حتى نحفظ عقولنا من الضياع (ج2)

10 يونيو 2019 20:48
أفي رسول الله صلى الله عليه وسلم شك...؟؟؟!!!

هوية بريس – د. يوسف فاوزي

أ/حدود إعمال العقل:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم سليما مزيدا، أما بعد:

إذا كان العقل نعمة إلهية على العبد، بها يفهم ويتعلم ليمتاز عن غيره من الموجودات، فهذا لا يعني أن لهذا العقل مطلق النظر والتصرف، بل هناك حدودا يقف عندها يقبح به تعديها صيانة له من التلف.

والله سبحانه وتعالى مكن للعقل اكتشاف المحسوسات والنظر إليها، قال جل جلاله (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ . وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (الغاشية،17،18،19،20)، وهذه مخلوقات ماثلة أمام نظر الإنسان متاحة لفكره العقلي متناسبة مع مسلماته كصلابة الجبال وسيولة الماء وهواء السماء، أما الخفاء المجهول غير المحسوس فهو الذي لا يمكن للعقل أن يدرك كنهه وماهيته.

وفي هذا الصدد يقول العلماء إن الرسل تخبر أقوامها بمحارات العقول لا بمحالات العقول، أي أن عقل الإنسان يحتار أم خلق خالقه سبحانه لعظمته التي أدركها بعقله، أما المحال في عقله فهذا لا يخبر به أصلا لاستحالته[1].

ومن هذا القبيل معرفة صفة الجن وحقيقة ذواتهم، أو النظر في صفة الملائكة وذواتهم، وقدم العالم، والتدقيق في صفة الصفات الإلهية، وغيرها من المسائل التي لن يصل العقل إلى معرفة أصلها وكنهها، وعجزه هذا دليل عجزه مهما بلغ في نظر ابن آدم قوته، وأن الله سبحانه جعل لعقله هذا حدا يقف عنده معترفا بضعفه وعجزه.

ومن حدود إعمال العقل أيضا معرفة علل بعض الأحكام، فالله عز وجل لا يخلق شيئا لغير حكمة ومن أسمائه سبحانه الحكيم، والنظر العقلي في الوقوف على حكمه سبحانه التشريعية محمود لا إشكال فيه[2]، لكن تمة حدودا لهذا النظر، كالحكمة في عدد ركعات الصلوات الخمس وهيئاتها من قيام وركوع وسجود، وصيام شهر رمضان في السنة دون غيره من أشهرها، ومقادير الزكاة، وشعائر الحج، وأقسام المواريث وتفصيلاتها، فالحكمة الجامعة بينها التعبد لله سبحانه بطاعته فيها دون التعمق في تعليلها عقليا.

يقول الإمام الشاطبي رحمه الله (الحكم المستخرجة لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار، واختصاص الحج بالأعمال المعلومة، وفي الأماكن المعروفة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه ولا تطور نحوه فيأتي بعض الناس فيطرق إليه حكما يزعم أنها مقصود الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبني على ظن وتخمين غير مطرد في بابه، ولا مبني عليه عمل، بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ، وربما كان من هذا النوع ما يعد من القسم الثالث لجنايته على الشريعة في دعوى ما ليس لنا به علم، ولا دليل لنا عليه)[3].

فإعمال العقل في هذا الباب كما ذكر الشاطبي رحمه الله جناية على الشريعة لأنه يكون سببا في الشك المفضي إلى احتقار الشعائر بدعوى مصادمتها للعقل والفكر السليم.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى استحالة معرفة العقل لحقائق بعض الأشياء ليبين أن لهذه الحاسة حدها، من ذلك عجزه عن معرفة كنه الروح، قال سبحانه (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) (الإسراء، 85)، ورغم الاكتشافات الطبية المعاصرة ظلت مسألة خروج الروح من جسد الإنسان ومآلها بعد الموت مسألة محيرة للأطباء يعترفون فيها بعجز عقولهم عن حل سرها، فإذا كان هذا في الروح التي هي أقرب المخلوقات إلى نفس الإنسان فكيف بغيرها من عوالم الغيب التي تخلف العقل البشري عن الإحاطة بها؟ ! [4].

