لأي أسرة تشرّع مذكرة “المجلس الوطني لحقوق الإنسان”؟!

08 مارس 2024 16:08
المجلس الوطني لحقوق الإنسان يصادق على مذكرة بخصوص تعديل القانون الجنائي

هوية بريس- محمد زاوي

الانتقال من واقع إلى آخر ممكن في الزمن، وذلك بغض النظر عن مدى توافقه مع مقتضى الشريعة. الأمر نفسه ينسحب على التشريع، فهو عصي على التغيير الفوري في واقع يأبى ذلك أيضا. ففي بلد يدين شعبه بالإسلام، وتتشبث الدولة بالإسلام دينا رسميا في وثيقتها الدستورية، وينتظم القول في الدين بمؤسسات تفتي في القضايا الخاصة والعامة؛ في بلد كهذا لا نظن أن التوفيق حالف مذكرة “المجلس الوطني لحقوق الإنسان” لتعديل مدونة الأسرة. فلا معنى لمذكرة تطرح من الأسئلة أكثر مما تجيب، وإن كانت متقدمة بالنسبة للطوبى الحداثية التي أنتجتها!

في الإرث، تُخرِج مذكرة “المجلس الوطني لحقوق الإنسان” تقسيم التركة من حيز الإلزام القانوني إلى حيز الاختيار بين نظامين أو أكثر في ذلك (أبرزها: الإرث والوصية). ولما كانت أغلب أحكام الإرث من “الأحكام الثابتة بنصوص قطعية”، لم يجُز للمسلمين التدخل فيها بتقدير خاص للمصلحة. ومن شأن الخروج عن حيز الإلزام دون مسوغ فقهي أن يربك المرجعية الإسلامية (وهي مرجعية الدولة)، كما من شأنه أن يفكك الوحدة القانونية التي تنظم الملكية الخاصة في إطار الملكية العامة.

وبخصوص اقتسام الأموال بين الزوجين، تسعى “مذكرة المجلس” إلى تحديد الملكيات بينهما ب”مساواة” يعسر تدبيرها في الواقع، فضلا عن شذوذها عن نظام المجتمع ككل. نظام الأسرة ليس مستقلا عن نظام المجتمع، وكل مقترح يتجاهل هذا النظام ففشله في الأسرة متوقع، و”المتوقع كالواقع” كما يقول الفقهاء. كل مقترح من هذا النوع إما يكون مجرد بروباغندا مرتبطة بسياق سياسي ما، وإما يصبح تشريعا فينتج عنه ارتباك ذريع لاتساع الهوة بينه وبين الواقع الاجتماعي القائم. إن العدل بين الرجل والمرأة ليس وليد مقترح في القانون، وإنما هو انعكاس لنظام في المجتمع. وهذا هو الأساس الذي يبني عليه التشريع لا العكس.

نظام الزواج أيضا، مرّ في التاريخ بمراحل؛ ويكون من العيب أن يجهلها دعاة “الحداثة”، أما إذا تجاهلوها “فالمصيبة أعظمُ” كما يقول الشاعر. وإن الخلاف الحضاري وبكل موضوعية قائم اليوم بين “الزواج الأحادي بين زوجين مختلفي الجنس” من جهة، و”زواج متعدد بين رجل وعدة نسوة/ حدد القرآن عددهن في أربع” من جهة أخرى. النموذج الاقتصادي السائد عالميا يفرض الزواج الأحادي ومعه انفلاتات وشذوذات جنسية متفاقمة، فيما تقاوم مجتمعات الأطراف/ الجنوب لتحافظ على بعض من خصوصياتها تحسّبا لتحرر الحضارة الإنسانية من قبضة النظام الاجتماعي الغربي، الذي أريد له أن يصبح عالميا بالاستعمار في نسختيه القديمة (العسكرية) والجديدة (الناعمة). تعدد الزوجات يجب أن يُبحَث ويناقش في هذا الإطار، فهل استحضره المجلس الوطني لحقوق الإنسان عندما اقترح “منع تعدد الزوجات”؟! لا نظن لذلك، لأن المرجعية عنده واحدة: إخراج الأسرة عن إطارها التاريخي والفصل بينها وبين معركتها الحضارية.

وتعرّض مذكرة “المجلس الوطني لحقوق الإنسان” أصولا لمفسدة الاضطراب أو الضياع، بإثارة استثناءات من قبيل “مانع اختلاف الدين في زواج المغربي بالكتابية أو غير المسلمة”. فهذا أصل في الشريعة بما هي مصدر أساسي من مصادر التشريع، وهو أصل في نظُم الأسرة والتربية وبث القيم المغربية في الأجيال والبلدان. أما ما يعتري هذا الأصل من استثناءات الاختلاف التشريعي بين البلدان الإسلامية وغيرها الأجنبية، كذلك المرتبطة باضطرار المغاربة في معظم الحالات للزواج بزوجات غير مسلمات؛ فلا يستقيم تاريخيا وحضاريا وقانونيا أن يستحيل أصلا للمغاربة داخل الوطن وخارجه.

