومة الاقتصادية” ذ: عبد السلام ياسين: مجلة الجماعة ع 11 ص 39/40/41 بتصرف. وهذه القومة في حاجة إلى جهاد سياسي وجهاد التنفيذ.  والمقصود بالتنفيذ نهوض الجماعة القطرية لتعلن نفسها أو تسر وجودها ثم لتزحف إلى الحكم وتستولي عليه وتعيد ترتيب البيت وتوجه المسار وتعرف المعروف وتأمر به بعد أن تنكر المنكر وتطيح به نفسه ص 44.

وتم تحديد إمكانات العمل التنفيذي في ثلاثة خطوط أساسية: 1- الدخول في تعددية الأحزاب والترشيح للانتخابات وما يقتضي هذا من علنية العمل والمرونة الدائمة وطول النفس 2- الخط المتميز والقوة والتمرد والرفض 3- خط التنفيذ بالقوة بعد أن يتم الإعداد نفسه ص: 45/46/47/50 بتصرف.

 تنهيج الدعوة عند الجماعة كما يعبر عنه ضريف يستوجب أمرين ” تفعيل” الممارسة و ” تحيين الخطاب”، وتفعيل الممارسة يفيد توسيع مجال الدعوة، وتراهن الجماعة على ” جماهيرية” الدعوة وتحرص على توسيع مجالها كي ” تصل إلى المدارس والجامعات والنقابات  والتعاونيات، والجمعيات المهنية، والثقافية والنسوية، واتحاد الرياضة والشباب، وما إلى ذلك من المنظمات والتجمعات الموجودة فعلا” المنهاج النبوي ص 53 / 137.

وتتحقق هذه الجماهيرية عبر التغلغل في أوساط الشعب، فمكان المؤمن في مجالس الناس ونواديهم وكلمته ” لكل من لقي عضوا في تنقلاته في الحافلة، وفي مدرسته، ومكتبته، ومعمله، وجواره، وشارعه …. ولا يترك الفرص تأتي عفوا بل يهيئها بقصد الناس” نفسه.

ولا بد من مراعاة طبيعة الجماهير التي تفترض ضرورة تحيين الخطاب مما يستلزم منح الأولوية للمسألة الاجتماعية. ومحورية المسألة الاجتماعية تأتي من ضرورة إبراز شمولية الإسلام: إسلام يهتم بالدين، والدنيا، بالسماء والأرض، وإظهار فاعلية الإسلام. جاء في المنهاج” فالعمال تحت الفتنة ينتظرون أن يوفر الإسلام عملا، الجائعون يريدون خبزا، المحرومون يريدون إنصافا، الشباب يريدون تعليما ومستقبلا…. الفلاحون يريدون أرضا، الكل يطالب” نفسه ص 273.

 كما تستوجب محورية المسألة الاجتماعية تبيان واقعية الإسلام. وعلى جند الله إبرازا لواقعية الإسلام أن يميزوا بين خطاب الإحسان والإيمان، وخطاب الإسلام، واستحضار الحقيقة الثابتة ” أنه في أذن الجائع لا يسلك إلا صوت يبشر بالخبز، في وعي المقهور المحقور لا يتضح إلا برهان الحرية… فمن كان شغل يومه ونهاره هم القوت، والمأوى، والكسب، والشغل، والدين، ومرض الأطفال ومصير الأسرة ، لن يستمع لعرض المبادئ العليا ولو كانت دينا يؤمن به، لا وقت له، لا استعداد، لا مناسبة” الإسلام وتحدي الماركسية الليلينية ص 12.

السؤال الذي يطرح بإلحاح ما منهاج الإسلام في السياسة والاقتصاد، والاجتماع، والتربية، والتعليم، والصناعة، والتجارة، يجيبنا ذ عبد السلام ياسين رحمه الله” نحن بحاجة لخطاب يبلغ الأسماع ويخرق الحصار الإعلامي. أقصد نظرة اجتهادية إسلامية شاملة شمولية تبين للمثقف والعامل، والفلاح، والرجل، والمرأة، والصديق، والعدو كيف يصبح القرآن وهو طلبة المسلمين المستضعفين قانونا عمليا يوجه الحياة اليومية ويقسم الأرزاق وينظم الاقتصاد ويصنع البلاد وينصر دين الله في الأرض” مجلة الجماعة مرجع سابق ص 28/31 بتصرف.