اقرأ أيضا: حتى نحفظ عقولنا من الضياع (ج1)

ب) العقل عند الفلاسفة:

أما الفلاسفة فقد خالفوا نظرة الإسلام للعقل، وتجاوزا قدره باعتباره حاسة للتمييز والفهم و الإدراك، وجعلوا منه مصدرا مستقلا في التشريع والمعرفة، إلى درجة تأليهه أو بعارة أدق –حسب تعبير الأستاذ طه عبد الرحمن- (الوثنية العقلانية)[5]، إذ صار العقل عندهم وثنا يعبد من دون الله، إليه المفزع عند أي إشكال ولو كان حله مذكورا في القرآن !!!.

وعليه فإن عامة الفلاسفة يجعلون من العقل جوهرا قائما بذاته منفصلا عن القلب[6]، ثم إنهم يصورون هذا العقل المستقل تصورا معقدا لا يمكن إدراكه، فأرسطو يقسم العقل إلى أقسام: العقل الهيولاني، والعقل الفعال، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد، والعقل المطلق…، وغيرها من الأنواع المبهمة.

وسار على نفس مسار أرسطو ابن رشد الحفيد، فهو الآخر يقسم العقل إلى أقسام ثلاثة: عقل منفعل وفعال وهيولاني[7].

وكذلك ديكارت أسس فكرة وجود الإنسان وشعوره بإنسانيته بالعقل فقط، فجعل من التفكير قدرة على تشكيل جوهرنا، حتى اشتهر عنه قوله (أنا أفكر إذن أنا موجود)[8]، سالبا بذلك للذات أي دور في حياة الإنسان، فهي فقط –الذات- في نظره (فضلة زائدة)[9].

وأما إيمانويل كانت kant فقط ذهب مذهبا آخر خالف فيه من سبقه، فهو يرى أن للعقل حدودا معرفية، وسيظل -العقل- في نظره  قاصرا عن إدراك حقيقة الأشياء في الخارج لتكون الميتافيزيقيا علم حدود العقل الإنساني[10]، وألف في هذا كتابا سماه “نقد العقل الخالص النظري”[11].

ومن الصعب أن نجمع في هذا المقام مجمل كلام الفلاسفة ومذاهبهم في العقل، فهو فضلا عن كونه مفض للتطويل المذموم، فهو أيضا من باب مضيعة الوقت في تتبع أقوال خالفت العقل أصلا وتناقضت بين أصحابها لانعدام البصيرة والهداية القرآنية عندهم فتعددت العقليات بتعدد أصحابها.

ولقد قرر هذا الأمر قديما ابن القيم الجوزية رحمه الله  فقال: (المعقولات ليس لها ضابط يضبطها ولا هي منحصرة في نوع معين فإنه ما من أمة من الأمم إلا ولهم عقليات يختصون بها، فللفرس عقليات وللهند عقليات ولليونان عقليات وللمجوس عقليات وللصابئة عقليات، بل كل طائفة من هذه الطوائف ليسوا متفقين على العقليات بل بينهم فيها من الاختلاف والتباين ما هو معروف عند المعتنين به)[12].

غير أنه لايجب أن نعفي أنفسنا من السؤال التالي: لماذا بالغ جمهور الفلاسفة القدامى ومن بعدهم في تقديس العقل؟، إن معرفة السبب كفيل بفهم النتيجة كما يقال، فالقداماء أمثال أرسطو إنما قدسوا العقل جريا على طبيعة البيئة اليونانية التي تعصبت للرأي المجرد الذي كان ردة فعل على العقلية الوثنية القائمة على تعدد الآلهة، فرأوا في العقل خلاصا من رقبة التقليد.

أما فلاسفة النهضة الأوروبية ومن نحى نحوهم، فكان موقفهم هو الآخر ردة فعل لهيمنة الكنيسة وطغيانها الفكري، لدرجة نفي العقل وتعطيله، وللتدليل على هذا لنستمع إلى كلام كبار (المصلحين)… !!! في النهضة الأوروبية الحديثة، وهو الكلام الذي سيصف لنا العقل بأشنع الأوصاف.