ومما يعيب “مذكرة المجلس” أنها تهوّن من “رباط الزوجية”، فمن جهة لا ترى حاجة إلى توثيقه إذا سبق “الرباط” التوثيق، ومن جهة ثانية تطالب بتوثيقه لدى ضباط الحالة المدنية، ومن جهة ثالثة تسعى إلى جعل بنوة الزنا كبنوة الزواج. ففي الزمن الذي تُستهدَف فيه الأسرة عالميا، وبمختلف الوسائل والأساليب الثقافية والاقتصادية والإعلامية والتشريعية، تسعى مقترحات من هذا القبيل إلى إفراغ “الرباط المقدس” من محتواه الشرعي والمسطري. وإذا ما علمنا أن “الجنس أصيل وغريزي، وأن الزواج تنظيمي وطارئ”، سنعرف إلى أي حدّ نحن في حاجة إلى “قدسية الزواج”. هذا هو التاريخ بمنطق الحداثة نفسها (أي: بوعيها المتقدم والنقدي)، وهي الحداثة الغائبة عن منطق “الحداثويين” وهم يحسبون أنهم في منطقها يتنعمون!

وفي مسألة “زواج القاصرات” وجب الانتباه إلى أمرين: تأثير هذا الزواج من عدمه على التعلم وتنمية الوعي لدى الرجال والنساء والمشاركة في الحياة العامة، ثم دقة الخبرات والمعايير التي يعتمدها القاضي لمنح الإذن بزواج مَن دون 18 سنة من الفتيات. وهذا يحتاج إلى دراسات سوسيولوجية وقانونية واقتصادية وتعليمية، وانفتاحا على التجارب الغربية (خاصة الأمريكية منها). غير ذلك ما هو إلا انعكاس للتعقيدات السوسيو-ثقافية التى فرضها التقدم المختل للعالم، ومصادرة للحقوق دون طلب من أصحابها، وإرباك لنظم المقاومة (أبرزها النظام الفقهي) بغير روية ولا حكمة ولا خبرة في قراءة التاريخ ومختلف التجارب البشرية، وتعسير لسبل الزواج في زمن العزوف!

الأسرة مؤسسة اجتماعية لمقاومة الاستعمار والاستلاب، تأبى أن تصبح شركة في زمن الرأسمال. وإن الذكورية والبطريركية كانت وما زالت أرحم بالنساء من زمن الرأسمال الذي حول الأسرة النووية إلى شركة، كما حول المرأة وأطفالها إلى سلعة لجني أرباح الإعلام والإشهار والسينما، فيما حول الرجل (الزوج) إلى عامل ينتج فائض القيمة تحت سياط محتكري وسائل الإنتاج. وإن المجتمعات الإسلامية، ومنها المغرب؛ رغم التحويل القسري والهجين والناقص الذي أوقعه الاستعمار بنظمها الاقتصادية، إلا أنها ما زالت تأبى التطويع بفعل مؤسساتها الاجتماعية وأعرافها وتقاليدها وقيمها الدينية وأحكامها الفقهية، وما زالت ترجو حداثة وفق خصوصيتها. في هذا الإطار تدخل الأسرة، وتصبح مصطلحات من قبيل “الطلاق” و”المتعة” و”الصلح” و”النفقة” و”الولاية” -بما لها من حمولة اجتماعية وحضارية وإنسانية-مفاهيمَ للمقاومة والصمود في وجه “تحويل الإنسان إلى عبد للرأسمال”. ف”التعاقد” ليس من الحداثة البريئة، إنه محمّل بثقافة دخيلة، نافعة في مجالات بعينها، ضارة إذا تعلق الأمر بمناح من حياة الإنسان. إنها في مجالات من قبيل الأسرة تكرّس “اغترابه” تحت قناع “التحديث”.

المرجعية للمذهب المالكي وما يكتنزه من مرونة التأصيل ومعها مرونة الانفتاح على المذاهب الثالثة الأخرى؛ هذا كلام نرفعه في وجه دعاة اللامذهبية من التيارات الدينية، واليوم نرفعه في وجه من يريد أن يكسبنا تأويلا جديدا في الدين غير متقيد بأصول المذهب المالكي وفروعه وقواعده ومقاصده. إن الموقف المقاصدي تتويج للموقف الأصولي والفروعي، وليس تحللا منهما. أما المذهب فهو نظام في المجتمع والدولة، كما هو نظام في الفقه والاستنباط. وأن يصبح محكوما في مقاصده بالمرجعية الأممية، لا بمرجعيته هو في ذاته، فذلك نوع من الارتهان للتشريع الدولي على حساب الخصوصية الفقهية، وهي ناجعة في الأسرة وغيرها، إذا استهدِفت في مجال الأسرة فبأي مسوغ نستدعيها لقضايا أخرى. ليس هذا كلاما يرفض الاجتهاد، إلا أن الاجتهاد في المذهب يؤتى بضوابطه، وداخل الإطار مساحات شاسعة متروكة للنظر الفقهي. وعليه فالمادة 400 من مدونة الأسرة يجب أن تبقى كما هي، ويجب أن يدافع عنها المغاربة كدفاعهم عن التراب.

يفتقر العقل الحداثوي لمنطق الحداثة نفسه، إنه مقطوع الصلة بمرجعيته النقدية؛ أحكامه على التقليد والدين والقدامة ليست صائبة تاريخيا، سياسيا قد تضر أكثر مما تنفع، تتسم بالارتباك امتدادا لارتباك معرفته بالتاريخ، تاريخ الإنسان والدين والأسرة والاقتصاد والمجتمع الخ. الموقف الإسلامي قد لا يكون مؤسسا على معرفة تاريخية سديدة، إلا أن الجوهر الإنساني في الدين يجعله أكثر تقدمية وأكثر مقاومة للاستلاب والاستعمار والتنميط الرأسمالي العالمي بهدف الربح والاختراق وتصدير الأزمات. في شروط تاريخية بعينها يصبح القديم أكثر حداثة من “طوبى الحداثة”!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M