صَنَمُ التَّمْرِ..!!

04 يونيو 2020 23:42

هوية بريس – إسماعيل المقدم

الحمد لله وكفى، أما بعد:

فإن الإنسان في هذه الحياة لا يمكن أن يعيش حياةً مِلؤها الفراغ الروحي، والمادية المتصلبة….، وإن عاش فحياة ضنك وتعاسة… فهو بجِبِلَّته وفطرته لا بد أن يتعلق بجهة مغيبة عنه، جهة يشعر ويحس أن لها تصرفا ما، وتدبيرا ما في حياته والحياةِ من حوله، بغَضّ النظر عن حقيقة ما اتخذه كذلك، وغضِّه كذلك عن نسبة ومقدار طواعيته لها، واستجابته لمرادها، إن كان فِعلا يَفهم ويَعيي عنها مُرادها…

فالغذاء الروحي لا بد للإنسان منه، وإن تصلبت عروقه، وتجمدت بصقيع المادية، واللادينية…. فإن داعيَ الفطرة تجده دائم الصّراخ والاضطراب، وإن غُلِّق فاه، وكُبِّلت حركته…

ولكن التعلق بما هو في حقيقة الأمر وَهم وسراب لا حقيقة له ضَرْب من السَّفه، ونوع من الحمق، وإن رآه المتلبس به عين الصواب، ومِلء فراغه…

وإن تركنا الكلام عن أولئك الذين اتخذوا الإلحاد مذهبا واللادينية مشربا، وصاروا يدندنون بالإنسانية، ويريدونها دينا جديدا للعالمين… ونظرنا في حال من ظاهره التدين، ولو من غير الملة الإسلامية، فإن الواحد منهم قد لا يجد أدنى حرج ولا غضاضة في ترك ما يعتقده، والانسلاخ منه، يبعيه لشهوة مَوبوءة أو دنيا غَرَّارَة…

ثم في المقابل…

ها أنت ترى مَن كان يحمل ألوية العلمانية والليبرالية…، قد أكلوا أصنامهم تلك، لما اشتدت عليهم الحال، وضاقت بهم السبل، واستيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، فتراهم آمّين كنائسهم، حاملين أناجيلهم (المحرفة!)…. متضرعين في الدعاء، يظهرون الخشوع، والإخبات…

وحالهم تلك كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}[الزمر:8].

وقوله سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[يونس:12].

وظني بك –أيها العاقل– رأيت ذلك وتراه، وقد ظهر للعالمين، ولم تخف تجلياته على أحد في ظل هذه الأزمة التي عمَّت العالم (الكورونا!!)

ثم إنهم كذلك لا يجدون أي حرج ولا أدنى منقصة في أكل أصنامهم، التي ملؤوا بها الدنيا، وصدّعوا بها الرؤوس: الحرية، والمساواة، الأخوة… لما تتعارض مع مصالحهم… وشواهد ذلك مسطورة ماضيا وحاضرا… فتأمل!!

وكأني بحالهم تلك تذكرني بحال أهل الجاهلية، وأحدهم قد صنع صنما من التمر يتخذه إلها يعبده، فإذا جاع أكله…

وقد نقل الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” 10/384 عن القرطبي قوله “إن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء حتى أن بعضهم عمل صنمه من عجوة ثم جاع فأكله“.

“ومن الروايات التي يذكرها الأخباريون في هذا المعنى، أنه كان لبني حنيفة صنم من تمر عبدوه دهرا، فلما حلت بهم مجاعة أكلوه، فقال الشاعر في ذلك:

أكلت حنيفة ربها    زمن التقحم والمجاعة”.هـ

وانظر “تاريخ العرب القديم” لتوفيق برو ص311.

وقد كانت العرب تُعَيِّر باهلة بذلك، فقد قال العَيني في “البناية شرح الهداية” 5/113: “قال قائلهم: ولا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهلة، ومن دناءتهم أنهم كان لهم صنممن عجوة، فوقع الغلاء فيهم فأكلوه، وكانت العرب يعيرونهم، ويقولون: بنو باهلة أكلوا آلهتهم”.هـ

وإنني لأخشى أن يكون حال بعض المسلمين، قد تشبه فيه بهذه العادات الجاهلية، فترى الواحد -نسأل الله العافية- يبيع دينه ومبادئه، ويتنكر لأخلاقه، حتى أنه يريد طمس فطرته جحودا، وإن كان قلبه لا يطاوعه على ذلك، وقِسه بأوقات الشدة… -كما مرّ-

فهو في الرخاء يظهر انقياده واستسلامه، وفي الشدة ينقلب، وكأن ما كان عليه من الحال الطيبة هي السبب…

كما قال الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحج:11].

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو المنافق، إن صلحت له دنياه أقام على العبادة، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت، انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق، ترك دينه ورجع إلى الكفر. وانظر “تفسير ابن كثير”.

قال الإمام ابن القيم في “الصواعق المرسلة” 3/1089:

“حال من يعبد الله ‌على ‌حرف… حال المتبع لهواه، الذي إن حصل له ما يهواه من الدنيا عبدَ الله، وإن أصابه ما يمتحن به في دنياه ارتد عن دينه، وهذه حال من كان مريضا في إرادته وقصده، وهي حال أهل الشهوات والأهواء،… فحال الضال والمضل وذلك مرض في العلم والمعرفة، وهي حال أهل الشبهات والنظر الفاسد والجدال بالباطل، والله سبحانه يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات، ولا صلاح للعبد إلا بمعرفة الحق وقصده”.

وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتن التي يتقلب فيها حال الرجل، بين صباح ومساء، فبينما هو قائم على دينه، منقاد لأمر ربه، إذ عُرضت عليه تجارةُ بَوار، يبيع فيها دينه، بدراهم معدودة فيها كثير من الزاهدين…

فقد أخرج مسلم في “صحيحه” (رقم: 118) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«بَادِرُوا بالأعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا».

رسالتي في الأخير إليك أيها الحبيب:

لا تبع دينك، لا تتنازل عن مبادئك، تَشبّت بأخلاقك…

لا يبلغ بك الشَّرَهُ، وحب الدنيا أن تتشبه بأولئك، الذين أكلوا ما كانوا يحبون، وما له يعبدون…

اربأ بنفسك –بارك الله فيك– عن كل ذلك…، فإن الأزمات مهما طالت، والابتلاءات مهما اشتدت، فإنها ستنكشف، فالليل مهما طال فلابد من طلوع الفجر، واعلم -كما قال ابن القيم – “أن الله يرَبي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال. فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال”. انتهى من “طريق الهجرتين وباب السعادتين” ص 277.

اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا.

اللهم احفظ علينا إيماننا، واختم لنا بالحسنى.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفُجأة نقمتك، وجميع سخطك.

آمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M