  ذ عبد السلام ياسين رحمه الله، بعد أن أصل لمفهوم العمل وأهميته في الإسلام أكد على حقوق العمال ” يجب أن تعطى للعمال حقوقهم الفردية فيما يخص الأجرة العادلة، وظروف العمل، ومؤونة الأسرة، وصيانة الصحة، وتربية المهارة، وترقية المرتبة، وتوقيت الشغل…. إلى أن يقول إن اقتصر القانون على تسمية الحقوق الفردية وترك التطبيق لإرادة المشغلين فستؤول النزاعات الفردية بين العامل ومشغله إلى الحل التعسفي الذي يأكل القوي بمقتضاه الضعيف. كان العامل عسيفا، ويكون تحت نظام جاهلي، وتقاس إسلامية الدولة برفعها العسف عن العامل ” ذ: عبد السلام ياسين: في الاقتصاد البواعث الإيمانية والضوابط الشرعية ص 177/184 بتصرف.

 وفي نفس الفصل عرف بالنقابة وحدد مهامها يقول ” يجب أن تقوم النقابة تحت ظل دولة القرآن بغير المهام التي تقوم بها نقابات الشيوعيين من كونها أداة من أدوات الدولة. ويجب أن تسلك أسلوبا غير أسلوب الإضراب والعنف الذي تسلكه نقابات الرأسمالية وأصحاب الشغل… نقابات تفاوض، وتضغط معنويا وقانونيا، لا نقابات رفض وتخريب. وعلى الدولة أن تقدر المصلحة وتحمي العسيف لتلتقي بواجبها في الجمع بين مصلحة الأمة كلا ومصلحة المستضعفين عضوا حيويا في الأمة، تضيع الأمة بضياعه، وظلم العسيف خراب” نفسه ص 184/ 185.

هذا التأصيل تبعه تأسيس الدائرة السياسية وهي إطار يعنى بكل ما يتعلق بالشأن العام من خلال رؤى وتصورات الجماعة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لم يكن تأسيس هذا الجهاز تغييرا لمسار الجماعة أو إعادة النظر في ثوابتها، فمنذ أن رفعت الجماعة شعار “العدل والإحسان” سنة 1987 حددت بوضوح الغايتين الساميتين لمشروعها المجتمعي والدعوي وأعلنت على أن هم الارتقاء الفردي في مدارج الإيمان وهمَّ تحقيق العدل ونصرة المستضعفين متلازمان في تصورنا. فالله سبحانه وتعالى يقول : “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون” (سورة النحل الآية 90) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “من أصبح وهمه غير الله عز وجل فليس من الله في شيء ومن لم يهتم للمسلمين فليس منهم  والعمل السياسي ليس طارئا في الجماعة وإنما هو من صميم منهاجنا العدلي الإحساني كما يعبر عن ذلك الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله بقوله : “السياسة بعض من شأننا“. وقد جاء تأسيسها تعبيرا لرفض التضييق المخزني على الجماعة، حيث توالت مبادراتها السياسية وأصبح لها حضور قوي في الشارع المغربي، بل إن جرأتها في الحق أسست لخطاب سياسي وحقوقي جديد يرفض الخطوط الحمراء ويفضح الفساد أيا كان مصدره.  ومع تنامي قوة الجماعة وتعدد واجهات عملها واستشرافها للمستقبل وفي وقت تأكد فيه لجميع المتتبعين لأحوال المغرب أن التدبير الرسمي يعيش حالة اختناق أوصلته إلى الباب المسدود، وأصبح فيه المغرب على مشارف مرحلة جديدة تقتضي استنهاض همم جميع أبنائه وتكثيف جهودهم من أجل المساهمة في عملية تغيير شامل وجدي، ارتأت الجماعة تأسيس الدائرة السياسية كإطار متخصص ذي هدفين أساسيين :أ‌. الإعداد للمستقبل ب‌. السعي لتوحيد جهود الفاعلين السياسيين

إن الجماعة تعتبر أن أزمة المغرب أكبر من أن يتصدى لها طرف واحد, وأنه قد آن الأوان للم شمل كل طاقات هذا البلد الحبيب والبحث عن روح الوحدة الكامنة في النفوس والتي يفرضها الواقع والتحديات التي يواجهها المغرب في هذه الفترة العصيبة من تاريخه. من هذا المنطلق تسعى الدائرة السياسية للتواصل والحوار والتعاون مع كل مكونات المجتمع المدني والتحضير لميثاق إسلامي يوفق بين جميع الرؤى ويوحد كل الجهود.

