القيم الأخلاقية والعلاقة بين الجنسين.. من التفسير الديني إلى الدراسات الثقافية

07 يوليو 2022 10:23

هوية بريس-د. يوسف محمد بناصر

محاور البحث:

  • علاقة المعتقد الديني بالسلوك الانساني.
  • منظومة القيم الاسلامية والعلاقة بين الجنسين.

بقلم: د. يوسف محمد بناصر

باحث في الحوار الحضاري والنقد الثقافي.

اكادير-المغرب

هاتف:00212633247775

[email protected]

  • علاقة المعتقد الديني بالسلوك الانساني.

التفسير الديني اليوم الذي يعالج مجموعة من القضايا يقع في العديد التعقيدات الثقافية والقانونية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بإشكالية الحقيقية والمعنى من خلال تصور الفكر الديني للممارسات والقضايا التي ترتبط بالتحولات الاجتماعية الحديثة، كما بتفسير العالم والقوانين الكونية والظواهر الطبيعية انطلاقا من منظور ديني خالص، فالنزعة المادية الغربية استغرقت في نزعتها المادية  فهيمنت على المنهج العلمي، ثم أمست نتائج بعض المراكز والمختبرات تستبعد أي تفسير خارج إطارها، فصنف كل ما يخرج عن التصور العلمي بأنه خرافي وغير علمي أو قضية هامشية. وفي الضفة المقابلة، تعد  في المنظومة الإسلامية الظواهر الكونية والطبيعية والظواهر الاجتماعية والأخلاقية والثقافية والدراسات القانونية المقارنة وغيرها؛ مباحث مهمة في مجال البحث  الفقهي والاصولي والكلامي، فقد انبرى بعض فطاحلة العلماء لها بالدرس والبحث والتأليف، فربطوها بالنصوص الشرعية وبحثوا لها عن تأسيسات داخل نسقنا الديني، فأصبح الدين يحيط بالحياة ويواكب متغيراتها، ليستند  فهم أغلب المشكلات إلى الدين أو لمقولة دينية، فالدين ونصوصه هما أكثر ما يمكن أن يرجع إليه الفرد التائه في خضم هذا الوجود؛ للوصول إلى الحقيقة والمعرفة والتحليل الذي ينسجم مع بنيته الانطولوجية التي ترتبط فيها متطلبات روحه مع عقله دون غلبة البعد المادي أو سيطرة التفسير الديني الصرف، وبحسب تفكير الإنسان المتدين، فإن كل التفسيرات والتحليلات التي تأسست خارج الدين هي مبتدعة أو مغلوطة أو هامشية في حياته أو مدنسة، يفترض فيه الابتعاد عنها، أما الجانب الإيجابي في هذا البعد فهو حدوث طفرة وتحيين لبعض التفسيرات والاجتهادات في مجال الممنوع أو المحرم في القضايا المستجدة لكي تحيطها بالرؤية الدينية وتدخلها في نسقها، فتظهر اجتهادات متجددة تؤطر التصور الديني وفق منظور مختلف؛ أي ما يطلق عليه في الفكر الإسلامي المعاصر بـ”الأسلمة”،  وهذا مشروع مهم  قائم على الدعوة للانسجام مع  روح الحداثة وإعطاء تأويلات دينية منفتحة على الرؤى المختلفة، -رغم تراجع أداء وفاعلية المشروع في السنوات الأخيرة-، وذلك الجهد عمل على أن ينفي عن المعرفة وبعض الممارسات المرفوضة سابقا أي تناقض مع روح الدين أو مقاصده،  فلا يقع إقصاء بعض التجارب الإنسانية من مرافعة طائفة من الفقهاء والباحثين عنها، كما يرافع عن بعض المفاهيم والقضايا التي اعتبر الحديث عنها في بعض الثقافات المشرقية مدنسة.

إن المجتمع الإسلامي مجتمع متدين، وغارق في بعض الجغرافيات في التدين وفي التزام قيم الدين وتفسيراته المنغلقة، والمجتمع الغربي بدوره متحرر حد الفصل بين كل قيمه الانسانية وقيمه الدينية، مما قد يفسر لنا سبب كون الجماعات والمجتمعات الإنسانية تختلف في المسحة الأخلاقية والمعرفية التي تكسبها في شكلها طابع التميز والتعدد والاختلاف، فالاختلاف في تزكية أطروحة أو تصور على آخر في المجتمع الإنساني لا يجعل الصورة تنقلب لكي تعطي شكلا مخالفا وأكثر تمايزا فحسب بل يجعل جدوى شيء مقابل شيء آخر، ممكنا ومتوقعا، كما أن أولوية خلق أو منهج أو تصور أو منظومة على أخرى أكثر معقولية وامكانا .

