فاصل.. ولن نواصل

30 مايو 2023 21:22

هوية بريس – محمد كرم

بعد قطيعة و مقاطعة دامتا ردحا من الزمن قررت أخيرا التصالح من جانب واحد مع قنواتنا التلفزيونية الوطنية من باب “عفا الله عما سلف” و كذلك عملا بمبدأ  “يدك منك و لو كانت أشلاء”. و هكذا، فقد قضيت سنوات في التجوال بين مجموعة من القنوات المحترمة و نصف المحترمة على النايل سات كما على أقمار أخرى ، إذ لا يهم اتجاه “الطبسيل” بقدر ما يهم “آش فيه” … مع الاكتفاء بزيارات متقطعة للقناتين “الأولى” و “الرياضية” المغربيتين لمتابعة مباريات مختارة من مباريات كرة القدم الوطنية الأمر الذي كان دائما يذكرني بذلك الزبون الانتهازي ـ بل و الخبيث أيضا ـ الذي لا تجمعه ببقال الحي سوى “البوطا” في حين يتزود بحاجياته الأخرى من الهايبر ماركت المتواجد بأطراف المدينة … و كان لابد من الرجوع إلى الأصل لإعادة اكتشافه و كلي أمل في التأقلم معه من جديد و بالتالي الاستغناء عن تقديم طلب لجوء تلفزيوني جديد بقنوات الدول الشقيقة و الصديقة. و لبلوغ هذه الغاية النبيلة رسا اختياري على شهر رمضان باعتباره شهر التلفزيون بامتياز.

فاصل ونواصل

أول ما لاحظته هو ذلك التزامن المقصود و غير البريء لفترة المضغ مع بث مواد فنية و ترفيهية تستوجب الانتباه و يتخللها شلال مهول من الوصلات الإشهارية (بما فيها إشهارات حفاظات الأطفال و ربما حتى الإشهارات الخاصة بالمبيدات الحشرية )  الأمر الذي يسرق من المشاهد متعة المتابعة و يجعله يكره كل السلع و الخدمات المروج لها و يخلق له ارتباكا في الأكل قد  يتبعه عسر في الهضم أيضا. يبدو أن زمن الإفطار الهادئ على أنغام الموسيقى الأندلسية و الدردشات العائلية قد ولى بلا رجعة.

و في هذه الفترة بالذات لاحظت أيضا بأن الكاميرا الخفية ما زالت تعيش أزهى أيامها بعدما اعتقدت بأنها أضحت صفحة من الماضي بحكم ازدياد وعي الناس بها و بالتالي استبعاد احتمال السقوط في فخها. لقد اتضح لي جليا بان السذج  مازالوا يعيشون بيننا حتى في صفوف الممثلين المحترفين الذين منهم من يقبل بالبهدلة بالمقابل أو حتى “فابور”… مع رفع القبعة للفنان مراد العشابي الذي أثبت من خلال منتوجه الترفيهي الأخير أنه بطل شمال الصحراء الكبرى و الشرقين الأدنى و الأوسط في الاستفزاز المفضي إلى التشنج و الاصطدام  و تبادل الشتائم بل و حتى إلى الضرب و الجرح أحيانا.

فاصل ونواصل

أما فيما يخص الأعمال الدرامية فوجب الاعتراف بأن التلفزيون المغربي حقق قفزة نوعية في هذا المجال لا من حيث السيناريو و الحوار و لا من حيث أداء المخرجين و الممثلين و التقنيين حتى أضحى بمقدور الكثيرين من محترفي القطاع اليوم كسب قوتهم بشكل انسيابي و طبيعي دونما حاجة للتباكي أو “التسول” للبقاء على قيد الحياة ، و لولا إشكالية اللغة لتسنى للعديد من المشاهدين بالعالم العربي متابعة باقة من المسلسلات المغربية المتميزة و التي و إن كانت مستلهمة من واقع مجتمعنا فإنها تلامس القضايا الإنسانية في شموليتها من خلال التطرق لمفاهيم كونية من قبيل الخيانة و الغدر و الوفاء و الحب و الكراهية و المجاملة. و لعل من تجليات هذا التميز إقدام قناة خليجية في الآونة الأخيرة على شراء حقوق بث مسلسل مغربي لاقى نجاحا منقطع النظير و ذلك في أفق إخضاعه للدبلجة إلى اللهجة السورية التي أضحت أكثر اللهجات استيعابا في صفوف المشاهدين الناطقين بالعربية لأسباب معروفة . و لعل ما يعاب على مسلسلات رمضان ظهور بعض الوجوه في أكثر من عمل، و هذا أمر يسيء حتما إلى صورة الفنان الممثل و يتسبب في أضرار جانبية من السهل تمثلها.