وكان من المبادئ الأساسية للجماعة في عملها السياسي التي تمثل ثوابت في تصورها وضمانات لعدم انحراف ممارستها السياسية عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نذكر منها : أ‌. التربية قبل كل شيء و التربية مع كل شيء و التربية بعد كل شيء ب‌. الولاية بين المؤمنين والمؤمنات ت‌. نبذ العنف ث‌. نبذ السرية ج‌. نبذ التبعية للخارج ح‌. ضرورة الحوار والتنسيق على أرضية الإسلام.

إن جماعة العدل والإحسان إذ تطرح هذا الاختيار تستحضر أن هناك أصولا إسلامية جامعة، وفروعا وجزئيات وسبلا ووسائل متعلقة بالمتغيرات لا تضر معها تعدديةُ الرؤى والمناهج، وتعدديةُ الدعوات والتنظيمات، بل ربما تكون هذه التعدديةُ مصدر ثراء تنظيري و فكري.  إن سلمنا بأن ضامن الوحدة في بلدنا هو الإسلام أمكن أن نبحث بعد ذلك عن القواسم المشتركة التي تجمعنا وأن نحدد مجالاتِ التعاون ومجالاتِ الاختلافِ والتأكيدِ على إمكانيةِ التعايش مع الاختلاف.  ما يمكن أن يجمعنا، حسب الجماعة، كثير؛ سواء على مستوى القطر، أو على مستوى الأمة العربية والإسلامية جمعاء. 
فهناك مجالاتٌ فسيحةٌ للعمل المشترك، منها التعاون الجاد في مجال الدفاع عن الحريات وحمايةِ حقوق الإنسان والتعدديةِ السياسيةِ واحترام الرأي الآخرِ واحترامِ حقِّ المعارضةِ والتداول السٍّلمي على السلطة لمنع التسلط ولمنع الحروب الداخلية.

على هذه المرتكزات تتصدى الدائرة السياسية للأهداف الكبرى للبرنامج السياسي لجماعة العدل والإحسان والتي يمكن إجمالها فيما يلي: تحقيق الشورى ، تحقيق العدل ، الحرية ، الوحدة ( انظر موقع عبد السلام ياسين ).

الرؤية السياسية للعدل والإحسان مشروع تغيير تاريخي

الوثيقة بدأت بالتأكيد على الإطار المرجعي للجماعة والقضيتين المحورتين في فكر الجماعة ومشروعها وبرامجها، انطلاقا من شعار الآية المعتمدة يقول عبد السلام ياسين رحمه الله ” نحمل إخوتي شعار العدل والإحسان ليكون لواؤنا بين الدعوات ثائرا خفاقا بخفقان حب الله في قلوبنا، وخفقان الحب في الله، والذلة على المؤمنين، وحب المساكين، والجهاد في سبيل الله والمستضعفين، وليكون عنواننا في السياسة منشورا مشهورا، له أصالته من القرآن، وله واقعيته من غضبنا لما تنتهكه الطبقة المترفة
المستكبرة من حقوق الله وحقوق العباد» (رسالة الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله إلى
عموم أعضاء الجماعة، .1987 “.