إن تورط التوجه العام الديني أو الوعي الديني الإسلامي في تبرير كل النقاش الذي  يدور حول مركزية الدين، وجعل كل القضايا الاخرى هامشية، وتوثيق كل المعرفة وكل العلم بالنص في بعده الواحد، هو في نفسه وبصورة مقلوبة  الذي جعل الحضارة الأوربية والغربية–عموما- تتورط في إبعاد أي شيء غير ذي قيمة إثباتية وعلمية له عن واقعها، ففي الغرب هي خطة غير اعتيادية إذا نظرنا فيما بعد إلى نتائجها، بتكريسهم للقيم المادية والتفسير المادي للحياة في الأخير ونزع أي صفة للمقدس عنها لإبعادها عن مجال السماء الإنسانية، وفي المنظور الاخر هو استلابه بالقيم الدينية ورؤيتها للوجود منزوعة الفاعلية الإنسانية عاجزة عن العطاء أو الابداع.

إن الوعي والعقل الإنساني في المنظومة الإسلامية أو في المنظومة الغربية يبحثان عن قيم عليا وعن حقيقة مطلقة، عن معنى كل شيء قد يصادفانه في الكون، وهو أيضا تكريس منهما لقدرة العقل وفضوله الأزلي في محاولة منه لفهم الظواهر المنقب عنها؛ لأنها خافية أو المسكوت عنها لعدم اكتشاف تأثيرها، كما أنه بحث عن مزيد من العلم، والكمال، وامتلاك القدرة على التفسير، ليحاكي المطلق في تعاليه وبعض صفاته. وبالرغم من أن الآليات المستخدمة؛ مختلف فيها بين الجنس البشري، وفي بعض الأحيان لا تخدم ذلك الطريق المنشود، وينتابها خلل النقص، والتجزيئية، والخطأ، وتحركه نوازع نفسية -والتي هي جزء من الطبيعة الإنسانية المركبة، قد تصل حد الاضطراب- إلا أنه في الأخير، لا هذا وذاك ينفيان عنه سمو مسعاه وجمالية مقصده الإنساني؛ في الوصول إلى المعارف، والإمساك بحقيقة الأشياء، وفهم مدار السنن وخفايا الكون وفلسفة قيام وجوده.

 

  • منظومة القيم الاسلامية والعلاقة بين الجنسين.

تعتبر العلاقة بين الجنسين سمة مدنية تعبر عن المجمتع المدني في الثقافة المعاصرة، فلاتكاد تخلو مؤسسة ولا مجال من المجالات من الاختلاط بين الأنثى والذكر، خصوصا بعد أن ظهرت فلسفة الجندر[1]  التي عملت على ترسيخ ثقافة المساواة بين الجنسين في  الواجبات والحقوق والاستمتاع بالملذات الحياتية بنفس القدر، كما عملت الحركة النسائية على جعلها فلسفة وثقافة يجب أن تتشبع بها كل فئات المجتمع وطبقاته، مما أدى الى ازدياد تداخل العلاقات الاجتماعية والانسانية وتغيير الكثير من المفاهيم الاخلاقية والثقافية والتي من بينها مفهوم العلاقة بين الجنسين.

لقد أصبحت القيم الدينية في العالم المعاصر قيما متجاوزة بعد الرجة التي أحدثها التنوير الأوربي وانحصار أدوار الكنيسة لصالح المنهج العقلي والتجريبي والمباحث الفلسفية، أما في المجال الثقافي الاسلامي فقد دفع  التخلف الاجتماعي والانهزامات السياسية والغزو الثقافي الناس إلى التخلي عن الكثير من القيم الدينية في مقابل التمسك بالقيم الاستعمارية أو العادات والتقاليد الاجتماعية غير المتسقة مع عقائدهم الدينية في الغالب.

ويمكن تعريف العلاقات الاجتماعية بأنها سلوك متواتر متوقع يحدث بين شخصين، فيؤثر أحدهما في الآخر ويتأثر به[2]. كما يمكن تعريفها بأنها روابط تنشأ على أساس التفاعل الاجتماعي[3] ،فتدل على الصلة التي تقوم بين شخصين أو أكثر مبنية على التجاذب والاختيار أو الرفض والتنافر[4]. ويشير البعض إلى العلاقات على أنها ضابط الاتصال بين الأفراد،أو هي بمثابة سفير بينهما،أو هي هندسة العلاقات الودية المتبادلة بينهما[5]. فمجتمعاتنا اليوم أصبحت لا تخلو من الاتصال بين الجنسين ابتداء بالمدارس وانتهاء بالموسسات والفضاءات العمومية المختلفة، وتغيرت الاخلاق والقيم إذ أصبحت تواكب ما جرت به العادات الاجنبية و”فن الاتصال والتواصل” ومعظم السلوكات المعبرة عن التناسق بين ثقافة الافراد وثقافة الفضاءات العمومية بما يليق بها.

