لغتنا العربية والدارجة في مؤسساتنا التعليمية

07 سبتمبر 2018 01:52
لغتنا العربية والدارجة في مؤسساتنا التعليمية

هوية بريس – صفية الودغيري

نظرا لهذه الصلة الجامِعَة بين اللغة العربية والدين الإسلامي، والهويَّة والتُّراث، والرَّابطة المتينة بينها وبين القرآن، فإنَّ هذه اللغة ليست كسائر اللغات، والطَّعن في أصولها وقواعدها هو طعنٌ في اللسان النَّاطِق بهويَّتِها، وطعنٌ في خصوصيَّاتها ومقوِّماتها الفكريَّة والمعرفيَّة، وانتهاك للذّاتية العربية والإسلاميَّة، وسعي لهدم بنائها الثَّقافي وصرحها الحضاري، لذلك نبه الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري إلى: “إنَّ التَّفريط في هذا الجوهر، هو تفريط في هذا العنصر الذي هو من أهم مقوِّمات الأمَّة بعد الإسلام دين الله الخالد” حاضر اللغة العربية؛ ص:7.
ولذلك يجِب اتِّخاذ الحيطة والحَذر والذَّوْد عن حياضها، وحماية معاقلِها وحصونِها من السهام المسمومة التي يوجِّهها أصحاب النُّفوس الحاقدة والغاياتِ الفاسدة إلى اللغة العربية لطمس معالمها، ليسوسوا بذاك المخطَّط الاستعماري الحديث جسم الأمة الإسلامية، وقد حذر من هذا المخطَّط الفاسد في منهجه ودعوته ومقاصده الدكتور مازن المبارك وبيَّن: “أن اللغة العربية ليست كسائر اللغات الأخرى، وأنَّ السَّهم الذي يُسَدَّد إلى العربية لا يُسَدَّد إلى حروف وألفاظ، ولا إلى صِيَغ وتراكيب، ولكنَّه سهمٌ يُسَدَّد إلى أمَّتنا في الصَّميم، واللغة العربية مظهر رائع لامتزاج الشَّكل العربي بالمَضمون الإسلامي، ومن هنا كان أصحاب النُّفوس الحاقدة والغايات الفاسدة من استعمارية وغيرها، وراء كلِّ دعوة إلى الفصل بين هاتين القوَّتين العظيمتين. كانوا دومًا وراء الطَّعن في إحداهما، لأنَّه طعنٌ مزدوج لا يصيب واحدة منهما إلا أصاَبهما جميعًا” نحو وعي لغوي؛ ص:8-9.
وقديما نبَّه الإمام ابن حزم من الانحراف في التفسير بسبب اتباع الأهواء، فقال: “إنَّ أقواما ضعفت عقولهم عن فهم القرآن فتَناولوه بأهواء جائرة، وأفكار مشغولة، وأفهام مشوبة، فما لبثوا أن عاجوا عن الطَّريقة، وحادوا عن الحقيقة : فمن مستحِلٍّ دم الأمَّة، ومن نازعٍ إلى بعض فجاج الكفر، ومن قائلٍ على الله عزَّ وجَلَّ ما لم يَقُل. وقد ذكر الله عزَّ وجلَّ وحيه وكلامه فقال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)﴾، وهكذا كل من تناوَل شيئا على غير وجهِه، أو هو غير مُطيقٍ له” التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية؛ ص:15.
ولقد أثار الدكتور إدريس الكتاني -وهو أحد مؤسسي رابطة علماء المغرب في الستينيات والأمين العام لنادي الفكر الإسلامي- بعد استقلال المغرب عن فرنسا، موضوعا كان وما زال يثير جدلا إلى حد اليوم وهو ما يسميه «الاختراق الاستعماري» و”المستعمرين فكريًّا” للتعليم المغربي، ويقرر من خلاله أن ازدواجية لغة التعليم تشكِّل أكبر خطر على الشعب المغربي، وقد كشف في مقالته “لغتنا المحتلة هل سنحررها” عن تلك النَّوايا والأهداف الاستعمارية المُرسِّخَة للاحتلال اللغوي، والتي اعتبرها: “جانبا من الحملة التي نَظَّمها الاستعمار لفَرْنسَة المغرب ظاهرا وباطنا (..) وأنَّ القضاء على اللغة العربية لم يكن إلا وسيلة للقضاء على جميع ما حملته هذه اللغة معها إلى المغرب، من حضارة وثقافة وعقيدة ودين، حتى إذا جفَّ هذا النَّبع الفيَّاض، وتوقَّف عن أفراد الشَّعب المغربي بحاجاته الفكريَّة والروحِيَّة، قامت الفرنسية باحتلال مكانه لتعمل على فَرْنسَة هذا الشَّعب، فَرنسة تفكيره ومنطقه وعواطفه، ثم جنسيَّته، وإدماجه في الجامعة الفرنسية «تابِعٌ مُتَأخِّر» عليه نفس الواجبات، وليس له نفس الحقوق”.