وتروم الوثيقة التفاعل مع الواقع بتحدياته وفرصه لبناء المستقبل، وهي مدركة  لما تتسم به المرحلة الحالية من صراع وتقاطب دوليين، وتصاعد للغطرسة الصهيونية وتمددها في بلاد المسلمين عموما وفي بلادنا على وجه الخصوص، كما تعي جيدا تغول السلطوية في مغربنا، وتمادي الحاكمين في إهدار كرامة الإنسان، ومصادرة الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، وما يرتبط بذلك كله من تردي الأوضاع المعيشية، وتفشي الفساد، وانحلال الأخلاق، وإفلاس السياسات المتبعة وغيرها من المظاهر التي تعكس وصول بلدنا إلى حالة غير مسبوقة من الجمود والانحباس، مما يهددنا بانهيار عام -لا قدر الله- وتصدع شامل للنظام الاجتماعي. مما يؤكد أن الوثيقة مستوعبة لواقعها ومدركة للمتغيرات المجتمعية والتحديات الدولية والإقليمية. وحملت المسؤولية التاريخية لكل الغيورين في الحضور والفعل والمبادرة وتكثيف وتوحيد الجهود، والسعي لفتح مسارات قابلة للتحقق في المرحلة من أجل إيقاف النزيف والتأسيس لمستقبل الحرية والكرامة والعدالة. ومن هنا تأتي هذه المبادرة بنفس المساهمة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه بمنطق التدبير التشاركي المجتمعي، لتجنيب المغرب المخاطر والتهديدات. وهي بهذا تقدم الدعامة على أساس المنقذ أو المساهم في الإنقاذ في ظرفية جد حرجة يعرف فيها المغرب انسداد الأفق السياسي بعد ظهور  فساد في الأحزاب السياسية وتعثر المشاريع التنموية والإقلاع الاقتصادي، وتجاوز الأزمات والإخفاقات، دون إنكار لمجهودات الكفاءات والأطر التي يزخر بها المغرب، الغيورة على وطنها .

على مستوى المضمون فقد حرصت الوثيقة على تناول جل قضايا الشأن العام مركزة أساسا على ما يهم المغرب، ومعتمدة على لغة مشتركة من حيث المصطلحات حرصا على التواصل والتفاهم. وقد ميزت باشتمالها على المبادئ الاستراتيجية الراسخة الممتدة زمنيا والتي تشكل أسس تصور الجماعة لقضايا الشأن العام في علاقة بمشروعها الشامل. كما تضمنت فقرات تشخيصية آثرنا عدم التفصيل فيها إلا بما يلزم الموضوع من تأسيس وتقعيد للأسئلة الملحة والقضايا المعروضة في مجال تدبير الشأن  العام. كما شملت في جزء هام منها نفساً استشرافيا قريبا يمتد لبضع سنوات، أطرت من خلالها حدود التغيير الممكن في ظل التحولات الإقليمية والدولية والأزمات المحلية التي تعيشها بلادنا. وتجلى هذا النفس في مبادرة اقتراحية تروم عرض توجهات عملية وواقعية. وبقدر ما هي مختلفة عن أي نزعة تنظيرية مجردة، فإنها بعيدة أيضا عن أي نزعة تجريبية أو برنامج انتخابي مباشر. فقد أردناها أن تكون وسطا شارحا يقع بين مستوى الخطاب الاستراتيجي العام والمستوى التنفيذي التفصيلي. لذلك اخترت لهذه الوثيقة اسم «الوثيقة السياسية » تمييزا لها عن الورقة المذهبية وعن البرنامج الإجرائي في الوقت نفسه.

إذن نحن أمام وثيقة ادعت لنفسها أنها ليست برنامجا سياسيا أو انتخابيا، بقدر ما يمكن اعتبارها إطار مرجعيا لرؤية سياسية تساهم في تجاوز  الأزمة إلا أن التفاصيل التي تضمنتها الوثيقة في العديد من القضايا جعلتها أقرب للبرنامج الانتخابي

وليكون للوثيقة تأثير ومشروعية فقد تم إعدادها خلال الأربع سنوات الأخيرة، بمشاركة فاعلة
لأطر الجماعة في مختلف التخصصات وواجهات العمل الدعوية والتربوية والسياسية، فضلا عن الإسهام الكبير لمكاتب الدراسات والأبحاث التي تضم نخبة من خبراء الجماعة في ميادين متنوعة. كما حظيت بتشاور موسع شمل مختلف مؤسسات الجماعة بتنوع اختصاصاتها ومسؤولياتها محليا ووطنيا. وهذه الدينامية المصاحبة للفعل التغييري للجماعة برز من خلال المشاركة في النقاش المجتمعي حول مدونة الأسرة. ولم تدع الوثيقة لنفسها الكمال، بقدر ما تعكس إرادة الجماعة الصادقة في بناء مغرب جديد.