و الاستنتاج نفسه ينطبق على الكوميديا المغربية، و هذا معطى لاينكره إلا جاحد. لقد ولى زمن التهريج و الإضحاك السطحي و زمن المقارنات المبتذلة بين سكان الحواضر و سكان البوادي و بين الفاسي و المراكشي و غيرهما. حتى الكوميديا الملتزمة  ـ التي جسدها الفنان أحمد السنوسي بشكل خاص و بمقدرة عالية و التي اجتذبت الجماهير المثقفة بعشرات الآلاف خلال ثمانينيات و تسعينيات القرن الماضي و التي ظل محورها هو ذلك الصراع الأبدي بين السلطة و الشعب مع تحميل الطرف الأول دائما و أبدا مسؤولية كل الانتكاسات و الإخفاقات و الانزلاقات و الانفلاتات المرصودة … و حتى مسؤولية انحباس المطر و جفاف الوديان و الآبار و ارتفاع درجات الحرارة ـ  لا قدرة لها اليوم على مجاراة ما تشهده الساحة من مستجدات تحمل توقيع فنانين ساخرين من الجيل الجديد أهلتهم قدراتهم الذاتية للجمع بين الموهبة و الاجتهاد فكانت النتائج مبهرة لكن إشعاعها غالبا ما يتوقف عند وجدة شرقا و عند لكويرة جنوبا لأسباب ثقافية أحيانا و لغوية في الغالب و خاصة عندما يكون منسوب التلوث في العامية المعتمدة مرتفعا.

و من نافلة القول بطبيعة الحال إن هناك فئة من المشاهدين ستظل تنتقد بعض الأعمال الكوميدية بحجة ضعف مستواها مع توجيه الاتهام للواقفين وراء إنتاجها و بثها. لا شك أنه من حق المستهلكين إبداء رأيهم فيما يعرض لكن عليهم أيضا استحضار حقيقتين اثنتين : أولا، عليهم أن يعلموا أن الغث و السمين يتعايشان حتى في أعرق القنوات و أغناها و أرقاها و أكثرها احترافية و بأنه لولا الإنتاجات الرديئة و المتوسطة لما كان بوسعنا تثمين الأعمال الجيدة و المتميزة. ثانيا، عليهم أن يقتنعوا إلى حد ما كذلك بأن ما هو متوفر في كل موسم رمضاني هو أفضل الموجود، إذ لا أعتقد إطلاقا بأن قسم الإنتاج يتعمد انتقاء السيتكومات و السلسلات الفكاهية الضحلة و يتعمد في المقابل إقصاء المشاريع المتوفرة على شروط التميز.