ترتبط العلاقات بين طرفين بمهمة وجودية إذا كانت مؤسسة في ضوء مقاصد تعبدية واستخلافية في الكون، وتكامل أداورهما يقتضي  انشاء دائرة من الواجبات والحقوق المتبادلة بشكل صحيح ومنظم، لكي تتحقق النتائج المرجوة بعيدا عن الفوضى والعبثية التي أصبحت الانسانية اليوم غارقة في خضمها، بعدما تداخلت الأدوار وتزعزعت القيم في المجتمع المعاصر، فلم تعد هنالك حدود للعلاقة بين الجنسين بله لم تعد تلك العلاقة خاضعة لتصورات قيمية تتسامى بها لتخدم الفضائل الخلقية. إن الرجل بمفرده كائن عاجز وكذلك المرأة. لكن التقاؤهما في إطار النكاح الشرعي، يحقق لهما الإبداع، يسمح بالتوالد وبإيقاظ الحياة. إن الاسلام يعهد للإنسان بامتياز الهي، يتيح له الذهاب الى ما وراء الطبيعة والقيام بمهمة جنسية ثابتة، في اطار من البهجة والفاعلية والثمالة العاطفية.[6]وقد ناقش علماء المسلمين كثيرا من القضايا المتعلقة بالعلاقات بين الجنسين في أبواب عدة أهمها كانت مسألة الاختلاط باعتبارها بابا من أبواب تبدأ عنده العلاقة بين الجنسين، وهو محضن أساسي لها، وقد نظم الاسلام هذه العلاقات الاجتماعية بين مختلف الأطراف تنظيما يتسم بالحكمة والمرونة، ليحفظ المجتمع من أي أثار سلبية قد تنشأ فيما بعد بين أطرافه، كما حذر في نفس الآن من علاقات خارجة عن الاحترام ومقتضيات الحياء وبين تأثيراتها السلبية على الأفراد والمجتمع الإسلامي، ومن بين ما حذر منه الدين الحنيف الاختلاط المذموم بين الجنسين، بإعتباره أول مدخل من مداخل ربط العلاقات الاجتماعية والعاطفية التي قد تنحرف بالأخلاق والقيم نحو الوجهة الخاطئة، وقد قال العلامة ابن عثيمين رحمة الله عليه في هذا الصدد:” الاختلاط تحصل فيه مفاسد كثيرة، ولو لم يكن فيه الا زوال الحياء للمرأة وزوال الهيبة من الرجال”[7]. وهو ما يؤكده كذلك  الباحث عدنان حسن باحارث؛ بكون نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية، والتطبيق العملي في السيرة والقرون المفضلة لا تفيد في مجملها غير مسلك منع الاختلاط لما قد يكون له من نتائج مربكة للقيم والأخلاق، فالأمر بالحجاب والقرار في البيت، والاستئذان، وغض البصر، وتحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية، ومصافحتها، ومبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لبعض النساء على ترك الخلوة بحديث الرجال، ونهيه لهن عن السير في وسط الطريق، والسفر بغير محرم، ونهي الرجل عن الدخول على النساء، وتخصيص باب في المسجد خاص بهن، وتأخير صفوفهن عن صفوف الرجال، وضبط خروجهن مسرعات من المسجد قبل أن يدركهن الرجال[8]، كل هذه القضايا  وغيرها تدور في مدار المنع، سدا للذرائع ومنعا للفتنة.

كما عدد العلماء مفاسده وتأثيراته السلبية الاخرى على النفوس البشرية -مع بعض الاستثناءات- ومثلوا  لصور فساده بكونه يتحقق فيه:

١- الخلوة بالأجنبية، والنظر بشهوة إليها.

٢- تبذل المرأة وعدم احتشامها.