لقد هدفت الجماعة منذ تأسيسها إلى تجسيد الآية ” إن الله يأمر بالعدل والإحسان…” وبنت مشروعها التغييري على مفهوم العدل يقول عبد السلام ياسين رحمه الله: «وليس التغيير الذي نقول به ونعمل عليه مشروع تنمية يقف عند التنمية، أو مشروع عدالة اجتماعية ينْحد في إدماج اجتماعي يقارب بين طبقات الناس في المعاش، أو مشروع حضارة مهددة تدافع عن وجودها وبقائها، يكون بقاؤها غاية الـمنى وازدهارها النصر الـمبين، ولا مشروع هوية يخشى عليها أن تذوب وتضمحل  في الهويات لغالبة ِ. ويكون الحفاظ عليها من الاندثار أقصى ما تصبو إليه الأمة، التنمية وشروطها، والتميز الحضاري ولوازمه، والعدالة الاجتماعية وما تقرب وما تدمج، والهوية الخاصة وما تحافظ، كل هذه مجالات للتغيير الذي ننشُده، جسم َ ومظهٌر، الروح المحركة التي بها تحيا التنمية، وتتأتى العدالة، وتتألق الحضارة، وتتميز الهوية، إن لم تكن روح الإيمان بالله ورسوله، وشريعة الإسلام فإنما نحن ناس من الناس. لا نكون خير أمة أخرجت للناس كما يريد الله تعالى لنا» “الشورى والديمقراطية،1996ص 271و 272.” والتغيير السياسي عند الجماعة ليس غاية يرتبط بالمشروع الدعوي العام وبالتغيير التربوي، وتعبر الدائرة السياسية منذ ربع قرن على هذا التمايز، مثل ما تقدمه حركة التوحيد والإصلاح باعتمادها مبدأ الشراكة بينها وبين حزب العدالة والتنمية .

لا يروم المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان تحقيق تغيير سياسي مرحلي فحسب، بل إنه مشروع يمتد أفقه إلى إحداث تغيير تاريخي يتأسس على بناء الإنسان، وتشييد مجتمع العمران الأخوي، وترسيخ القيم الإسلامية والقيم الإنسانية المثلى.

لقد حافظت الجماعة على هويتها ومبادئها باعتبارها حركة إسلامية مغربية الأصل والمنشإ، وجماعة دعوية تربوية تتوب إلى الله وتدعو أعضاءها والناس إلى معرفة الله عز وجل والتوبة إليه، ثم هي أيضا حركة مجتمعية سياسية مكانها الأساسي والطبيعي هو المجتمع بما هو حاضنة شعبية، فهي على هذا النحو ليست توجها منزويا مستقلا عما يدور حوله، وليست مجرد حركة ثقافية فكرية، كما أنها ليست حزبا سياسيا بالمعنى المتداول للحزب السياسي تسعى للإسهام إلى جانب غيرها في تحقيق المعنى الكلي للعبادة فرديا وجماعيا ومجتمعيا، من دون احتكار للإسلام، وهي بهذا ليست جماعة تمثل عموم المسلمين بقدر ما هي جماعة من المسلمين تنطلق من مرجعتيها التنظيرية التي تضمنها كتاب المنهاج النبوي بما هو آلة للعلم ومرشد للعمل.

وقد ارتكز المشروع السياسي للجماعة على بناء الإنسان ومركزيته في ضمن المشروع في شموليته، وتشييد العمران الأخوي، وهنا تم طرح تصور للتنمية قد يخالف النموذج التنموي الذي تم إعداده قبل 8 شتنبر 2023م، وهذا التوصيف فيه إلى جانب كل الوسائل المادية للحياة الإنسانية اللازمة لعمارة الأرض وإنمائها والحياة فيها وتجنب الإفساد فيها معاني الولاية العامة محبة وتعاضدا وتعاونا وتكافلا، على قواعد الأخوة الإيمانية والأخوة الإنسانية، فنؤسس في معنى العمران لتوليفة جامعة لمعاني الازدهار والتقدم والتنمية والحضارة مع دلالات التضامن والتكافل.  كما يستند إلى ترسيخ القيم الإسلامية في تأسيس مفهوم المواطنة.