وقد تأسَّف لهذه التبعِية اللغوية التي فرضت سرطان نفوذها اللغوي، المُطَعَّم بسمومها المدسوسة داخل المدارس والمؤسسات التعليمِية التي فرضت نفوذها وامتِيازاتها على إدارات الدولة ومصالحها، والشركات والمؤسسات العمومية، وعلى أسماء الشوارع والأحياء المغربية، للقضاء على طاقاتها الروحية والخُلقية والفكرية، وقد حذَّر من مخاطر هذا الغزو الاستعماري الجديد فقال: “ونحن ما لم نُقَوِّم هذا التَّعليم ونُعَرِّبه ونُوَحِّده، فإنَّما نَمُدُّ في عُمْر الأجيال المغربية التي سوف تتصارع فوق تراب وطنها، لتمَثِّل عليه ما أراده الاستعمار لها. وليت شِعْري كيف يمكن لأيَّة حكومة وطنية تريد أن تبعث شعبها بعثًا جديدا، وتستفزَّ ما فيه من كوامن الغيرة والاعتزاز والثقة بالنفس، وتنفخ فيه روح الصورة لينطلق في طريق التَّحرر الكامل، ثم لا تضع لنفسها سياسة قوميَّة محدَّدة، تستمدُّ قوتها من لغتها الوطنيّة، وعقيدتها الدينية، وحضارتها القوميَّة، لتصل حاضرها بماضيها، ومستقبلها بحاضرها؟! وإذا كان الاستعمار هو المسؤول عن جهل جيلنا الحاضر بلغته، فإنَّنا سنكون مسؤولين عن استمرار هذه المأساة بالنِّسبة لأجيالنا المقبلة”.
لهذا دعا إلى تحرير اللغة العربية لتتبوَّأ مكانتها اللاَّئقة بها، لتفرض احترامها وسيادتها في وطنها، وتخرج من سجنها الضَّيق الذي حشرها الاستعمار في أعماقه، فقال: “إنَّ تحرير اللغة العربية من سيطرة اللغة الفرنسية، تحريرٌ للشعب المغربي، وتأْكيدٌ لوجوده واسترجاعٌ لكرامته، وضَمانٌ لوحدته، وصيانةٌ لعقيدته، وتدعيمٌ لقوميَّته، وامتدادٌ لحضارته. وتحرير اللغة العربية، والدفاع عن حقِّها في الحياة، والتطور والاستقلال، هو واجب الدَّولة والشَّعب، وكلُّ إهمال من طرف أيَّة حكومة وطنيَّة في هذا التَّحرير، إهمالٌ لواجب من واجبات الدولة، وتفريطٌ في حقٍّ من حقوق الشَّعب لن يغفره أبدًا، ولن ينساه”.
وللأسف ما نشاهده اليوم لا يختلف عن مأساة تعليمنا بالأمس، فما زالت ركائز الاستعمار تُخَلِّف آثارها المُسيئة لثقافتنا ولغتنا العربية، وتستخدم للوصول إلى غاياتها المنحطَّة وبلوغ مآربِها الفاسدة، ضُروبا من الحيل وفنونا من المكائد، لمحاربة أساتذتها وعلمائها وكُتَّابها أدبيًّا ومادِّيا..
فلا غَرْو إذا أن يكون القضاء على اللغة العربية هو وسيلة للقضاء على جميع ما تحمله هذه اللغة إلى أبنائِها، من حضارة، وثقافة، وعقيدة ودين، وينحسر عطاؤها ولا يلبي حاجاتها الفكرية والروحية..
وليس هذا إلا من مخلَّفات الاستعمار الذي رحل عن الأراضي المستعمرة، ليظهر بوجه مستعار لفرض هيمنته على الشعوب المستضعفة،لاحتلالها فكريًّا وثقافيًّا، وعاطفيًّا ووجدانيًّا، واحتلالها لغويًّا، وطمس معالم لغتها العربية، وخنق أنفاسها في وطنها، لإدماج لغتها، وثقافتها، وعقيدتها، وكل ما يمتُّ إليها بصلة، ويخدم مصالحها ويُشْبِع مطامعها..