٣- عبث ولهو وملامسة للأبدان، كالاختلاط في الأفراح والموالد والأعياد، فهذا اختلاط واضح التحريم، لمخالفته قواعد الشريعة، وقد تستثنى منه صور تحت إلجاء الضرورة، من نحو ما قد يضطر إليه الطبيب.[9]

إن المجتمع كما أراده الاسلام مجتمع يضيق كثيرا من دائرة الاختلاط وهو يغلق كل الأبواب التي تؤدي إلى الرذيلة والفاحشة. والإسلام وهو دين الرحمة والحكمة لا يقول للرجل: أنظر ما شئت للمرأة، ولا يقول للمرأة: تحدثي ما شئت إلى من تريدين من الرجال ما دمت على ثقة من نفسك…، ولو قال ذلك لفتح الباب للضعف البشري[10]. وإنما قال الحكيم العليم وهو أعلم بمن خلق:” يا أيها الذين امنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته  ما زكى منكم من أحد أبدا”[11]. وقد لاحظ البعض أن العلاقات العاطفية وتداخل الإناث والذكور وتجاورهما في الفضاءات العمومية وغيرها له تأثير سلبي على نفسية أفراد المجتمع، فقالوا:” إن التجاور بين الرجال والنساء وكثرة اللقاء بينهم وبينهن أفراداً وجماعات موجب لإضعاف التجاذب بخفوت صوت الشهوة الجنسية وإضعاف حدتها أو تحويلها عن وجهها وأسلوبها، على ما يزعمه الزاعمون من بعض الباحثين في الدراسات النفسية، الداعين إلى تهذيب الغريزة الجنسية أو التنفيس عنها، ومعنى هذا أن يجد كل من الذكور والإناث لذتهم في مجرد الاستمتاع بالحديث والنظر، وأن طول التجاور والتقارب يولد في نفوسهم ونفوسهن شيئاً من الإلف لا تثور معه الرغبة في استمتاع جسد كل منهم بجسد الجنس الآخر عند رؤيته، بل مع قربه منه وملاصقته له، وذلك كله أمر معقول ومحسوس يؤيده المنطق والتجربة، لأن إلف النفس للشيء وتكرار اعتياده إياه يضعف أثره فيها، فالذي يطيل المكث في مكان عفن نتن يفقد الإحساس بعفنه ونتنه على مر الزمان، والذي يدمن شم رائحة زكية يفقد الإحساس بطيبها بعد وقت قصير أو طويل..، فيؤدي هذا إلى [البرود الجنسي]”[12] . وقد انتقدت سيمون دي بوفوار هذا التفسير للعلاقات بين الجنسين خصوصا أن الأنثى هي الطرف المتهم والحلقة الأضعف في هذا التفسيرات لاعتبارات ثقافية ونفسية، واستعارت الكاتبة مقولة جول لافورغ حيث يقول:”لا تربطنا بالمرأة أبدا رابطة الاخوة فقد جعلنا منها، بالخمول والفساد، كائنا منعزلا ليس له من سلاح سوى سحره الجنسي”.[13] فالتفكير في الطرف الآخر كله تفكير مبني على الاشباع الجنسي، والاستغلال اللامتناهي. لتصل الكاتبة إلى خلاصة نقدية مفادها؛ أن الرجل يعتبر جسمه كما لو كان كائنا مستقلا يتصل مع العالم اتصالا حرا خاضعا لإرادته هو. بينما يعتبر جسم المرأة حافلا بالقيود التي تعرقل حركة صاحبته، وقد  استندت سيمون على مقولة افلاطون حيث يقول: “الأنثى هي أنثى بسبب نقص في الصفات” ![14] فالباحثة النسوية في كتبها حاولت أن تنقض كل الادعاءات التي هيمنت لعصور على تفسير ما يتعلق بالأنثى.