كما أن المشروع السياسي لجماعة العدل والإحسان ينبثق عن الرؤية العامة الناظمة لمشروع المنهاج النبوي التغييري؛ فهو يجسد تصور الجماعة واجتهادها العملي في مقاربة القضايا السياسية وتدبير الشأن العام، لذلك فإنه يتسم بأهداف وخصائص تحقق
التكامل والانسجام مع المشروع التربوي والدعوي، بل نقول دون مواربة إنه لا مشروع سياسي في تصور العدل والإحسان دون أساس تربوي وأفق دعوي. وخطها السياسي مبني على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمعارضة الشرعية القائمة على الشهادة بالقسط والكينونة مع المستضعفين قبل أن تكون معارضة تدبير المعاش والاقتصاد. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه
الله: «لن نكون إلا معارضة من المعارضات تنتقد الحكم وتطعن في كفاءته إن لم نتعرض لأصول الحكم الجائر، باعتباره خرقا في الدين وانتحالا تزويريا لقداسة الدين قبل كل شيء» “العدل، الإسلاميون والحكم، ،2000ص .104.” والمعارضة التي تتبناها الجماعة سلمية في بعدها الشرعي أو المعاشي.

وتتلخص الأهداف السياسية للجماعة في : بناء نظام شوري، تحقيق العدل بمعانيه  الشرعية وأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية، صون الكرامة، تحقيق الحرية، ترسيخ الوحدة والتعاون، ومن خصائص المشروع: الأصالة، تكامل الأبعاد، الوضوح، النسقية، المستقبلية، الوسطية والاعتدال، التدرج والمرونة، إن جماعة العدل والإحسان تسعى إلى الإسهام في بناء دولة العدل والكرامة والحرية، إذ تروم بناء نظام حكم عادل ومنضبط للتعاقد الدستوري المنبثق عن الإرادة الشعبية؛ نظام يقوم على سلط حقيقية ومستقلة ومتوازنة ومتعاونة، وعلى مؤسسات مدنية فاعلة ومبادرة.

وقد سطرت في الوثيقة السياسية رؤيتها لطبيعة النظام المغربي الذي اعتبرته احتكاريا وسلطويا ودساتيره منذ الاستقلال إلى اليوم ممنوحة، وتكرس السلطوية، ويشكل احتكار ” السلطة التأسيسية الأصلية” من قبل الملك، واعتباره فوق كل السلط، أحد الأعطاب البنيوية الأساسية التي أسهمت وتسهم في انغلاق النسق السياسي المغربي، وتحكم على مساره بالاختلال، وعلى نظام الحكم فيه بالمركزة والسلطوية. المخرج من هذا الوضع حسب الوثيقة   إعادة تأسيس دستور بشكل من الأشكال الديمقراطية، وتضع في المقام الأول ما يسمى في الفقه الدستوري ب «الجمعية التأسيسية غير السيادية،» وهو ما يعني انتخاب الشعب لهيأة تضع مشروع الدستور، ثم يطرح هذا المشروع على الشعب في استفتاء عام حر ونزيه من أجل قبوله أو رفضه. فهذا الشكل يجعل الشعب من
جهة أولى هو مصدر «المبادرة الدستورية» عبر انتخاب جمعية تأسيسية (أو مجلس أو مؤتمر، إذ لا تهم التسمية مادام الجامع أنها سلطة تأسيسية مؤسسة،) كما تجعله من جهة  ثانية صاحب الكلمة النهائية في الإقرار عبر الاستفتاء الدستوري حين يعرض «مشروع الدستور» على الناخبين ليكتسب مشروعية القوة القانونية بالتصديق الشعبي. كما تبنت الجماعة فصل السلط، وإرساء دعائم دولة الحقوق والحريات، واعتماد دولة الإدارة المواطنة والفاعلة، ومحاربة الفساد، والتمكين لدولة مستقلة، وبناء المؤسسات بما فيها الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني لتقوم بأدوارها، وتجاوز اختلالات السياسة الأمنية، كما تعرضت الوثيقة للمحور الاقتصادي والاجتماعي من أجل سياسة اقتصادية في خدمة التنمية، وترشيد استغلال وتطوير الثروات بالبلاد، وتطوير وتأهيل التجارة، المحور الاجتماعي تعرض لتدبير الحقل الديني، والأسرة والأشخاص ذوو الوضعيات الخاصة، التربية والتعليم، الإعلام والتواصل، الثقافة والفن، والرياضة.