وقد نبَّه إلى هذا الدكتورمازن المبارك فقال: “ولقد اتَّخذت محاولات الطَّعن في العربية أو في الإسلام ـ والطَّعن فيهما سواء ـ أشكالاً ومظاهر شتَّى، فهي تلبس تارةً ثوب الطَّعن في الأدب القديم وصحَّته، وتظهر تارةً بمظهر تشجيع اللَّهجات المحلية، لتفتيت اللغة الواحدة وتمزيق النَّاطقين بها، وتارةً تلبس ثوب الثَّورة على القديم والدَّعوة إلى التَّجديد، فمن مُنادٍ بالتَّمرد على الأسلوب العربي القديم، وهو لا يَتمرَّد في حقيقته على قِدَم الأسلوب، وإنَّما يَتمرَّد على صحَّة اللغة وسلامتها، ومن قائِلٍ بضيق العربية وقِصَر باعها عن مواكبة الحضارة، ومن ناعقٍ بهجر الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، ومن داعٍ إلى تغيير القَواعد.. ومن داعٍ للاعتراف بالعامِّية وما فيها من أدب وفن” نحو وعي لغوي؛ ص:9.
وللأسف الاستعمار الحديث ما زال يواصل خططه بشتى الوسائل والطرق والمناهج، ولم يتوان عن بثِّ سمومه ونشر أفكاره، ولم يقنع ببلوغ ما أدركه من مطامح وما حقَّقه من مقاصد وغايات دنيئة، بل فكَّر ودبَّر وسعى إلى تنفيذ ما فَكَّر فيه وخَطَّط له، فجعل له ركائز في النفوس والأفكار، لتستمرَّ في ضَخِّ دماء أحقادها المُنْسعِرة، وغرسِ أشواك بغضها الدَّفين الذي لا تنفك تبطنه ولا تظهره، لتستمر سلطة الغالب على المغلوب نافذةً وسارية إلى يومِنا هذا، تنجلي حقيقتها ساطعة في عقل ووجدان من صاروا لهم أتباعا وجنودا، يأتمرون بأمرهم ويتمسَّحون بأذيالهم، ويهتفون بأصواتهم ويجهرون بشعاراتهم، ويلبُّون نداء دعواتهم للطَّعن في قلب العروبة والإسلام باسم التغيير والإصلاح..
وقد كشف الدكتور مازن المبارك عن هذه النَّوايا وما تخفيه من زيف وخداع فقال: “إنَّ الاستعمار بعد أن يئس من أن تكون له ركائز في أرضنا، فَكَّر وقَدَّر، وتقدَّم وتطوَّر، وقنع أن تكون له ركائز في أفكارنا ونفوسنا، لقد وجد ذلك أسهل عليه وأخفى علينا، فاختفى بمظهره العسكري السَّاذج المكشوف، ثم بمظهره الاستشاري الواضح، ليظهر بثوب لا ننكره ولسان لا نتأذَّى بمظاهرِه، إنَّ الاستعمار اليوم يعيش في عالمنا العربي المستقل بثوب عربي ولسان عربي، ينطق به نفرا منا وما منا، إلا ألسنتهم وأما قلوبهم فمصنوعة على عينيه ومنشَّأة على يديه” نحو وعي لغوي؛ ص:10..
وإنّنا اليوم إن لم نكثِّف جهودنا ومساعينا الحميدة في الحفاظ على اللغة العربية، ونعمل يدا واحدة على ترسيخ قواعدها وأصولها في التربية والتعليم، ونثابر ونجتهد في إتقان فنِّها وخطِّها، والدعوة المولِّدة والمنتجة والفاعلة، والعاملة على التمرُّس بهذه اللغة نطقا وتعبيرا، وبيانا وأدبا، وفصاحة وشرحا وإفهاما، وكتابة وإنشاء، ونعمل على اتِّخاذها وسيلة ذات المرتبة الأولى في التَّخاطب والتحاورالبنَّاء، قبل الانتقال إلى إتقان بقية اللغات الأخرى، فإننا سنكون مسؤولين عن استمرار هذه المأساة والواقع المتأزم في مجتمعاتنا ومؤسساتنا التعليمية وغيرها، وبالنِّسبة لأجيالنا في الحاضر والمستقبل..
#لغتنا_العربية_وتحديات_الغزو_الفكري_الاستعماري

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M