يقول مارتن لوثر: (أنت لا تستطيع أن تقبل كلا من الإنجيل والعقل، فأحدهما يجب أن يفسح الطريق للآخر)[13]، ويزيد إمعانا في هجومه على العقل فيقول: (إن كل آيات عقيدتنا المسيحية التي كشف لنا الله عنها في كلمته أمام العقل مستحيلة تماماً منافية للمعقول وزائفة، فإذن كيف يعتقد ذلك الأحمق الصغير الماكر أن هناك شيئاً يمكن أن يكون أكثر مجافاة للعقل واستحالة من أن المسيح يعطينا جسده لنأكله ودمه لنشربه في العشاء الأخير؟ … أو أن الموتى سيبعثون من جديد يوم القيامة؟… أو أن المسيح ابن الله حملت به مريم العذراء وولدته ثم غدا رجلاً يتعذب ثم يموت ميتة مخجلة على الصليب؟… إن العقل هو أكبر عدو للإيمانإنه أفجر صنائع للشيطان كبغي فتك بها الجرب والجذام، ويجب أن توطأ بالأقدام ويقضى عليها هي وحكمتها… فاقذفها بالروث في وجهها… وأغرقها في العماد)[14].

ويصف أرسطو بأنه (ذلك الوثني الداهية المغرور اللعين)[15].

وفي موضع آخر يصف العقل بـعروس الشيطان، يقول: (تلك المجنونة الصغيرة الحمقاء، عروس الشيطان، السيدة العقل، ألد أعداء الله)[16].

إن هذا الهجوم اللاذع من قبل البروتستانت والكثوليك للعقل، ولد ردة الفعل تلك عند فلاسفة عصر الأنوار، الذين رأوا في ممارسات الكنيسة ظلما باسم الدين في حق الإنسان، وأن تعطيل العقل كان أول أسلحة هذا الهجوم، فلا غرابة أن نجد هؤلاء الفلاسفة يتعصبون للفلسفة الأرسطية القائمة على تقديس وتأليه العقل.

وهكذا كانت الحضارة الغربية قائمة على اتجاهين متناقضين: اتجاه كنسي معطل للعقل، واتجاه فلسفس مقدس له، مع وجود تيارات مخالفة من داخل كل اتجاه تباينت آراؤها للنظرية العقلية.

يتبع….

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) ينظر: بيان تلبيس الجهمية (2/361).

[2] ) للاستزادة في هذه المسألة ينظر: إعلام الموقعين لابن القيم (1/152).

[3] ) الموافقات في أصول الشريعة (1/111-112).

[4] ) للتوسع في هذا المبحث ينظر: نقض أصول العقلانيين، لسليمان الخراشي (3/33).

[5] ) سؤال العمل، بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، طه عبد الرحمن (ص:66).

[6] ) ينظر: تاريخ الفلسفة الحديثة (ص:86).

[7] ) ينظر: تاريخ الفلسفة الحديثة (ص:14).

[8] ) يقول ديكارت (…إننا لا نستطيع أن نشك دون أن نكون موجودين, وأن هذا أول معرفة يقينية يستطاع الحصول عليها: ونحن حين نرفض على هذا النحو كل ما يمكننا أن نشك فيه بل وحين نخاله باطلا، يكون من الميسور لنا أن نفترض أنه لا يوجد إله ولا سماء ولا أرض، وأنه ليس لنا أبدان، لكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين حين نشك في حقيقة هذه الأشياء جميعا؛ لأن مما تأباه عقولنا أن نتصور أن ما يفكر لا يكون موجودًا حقا حينما يفكر. وعلى الرغم من أشد الافتراضات شططا, فإننا لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الاعتقاد بأن هذه النتيجة: أنا أفكر، وإذن فأنا موجود صحيحة، وبالتالي أنها أهم وأوثق معرفة تعرض لمن يدير أفكاره بترتيب)، ينظر: مبادئ الفلسفة لديكارت (ص:55-56).

[9] ) ينظر: ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان، لعبد الله الشهري (ص:121).

[10] ) تاريخ الفلسفة الحديثة (ص:212).

[11] ) نفسه (ص:213).

[12] ) الصواعق المرسلة (3/1067).

[13] ) قصة الحضارة (24/56).

[14] ) قصة الحضارة (24/56).

[15] ) نفسه (24/56).

[16] ) تكوين العقل الحديث لجون هرمان راندال (1/272) بواسطة: ظاهرة نقد الدين في الفكر الغربي الحديث، لسلطان العميري (1/80).

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. وفقكم الله لكل خير استاذنا الفاضل وسدد خطاكم وزادكم علما وحرصا على الدين ونفع بكم الامة الاسلامية يااارب

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M