لقد حاولت الوثيقة أن تكون شاملة لأغلب القضايا التي تشغل باب المجتمع، وهي رسالة ابتداء لكل الطيف المجتمعي جاءت لتؤكد أن جماعة العدل والإحسان ما زالت حاضرة، وأنها رقم صعب في المعادلة السياسية باعتبارها جماعة تعتبر نفسها من أكبر الجماعات الإسلامية بالمغرب، وأن حاجة المجتمع والدولة لها ما زال قائما، كما أنها رسالة للدولة اعتادت الجماعة على تقديم رسائل في حقب تاريخية وظرفيات خاصة لمن يهمهم الأمر. وقد حاولت أن تبقى وفية لرؤية المرشد المؤسس ويتجلى ذلك من خلال حجم الإحالات إلى كتاباته، وتمسكت بإسلاميتها ومرجعيتها باعتبارها حركة إسلامية تربوية تسعى لبناء الإنسان والعمران، وتقيم العدل في كافة مجالات الحياة انطلاقا من واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي بالأساس ليست جماعة تدعي احتكار الإسلام أو تمثيله بقدر ما هي مساهم في النقاش العمومي لتجاوز حالة النكوص والتحكم. وبقدر ما اجتهدت في الخروج من جلباب الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله، إلا أنها سقطت في البرنامج التفصيلي بالتعرض إلى قضايا متعددة تجعل الباحثين والمهتمين يحارون هل هم أما رؤية أم مخطط استراتيجي أو برنامج انتخابي.

لقد تم اختيار المصطلحات والمفاهيم بدقة، وأغلبها له مرجعيته في كتابات الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله.

ومن حق كل المؤيدين والمخالفين لمشروع الجماعة تقديم ملاحظاتهم ما دامت الوثيقة شارك فيها كل أعضاء الجماعة والخبراء.

فالوثيقة وإن تحدثت عن طبيعة الحكم إلا أنها لم تتبن الخلافة العمرية ولا طرحها الخلافة على منهج النبوة، ولم تكشف عن موقفها من الحكم بالرغم من أنها تحدثت عن الاستبداد، وعن دستور ممنوح، وقدمت اقتراحات لتجاوز هذه المعضلة.

كما  أنها لم تبرز هل ستنخرط في الانتخابات القادمة، أو تؤسس حزبا سياسيا تراهن من خلاله على تنزيل رؤيتها ومضامين وثيقتها السياسية، وإلا فإن هذه الوثيقة ليست لها أهمية إذا لم يتم تفعيلها وتنزيلها في الواقع، وستبقى الجماعة مرتاحة لوضعها لسنين قادمة، ممارسة معارضة بمنطق الجماعة الضاغطة والنزول إلى الشارع لتحقيق أهدافها، وهو ما يسائل الجماعة، عن جدوى هذا الاختيار.

وهل الوثيقة اليوم إيذان بعهد جديد داخل الجماعة سيدفعها للمشاركة السياسة من خلال المؤسسات، وإعادة تجربة العدالة والتنمية بطريقة مخالفة، إن هي تمكنت من تحقيق الأغلبية وحصلت على ثقة المواطنين الذين عبروا عن عزوفهم عن المشاركة في انتخابات يعتبرونها مزورة سلفا.

وما نوع التحالفات التي تعدها الجماعة مستقبلا، أم أنها ستحافظ على نفس الفرقاء الذين تنسق معهم، وتنتظر ضمان شروط المشاركة؟ وتبقى الوثيقة وسيلة فقط لإعادة التموقع في المشهد السياسي.

مهما يكن موقفنا من الوثيقة فهي خطوة فارقة في مسار جماعة العدل والإحسان.

إن الوثيقة أكدت أن الجماعة تبحث عن دولة مدنية وليست دولة دينية، وهي بدايات مراجعات داخل الجماعة ما بعد عبد السلام ياسين رحمه الله، تؤكد أن هناك نقاشا داخليا للجماعة للخروج غلى خيار جديد مخالف لسابقه.

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M