فاصل و نواصل

و بخصوص نشرة الأخبار ـ و خاصة على القناة الرسمية ـ فمازال القائمون عليها أوفياء لنهجهم القديم : أخبار وطنية نمطية مع تسجيل تحسن ملموس على مستوى بعض أوجه معالجتها، و أنباء دولية متأخرة و منتهية الصلاحية، و أولويات غير مفهومة أحيانا كتقديم نتيجة مباراة في كرة القدم على نعي شخصية عمومية مرموقة أو على خبر يهم تدشين طريق سيار أو محطة لتحلية مياه البحر، أو تقديم خبر وارد من سجن من سجون الإكوادور على خبر يهم اصطدامات متجددة بين رحل و فلاحين محليين بمنطقة سوس على سبيل المثال لا الحصر. و لعل أهم ما يحسب لهؤلاء بكل القنوات هو إصرارهم على الاستمرار في تقديم النشرات الإخبارية  بالعربية الفصحى في وقت استفردت فيه الدارجة بمعظم البرامج بشكل يدعو إلى الاستغراب. الفصحى دخلت اليوم و بكل تأكيد مرحلة الاحتضار بأفول زمن المسلسلات الدينية المشرقية المحكمة و المدققة و البرامج الثقافية الرصينة و الأفلام الوثائقية الجادة و الرسوم المتحركة المدبلجة بالأستوديوهات اللبنانية، و كلها إنتاجات كانت تذكر الجميع بأن الفاعل يرفع و المفعول به ينصب و المضاف إليه يكسر و بأن العدد يكون عكس المعدود من ثلاثة إلى عشرة. نحن اليوم في زمن لا يخجل فيه الكثير من الإعلاميين من مزج العربية بالفرنسية أو الانتقال من إحداهما إلى الأخرى بشكل صارخ و مضحك أو الوقوف أمام الكاميرا أو الميكرفون لقراءة ورقة صحفية محررة بالعامية بالرغم من تخرجهم من أعلى المعاهد، بل معظم برامج قنواتنا تحمل اليوم أسماء عامية … و حتى أسماء إنجليزية  !!!!!!!!!! و طبعا لا يمكن توقع نتيجة مغايرة عندما ينزل التلفزيون إلى مستوى كل الناس عوض حمل الكثير من هؤلاء على الارتقاء بذوقهم و مستواهم العام.

فاصل ونواصل

أما في المجال الموسيقي فيبدو أن قطار “تمغربيت” ثابت على سكته و ماض في طريقه وفق رؤية مهندسيه الذين ربما خلصوا إلى أن كنوز الشرق، و التي لطالما استمتعنا بها و رددناها حتى في حمام الحي العمومي، لا تستجيب  لمعايير الجودة المعتمدة الآن و أنه آن الأوان لإحالتها على سلة المهملات ـ حتى لا نقول صندوق القمامة. و إذا كنت عزيزي القارئ تنتمي إلى جيلي و تحن إلى روائع الزمن الجميل الحاملة لتوقيعات أساطين الطرب العربي الراحلين أو المحتضرين فما عليك إلا أن تبحث عنها في فضاءات أخرى لأن الحيز المخصص للمنوعات الغنائية على قنواتنا الوطنية محتل بالكامل من قبل حجيب و ولد حجيب و فايف سطار و عبد الستار و الداودي و الداودية و الستاتي و الستاتية و المرضي و المرضية و غيرهم من صناع “لامبيانس” المحليين. لقد انتهى زمن بث الإنتاجات الشرقية التي لولاها لما كان بمقدورنا أصلا وضع الأسس الأولى للإذاعة و التلفزة بهذا الوطن و لما كان باستطاعتنا أيضا خلق الظروف المواتية لانبثاق ما يسمى بالأغنية العصرية المغربية بمبدعيها المعروفين (محمد بن عبد السلام و عبد القادر الراشدي و عبد السلام عامر و غيرهم من الملحنين الأفذاذ) و خالداتها الكثيرة و الجميلة ( “القمر الأحمر” و “حبيبي لما عاد” و “الصنارة” و غيرها من الروائع الموسيقية المركبة).

فاصل و نواصل

و تظل أبرز ملاحظة على الإطلاق هي تلك التي تهم مجموعة من البرامج التي تحمل أسماء منشطيها. أنا لست ضد التقليد إذا كان إيجابيا و منسجما مع ما تبقى من تقاليدنا و فيه جرعة من الابتكار و طيف بصمة شخصية على الأقل و كانت غايته الإمتاع الممتع أو الإفادة المضمونة أو هما معا. و طبعا، تسمية البرامج بأسماء مقدميها ليست ابتكارا مغربيا صرفا. فقد انطلقت هذه البدعة مع مجموعة من الإعلاميين الغربيين أولا، و خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن يتبناها آخرون في بقاع أخرى من هذا العالم.