إن الانسانية في عرف الرجل شيء مذكر فهو يعتبر نفسه يمثل الجنس الانساني الحقيقي، أما المرأة في عرفه تمثل الجنس [ الآخر]. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو:”كيف تمكن أحد الجنسين فقط من فرض نفسه كجوهر وحيد منكرا وجود كل نسبية تربطه بالجنس الآخر، معرفا إياه الآخر الصرف. ومن أين أتى للمرأة هذا الرضوخ؟[15]. وربما ومن خلال الاطلاع على التحليل النفسي نجد اجابات متعددة لكل تلك الأسئلة الاستنكارية التي طرحتها الكاتبة الوجودية سيمون عما آلت إليه حالة الأنثى من رضوخ ومزيد اضطهاد، فيورد الكاتب ثيودر رايك في كتابه “سيكولوجية العلاقات الجنسية ” تفصيلات تحكم العقل الذكوري؛ إذ يعتبر أن إرادة القوة والهيمنة تكتمل في الفعل الجنسي، واللذة فيه ليست لذة جنسية فقط، فالافتخار بانتزاع المرأة، والانتصار العسير الذي ينطوي عليه القيام بما هو محظور يمكن أن يكون لهما حصة فيه أيضا[16]. وهنالك علاقة جدلية تتضافر كل المعطيات الثقافية والنفسية والاجتماعية والتربوية لتشكل تصورات قبلية لأحد الجنسين على الآخر خصوصا عندما يتعلق الأمر بإنشاء علاقة جديدة مبنية على الانجذاب والمتعة، ويفسر الباحث ثيودر رايك تلك اللحظات التي تسبق البداية بالقول:”ما يمثل طموحا بالنسبة لرجل هو شيء فارغ بالنسبة  لامرأة، إن الافتخار بكونها مرغوبة وتعني الكثير لرجل، وتشغل مركز أمانيه، وتراه تحت سلطتها المطلقة هو أمر يمتع المرأة دون شك أكثر من اللذة الجنسية المحضة، فهو يمنحها شعورا جديدا بالجدارة الشخصية، وإحساسا جديدا بقيمتها، وكثير من النساء يتمتعن بسلطتهن على الرجال إذ تجعلهن يشعرن للمرة الأولى أنهن أنداد للرجل، أن تكون مرغوبا يعني أن تكون جذابا[17] .ويعطي الدكتور مصطفى حجازي تفسيرا نفسيا واجتماعيا مركبا للأدوار التي يتقاسمها الرجل والمرأة في اطار العلاقة التي تربطهما في المجتمع باعتبارهما جنسين مختلفين، فيقول: “أما الرجل فمعاناته، وإن كانت أقل من معاناة المرأة، فإنها ليست بالبسيطة.فهو متحرر فكريا وثقافيا، وهو من أنصار المساواة ولكنه ينتظر أن تقوم المرأة بذلك، دون أن يشارك فيه بشكل فعال. والغالب أن يكون حماسه نظريا، أما في الممارسة اليومية التلقائية فمازال أسير التقسيم العبودي للأدوار، ما زال شديد الحساسية لكل ما يمكن أن يعتبر نيلا من سلطانه وحقوقه على المرأة. والحقيقة أنه في معظم الحالات يخشى أن تفلت المرأة من سلطته. يخشى أن تنافسه وأن تتفوق عليه، ولذلك فهو يحتمي وراء حقوقه التاريخية، وما تعطيه له من سلطة على المرأة. إنه يخشى إذا أفلتت المرأة من سلطته، أن يجد نفسه أمام امتحان عسير لذكورته، التي ارتبطت لسوء حظه، بالتسلط أكثر مما هي مرتبطة بالقدرة على الوصول إلى المشاركة في متعة اللقاء الجسدي. وهكذا فأكثر الرجال تحررا، مازال عمليا يتصرف انطلاقا من توزيع للأدوار يعطيه بعض المكاسب، ويشد المرأة إلى الوراء، ويتصرف خصوصا من موقع وضعية امتحان قدراته الفعلية، ووضعها موضع التساؤل”.[18]

