“حوانيت الرقاة”.. أين “حكماء الشريعة”؟

16 يناير 2023 12:33
جمعية "أبناء القرويين" سنة 1934م

هوية بريس- محمد زاوي

انتشرت في السنوات الأخيرة ظاهرة “الرقاة”، ومنهم من لا يعرف من الدين إلا ما يحترف به مهنة “الرقية”. تمثل هذه الظاهرة استعادة لممارسات قديمة، ولكن تحت أقنعة جديدة. فغدت مزيجا بين تقاليد مغربية وأخرى مشرقية، منها ما له علاقة بالدين ومنها ما يعود للمتعارف عليه من أساليب العلاجات الشعبية الشائعة.

لم تنتشر هذه الظاهرة من محض الصدفة أو على غير أساس واقعي، بل إنها تعكس خصاصا وتجيب على ثغر لا يسده الطب النفسي، أضف إلى ذلك انحسار الثقافة النفسية في صفوف المجتمع. وبقدر ما تجيب “حوانيت الرقاة” على هذه الحاجة، فإنها في حاجة إلى ترشيد، من قبل:

– الفقهاء “حكماء الشريعة” (بتعبير محمد المكي الناصري في كتاب “فلسفة التشريع الإسلامي”): بضبط هذه الممارسة شرعا، وتخليصها من البدع والممارسات التي كثيرا ما يضطرب الخاضعون لها ولا يصحون، وكذا من المعتقدات الباطلة التي لم ينص عليها دليل صحيح صريح.

– الأطباء والمحللون النفسانيون: بتقريب هذه الممارسة من علم النفس الحديث، والبحث في مدى مساهمتها في العلاج عن طريق ما يسمى “علم النفس الفطري” (لطفي الحضري) أو “علم النفس الإسلامي” (مالك بدري).

– السلطات: بتقييد هذه الممارسة بالحاجة أولا، وتقييدها بالمسموح به شرعا وقانونا ثانيا، وفرض الرقابة الدائمة عليها ثالثا.

إلا أن الأمانة الكبيرة ملقاة على عاتق الفقهاء، فهؤلاء مطالبون بالبحث الدقيق في الأصول الإسلامية لهذه الممارسة ومدى قبول الإسلام بها. لا بد من جرد الأحاديث المحتج بها في المسألة، وترتيبها من حيث الثبوت، وتمحيص معانيها من حيث الدلالة. لا بد أيضا من التمييز بين ما هو من “الثقافة الطبية الدنيوية” وما هو من “التصرفات الدينية”، ليس فيما أثر عن أحمد بن حنبل (باعتباره من أهم من أقر بمسألة “المس”، ليس على أساس الشريعة بل على أساس عجزه عن فهم ظاهرة بشرية)، أو في كتاب “الطب النبوي” لابن قيم الجوزية بعده، بل فيما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم رضوان الله عليهم أجمعين. فالتصرفات في هذا الباب ليست تصرفا واحدا، ولنا في فروق شهاب الدين القرافي وكتابات غيره من الأصوليين معين للتفصيل في هذه المسائل.

والمطلوب أيضا هو تخليص “الظاهرة القرآنية” من “الظاهرة الثقافية”، أو تخليص “التفسير” من “التأويل” (“الظاهرة القرآنية”، مالك بن نبي). وقد تحدث عدد من فقهاء الشريعة عن الشوائب الثقافية التي شابت وأحيط بها تفسير قوله تعالى: “لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس” (البقرة)، ووقفوا مليا عند معنى “التخبط” و”المس” في الآية، فلم يجدوا لهما دلالة ظاهرية في عهد الرسول وصحابته، إلا ما يمكن أن يحملا عليه من التصورات المعنوية، كدلالتهما على اضطراب مَن يغويه الشيطان ويزين له سوء عمله، فلا هو إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، مفتون الحال مضطرب الوجدان، وذلك تخبطه الذي يقوم به “يوم القيامة”، وتلك فتنة يعيشها آكل الربا في أولاه ويبعث بها في أخراها.

أما حديث “إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم” (متفق عليه)، فتدفعنا إلى التوقف عند معناه قراءة واحدة في معاني “مِن” في “الألفية” لابن مالك أو “العوامل المئة” للجرجاني، وما جعل البعض يحملها على دلالة “في” ليس معناها بالضرورة، بل ربما تكون ثقافة العصر حاملة على ذلك، وإلا فدلالات “من” عديدة وتحتمل في لسان العرب دلالات لا يجوز تهميشها بما بقي حيا على ألسنتنا فحسب. أما سياق الحديث فهو سياق “تحدير من وسوسة وسوء ظن” لا سياق “مس” كما تعارف عليه “الرقاة الجدد”.

بهذه الكيفية، يجب أن يتحرك الفقهاء ويجب أن تكون لهم كلمة، باستشارة علماء النفس وذوي الاختصاص، حتى نضع حدا لممارسات لا ترفضها الشريعة فحسب، بل تعيدنا القهقرى فكرا وعقلا، وتضطرب بها النفوس في غفلة من الجميع.

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M