و إذا كان لأوبرا وينفري أو جيري سبرينجر مثلا ما يبرر إقدامهما على هذا الفعل باعتبارهما نجمين إعلاميين حقيقيين و بجعبة كل واحد منهما رصيد هائل من الثقافة و التجارب المتنوعة مع توفرهما على قدرة رهيبة على الفهم و التحليل و النقد و التفاعل  و مع حضور استثنائي للبديهة و الجرأة و حس الدعابة و السخرية فكيف لمنشطينا المتواضعين تفسير ربط أسمائهم بالبرامج التي يؤمنون إدارتها علما بأن دورهم يكاد ينحصر في طرح الأسئلة ؟

الأمر في اعتقادي ـ في سياق مغربي ـ لا يعدو أن يكون محاولة يائسة و بائسة للتعبير عن نرجسية دفينة لا تستند على أي نوع من التألق. حتى البرامج الناجحة من هذا الصنف إنما ينسب نجاحها إلى سلطة التفاهة المستشرية و الجهل السائد و انحطاط الذوق و ليس إلى معايير احترافية مضبوطة لا تعطي أية فرصة لسيادة التطفل و الابتذال و الرداءة. حتى المنشطون الفرنسيون من وزن ميشيل دروكير و برنار بيفو و ناجي و باتريك سيباستيان  لم و لن يرضوا لأنفسهم بذلك أبدا بالرغم من علو كعبهم الذي أهلهم لتقاضي أجور خيالية ما كانوا ليشموا رائحتها أو يروا لونها لو لم تكتشف في مساراتهم و أفعالهم و أقوالهم بذرة التميز. إن المنشط عندما يقدم على إدماج إسمه ضمن التسمية الرسمية التي اختارها لبرنامجه إنما يعطي للجميع الانطباع بأنه الكل في الكل و بأنه مالك الأصل التجاري للبرنامج و بأن رزق ضيوفه بين يديه و بأن إسم القناة  مرتبط بإسمه و بأن تأثيره الإعلامي لا يقل أهمية عن دور بريغوجين في الحرب الروسية الأوكرانية و بالتالي لا مجال للاستغناء عنه.

 

فاصل … و لن نواصل

كان بودي أن أسترسل في الكلام بسرد إيجابيات و سلبيات أخرى … لكن “ما كرهنا” (بنطق فصيح !!!). فأنا ملتزم بموعد وشيك و هام مع مدير افتراضي لإحدى شركات الإنتاج التلفزيوني. سأحاول خلال لقائي بهذا المسؤول إقناعه بمزايا مشروع برنامج سيحمل إسمي (KARAM TONIGHT SHOW) و سيخصص إن شاء الله لإسماع أصوات ثلة من المعتقلين السابقين و زمرة من نزلاء مستشفيات الأمراض النفسية المتعافين و نخبة من المشردين المثقفين و فريق من المهاجرين السريين المرحلين و طائفة من “سفيراتنا” التائبات بدول الخليج و تركيا  على وجه التحديد. قاسم هؤلاء المشترك هو أن بجعبة كل واحد منهم حكاية أو حكايات إنسانية في ثناياها تفاصيل تنطوي حتما على فائدة أكبر بكثير من الفائدة التي يمكن أن يجنيها المشاهد من جراء استماعه إلى كلام ممثل شاب ربما في رصيده دور يتيم في مسلسل، أو من خلال إصغائه إلى مؤثرة لم تتجاوز بعد مرحلة المراهقة و جاءت لإسداء النصح للناس و للتعبير عن رأيها في الحب و التعدد و الخيانة الزوجية و زواج القاصرات و في مواضيع أخرى أكبر من سنها … أو بمتابعته  لدردشة مع مطرب مبتدئ التحق باستوديو التصوير و على جلده بنطلون جينز مقطع و ربما في ريبرتواره الشخصي أغنية وحيدة ما تكاد تبدأ حتى تنتهي.

 

 

 

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M