إن الدخول في علاقات عاطفية أو جنسية ليس بالضرورة شيئا محرما مادام قائما على الأسس الصحيحة كما هي محددة في القيم الدينية والاجتماعية السليمة لأي مجتمع متدين، فمثلا الدين الإسلامي، دونما شك، لا ينتقص من أهمية الجنس ولا ينكرها، بل على العكس تماما، يضفي الإسلام على الجنس معنا رفيعا ويجلله بالايجابية الكاملة،الأمر الذي يزيل أي أثر للشعور بالإثم أو الخطيئة. تبعا لهذا المنظور،يسمح الاسلام للغريزة أن تتجلى ببهجة وصفاء، بحيث تصبح الحياة صيغة متكاملة، تسعى جاهدة للحصول على رضى الله من جهة وممارسة الجنس وفقا لأخلاقيات راقية من جهة أخرى، وهذا يعني في الحقيقة أن حياة المسلم اليومية تتضمن في جوهرها حوارا مستترا ومستمرا مع الله في جانب، وحوارا ثانيا بين الذكر والأنثى في الجانب الآخر.[19]  وقد تعتبر أنسنة الجنس ومحاصرة الدوافع البهيمية التي قد تسيطر على أحد الطرفين أمرا مهما، سواء بالدين أو بالضوابط الاجتماعية، وإلا أصبح المجتمع غابة تسود فيها النزعات والأهواء الوحشية، كما أن كبته ومنع تنفيس المجتمع عن طريقه يفقد الانسانية توازنها وطبيعتها، فقبول الجنس شرط لتعهده وبالتالي”لأنسنته”. ولكن تلك الأنسنة” تفترض ضبط النزعة الجنسية، بغية اخضاع زخمها الغريزي للقيم الانسانية، لذا كان من مقومات تربية الجنس، أو تربية العفة، تنشئة الطاقة على ضبط الغرائز. تلك الطاقة التي بدونها لا “يتأنسن” الجنس وبوجه أعم لا تتحقق انسانية الانسان، إنما هي من صميم الكيان الانساني، مسجلة في التكوين البيولوجي الذي يتميز به الانسان[20] .وربما يعتبر الدافع الجنسي عاملا أساسيا في بعض الاحيان لتحفيز الجنسين لاعطاء اشارة إيجابية للتقدم بخطوات جريئة لرسم معالم علاقة انسانية عادية أو عاطفية ناجحة، لذلك لا يجب أن تكون الأنانية الجنسية حاكمة عليهما بالفشل أو الاحساس بالكمال العاطفي موجها سلبيا لجمالية الرابط الذي قد يتعزز وينمو تحت سماء الزواج؛ التي وصفت في القرآن بأنها تملأ الحياة مودة ورحمة، وربما لم ينتبه الفقهاء في تعريفاتهم لهذه المفاهيم التي يجب أن تؤسس عليها العلاقة بين الجنسين في لحظة عقد الزواج الشرعي، كانتباههم الملفت لمسألة قضاء الحاجة الجنسية، وهو ما دفع بالكاتب المشهور قاسم أمين للتأليف لتوضيح سلبيات الكيل بمكيال غير عادل للرجال ضد النساء، فكما أن الارتباط  فيه افراغ الحاجة الجنسية ففيه كذلك أشياء أخرى، فقال: “رأيت في كتب الفقهاء أنهم يعرفون الزواج بأنه عقد يملك به الرجل بضع المرأة”، وما وجدت فيها كلمة واحدة تشير إلى أن الزوج والزوجة شيئا آخر غير التمتع بقضاء الشهوة الجسدانية، وكلها خالية عن الإشارة إلى الواجبات الأدبية التي هي أعظم ما يطلبه شخصان مهذبان كل منهما من الآخر”[21]، ويفسر الباحث رايك ما تعيشه النفسيات في العلاقات بين الجنسين الناشئة من تجاذب واضطراب، بالقول: “قد يطور كل جنس احساسا بقيمته وكرامته الخاصة؛ يكون من الصعب أحيانا على الجنس الآخر أن يفهمه. وثمة مآس ومهازل يومية في المعركة من أجل الكمال. ويخاض الكثير من هذه الصراعات في ميدان الجنس، على الرغم من أن منشأها ليس هناك[22].  إذ أن كل تركيز مخل على الجنس في العلاقة بين الجنسين قد تنتهي بمأساة أخلاقية عكسية، مما سيسبب فوبيا حقيقية تجعل العلاقات الاجتماعية وتنظيم العلاقات العاطفية بين أطرافه معقدة، مما قد يخلف في نفس الآن تعطيلا لقواه وامكانته الإبداعية والإنتاجية ويربك قيمه وتوازنه النفسي والعاطفي.

وفي ظل أزمة الغزو الثقافي التي تعرفها مجتمعاتنا العربية والإسلامية، يجب علينا التفكير بشكل واقعي في وضع تصورات تحد من الارتباك الذي تعيشه ثقافتنا في نظرتها وتقييمها للعلاقات بين الجنسين، بين اختلافات الفقهاء النظرية وما يقع واقعا، وقد تمكننا قدرتنا الفلسفية المبنية على تصوراتنا  القرآنية والأخلاقية وقراءات معاصرة لهما من الخروج من مأزقنا الحالي، فنضع مجموعة من القيم الجديدة المنضبطة للمرجعية الحضارية الإسلامية وفقا لمنهج القرآن المنفتح على العالم ؛ وقد تعمل هذه القراءة على تغيير نسقنا الثقافي المتناقض في مسألة أدوار الجنسين، ومدى قدرتهما في  تدبير اختلافهما البيولوجي على المستوى الأخلاقي والاجتماعي والحضاري.

إن عبارة “الاختلاف الجنسي” شكلت موضوع نقاش اصطلاحي. فهناك من يفضل استعمال عبارة “اختلاف الجنسين”، لأنها مجردة من كل تحديد أو مضمون مسبق، بينما اصطلاح “الاختلاف الجنسي” يشير بشكل مسبق لفكرة خصائص الاختلاف وصفاته، حتى وإن ظلت حقيقته غير مؤكدة.[23].  وهناك من يرفضها لإيحائها الطبيعويnaturaliste والأنطولوجي ويستبدلها بعبارة “البناء الاجتماعي للجنسين“، التي تحيل على مفهوم النوع الاجتماعي، من منطلق أن الاختلاف بين الجنسين هو نتاج للمجتمع، تتحكم فيه قيم وضوابط المجتمع، وتختلف طبيعته باختلاف المجتمع.[24] فهذا الأخير هو الذي يحدد بثقافته الأدوار ويوزعها بحسب مقتضيات واقعية وفلسفية في بعض الأحيان، بعيدا عن التمركز حول الانسان باعتبار جنسه أنثى / ذكر، وهذا ما عملت بعض المجتمعات التي تبنت نسقا ثوريا على تثبيته في ايديولوجيتها  الحزبية والأسرية والتربوية.

وقد عملت النزعة النسوية على دعم هذه المقاربات الثورية في مجتمعاتنا المعاصرة عن طريق تفكيك المعتقدات القديمة التي لا تزال تحكي عن ترتيب معين ينظم علاقة الجنسين في العمل والسلطة والأدوار الثقافية والاجتماعية، ولكن هذا التوجه النسوي يقع دائما في تناقضات فلسفية، وهو ما  انتقده دريدا  في هذه النزعة التي تزعم النضال ضد الهيمنة الذكورية أو الفالوقراطية “phallocratie”، لكنها تؤكد في العمق، و بشكل مفارق، على ثنائية الذكر/الأنثى الميتافيزيقية، فتحصر الاختلاف في دائرة التعارض.[25]

ولو رجعنا إلى التفكير الاجتماعي وتفسيرات علم النفس لوجدنا أن المجتمع حقيقة يقوم بدور خطير في إعادة صياغة ولادتنا بشكل عجيب، أكثر مما تفعله الميتافيزيقا، وهذا من صميم الإشكال الذي يطرحه صاحب كتاب أصل الفروق بين الجنسين، ليحاول الإجابة عنه بالقول:  إننا لا نولد بنات أو صبيانا إنما يجعلون منا هكذا، ماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن الاطفال يدفعون اعتبارا من يومهم الأول بصورة منتظمة الى دور جنساني ويمسخون الى كائن نسميه ” أنثى” أو “ذكرا”.[26] فتوزيع الأدوار وتحديد الأجناس راجع إلى التربية الاجتماعية، فالناس المؤنثون بيولوجيا يربون كنساء، والناس المذكرون بيولوجيا يتربون كرجال. هذا على الأقل في المجتمع البطريكي.[27] ويستمر مؤكدا أن تطور الشخصية في جانبها الجنساني تتحكم فيه نفس  الثقافة الاجتماعية، إذ إن البنت المولودة حديثا [أو الصبي] نفسها لا تعرف بعد أي شيء عن مشكلة جنسها. لكن هؤلاء الذين سيربونها، لديهم صورة واضحة عن النموذج الأمثولي للبنت أو الصبي، على الابنة أو الابن أن يصيرا شبيهين قدر الامكان بهذا الموديل.[28] بغض النظر إن كانت تلك الثقافة تعترف بالمساواة بين الطرفين أم تخضع الطرف الضعيف للتنازلات مقابل التمكين للقوي، وللأسف هذا له مظاهره في النسق الثقافي والاجتماعي العربي كما له تجلياته غير الخفية. فالقهر والغلبة والتسلط كلها أسواط مسلطة على حياة الأنثى مما لا يسهل بشكل أو آخر انشاء دائرة من الثقة  لديها عند بوحها بما تعتقده أو تحسه، كما يكرس ذلك بالمقابل توجيها غير موضوعي لأي بحث ينكب على دراسة القضايا المتعلقة بها، مما يشكك في شفافية نتائجه، والتي من بينها علاقتها مثلا بالجنس الآخر.

عود على بدء،

تعتبر العلاقة بين الجنسين علاقة فطرية، تتأسس على الحاجة النفسية والاجتماعية والبيولوجية، وتتدخل القيم الدينية والضوابط الاجتماعية لصياغتها وإحاطتها بالرعاية حتى لا تخرج عن مقاصدها النبيلة، ولو أن الفلسفات المعاصرة عملت على أن تجدد في رؤيتها للعلاقة بين الجنسين من خلال اعتماد برامج وتصورات فلسفية تخدم هذه القضية، مما أثر كثيرا على الفهم التقليدي لما يجب أن يكون لأحد الجنسين من حقوق وواجبات، ودفع بمزيد تساؤلات حول المرجعية الحقيقية التي يمكن أن نستمد منها تصوراتنا حول وجودنا وقيمنا، والتي ستمكننا من أن نصوغ في ضوئها فلسفة لعلاقتنا الحياتية والأخلاقية والاجتماعية، متجاوزين الثنائية النكدة التي استحكمت في وعينا؛ والمتجلية في الصراع البين والشرس بين المرجعية الدينية المتعالية والفلسفات الانسانية  والمادية المتغيرة.

[1]الجندر: أو النوع الاجتماعي يعني الادوار المحددة اجتماعيا لكل من الذكر والانثى، وهذه الادوار التي تكتسب بالتعليم تتغير بمرور الزمن وتتباين  تباينا شاسعا داخل الثقافة الواحدة ومن ثقافة الى اخرى،ينظر: اتجاهات الشباب والشابات الملتحقات في المراكز الشبابية التابعة للمجلس الأعلى للشباب نحو النوع الاجتماعي، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الانسانية)، مجلد24،(8) 2010.

 

[2] -فؤاد البهى السيد-علم النفس الاجتماعى-ط2 – دار الكتاب الحديث-الكويت،1980 ص110

[3] -خير الدين على عويس،عصام الهلالى-علم الاجتماع الرياضى،ط1 ،دار الفكر العربى،القاهرة 1988 ص302

[4] –حامد عبد السلام زهران:علم النفس الاجتماعى– ط4 ،عالم الكتب القاهرة1977 ص74

[5] –فؤاد البهى السيد-مرجع سابق –ص9

[6] ينظر: عبد الوهاب بوحديبة، الاسلام والجنس، ترجمة وتعليق: هالة العوري،مطبعة رياض الريس، الطبعة الثانية، يناير 2011،ص141.

[7] – ينظر:د.رياض بن محمد المسيميري ود. محمد بن عبد الله الهبدان،الاختلاط بين الجنسين احكامه وآثاره، دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية،الطبعة1، 1431هـ،ص44.

[8] – ينظر: د.عدنان حسن باحارث،مواقف الاختلاط بين الجنسين، ودورها في اثارة الغريزة الجنسية في ضوء التربية الاسلامية، مكتبة احياء التراث الاسلاميي، للنشر والتوزيع والطباعة،مكةالمكرمة،الطبعة الاولى، 2012م،ص:51. بتصرف.

[9] – ينظر:الموسوعة الفقهية، وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت، 2/290.

[10] – ينظر :عثمان محمد عثمان، اختلاط الجنسين في مدارسنا، دار الاعتصام، مصر، 1984، ص12

[11] – سورة  النور الآية 21.

[12] – ينظر: ابراهيم بن عبد الله الأزرق، تقديم: د ناصر بن سليمان العمر، الاختلاط بين الجنسين مفهومه وحكمه وآثاره، موقع المسلم، 1424هـ ص:84 http://almoslim.net/documents/ekhtelat.pdf

[13] – سيمون دي بوفوار، نفس المرجع الجنس الآخر، نقله للعربية لجنة من الأساتذة،بلا تاريخ ولاطبعة أو مكان الاصدار، ، ص 325

[14]  سيمون، نفس المرجع.

[15] – سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر، نقله للعربية لجنة من الأساتذة،بلا تاريخ ولاطبعة أو مكان الاصدار، ص06.

[16] -ينظر: ثيودر رايك،سيكولوجية العلاقات الجنسية،ترجمة: ثائر ديب، نشر دار المدى للثقافة والنشر،الطبعة الاولى سنة 2005، ص236.

 

[17] – ينظر: ثيودر رايك،سيكولوجية العلاقات الجنسية ترجمة: ثائر ديب، نشر دار المدى للثقافة والنشر،الطبعة الاولى سنة 2005،، ص237

 

[18] – ينظر: د.مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي مدخل الى سيكولوجية الانسان المقهور،المركز الثقافي العربي، البطعة التاسعة،2005،ص:208.

[19] – ينظر: عبد الوهاب بوحديبة، الاسلام والجنس، ترجمة وتعليق: هالة العوري،مطبعة رياض الريس، الطبعة الثانية، يناير 2011،ص20.

[20] – كوستي بندلي، الجنس ومعناه الإنساني، ج2، منشورات النور،الطبعة الرابعة، بدون تاريخ،ص:254

[21] – ينظر: قاسم أمين، تحرير المرأة، طبعة: كلمات عربية للترجمة والنشر،القاهرة، سنة 2012م،:ص73.

[22] -ينظر: ثيودر رايك، سيكولوجية العلاقات الجنسية،مرجع سابق، ص257.

[23] – فوزي بوخريص، الاختلاف الجنسي من منظور فلسفة الاختلاف،http://www.aljabriabed.net/n79_01boukriss.(1).htm

[24] – فوزي بوخريص، الاختلاف الجنسي من منظور فلسفة الاختلاف، نفس مرجع السابق.

[25] – فوزي بوخريص، الإختلاف الجنسي من منظور فلسفة الاختلاف، مرجع سابق.

[26] – ينظر: أرزولاي شوي،أصل الفروق بين الجنسين، ترجمة: بو علي ياسين،دار الحوار،سورية،الطبعة الثانية1995، ص:11. بتصرف.

[27] – ينظر: ارزولاي شوي،أصل الفروق بين الجنسين،مرجع سابق،ص13.بتصرف

[28] – ينظر: ارزولاي شوي، أصل الفروق بين الجنسين، ص:61.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M