دفاعا عن السلفية لا عن السلفيين

06 نوفمبر 2013 19:42
صناعة القدوات بين ماضي البناء وحاضر الهدم

محمد بوقنطار

هوية بريس – الأربعاء 06 نونبر 2013م

عندما ينحرف التاريخ عن مساره الطبيعي، وتغمر سيرورته فوضى الاستعمال وتلتبس المفاهيم، ويقدم الكسب الحقائق خارج سياقها السليم، وتزول معطيات الزمان ومقتضيات المكان، ولا يراد لكثافة محصولهما الفعلي والفكري أن يتجاوز وجدان الماضي ويفارق أذهان الوراء إلى حيث الممارسة التاريخية الرابطة عبر عملية تحيين السلوك الإنساني والحضاري بين الماضي السالف والحاضر الخالف بميثاق غليظ هادف.

في مثل هذا المناخ وهذه العتمة يكون من غير المستساغ عقلا استغراب هيمنة وسواد الشذ التعبيري الخاطئ المدخول الذي مارس ويمارس نوعا من الإبهام على الدلالة التاريخية المحددة على وفق ما يليق ويناسب الدور التاريخي الذي لعبته “السلفية” كحركة تجديدية واتجاه فكري ومنهج عقدي في وعي الذات الإسلامية لمكانتها وحقيقة وجودها وخيرية رسالتها، وهو شذ جعل السلفية بقصد مرادفا لكل ما هو بال فاته الركب، ورجعي نال منه التخلف والجمود، وتقليدي ركيك معاد للعقل والفكر التجريبي الحداثي المعاصر، ثم بشيء من التصرف اتخذ الترادف شكلا دمويا متطرفا حيث صارت السلفية ومنهجها النبوي الرصين صهوة لكل تهمة إرهاب وقتل وتفجير وظلامية ورجعية وتطرف.

إنه وكما يقرر ليس ابن تيمية ولا بن القيم ولا بن عبد الوهاب ولا بن باز ولا بن عثيمين، ولكنه عضو أكاديمية المملكة المغربية الأستاذ محمد عزيز الحبابي قائلا “إنه لإجحاف أن يلحق السلفية بعد الجاه والصولة الذل والقدحية، إنه إلحاق لا يزكيه المنطق ولا يبيحه التاريخ!“، ثم يردف قائلا: “هكذا باسم تقدمية مزيفة، يعتبر متخلفا السلفي الذي قاوم السياسة الامبريالية التي رمت إلى الاستلاب والانحلال التام”، ولنسمع بعد هذا لشهادة مفكر ليس برجعي ولا سلفي بل هو جامعي مغربي يتواطأ لسان من عرفوه وبلوا فكره على أنه مفكر تقدمي كبير ذاك هو محمد عابد الجابري، وهو يتحدث عن السلفية مقررا أنها “ترفض التقليد وتنادي بالرجوع إلى الأصول، إن رفض التقليد يكتسي هنا معنى خاصا مجددا: إنه إلغاء كل التراث المعرفي والمنهجي والمفهومي المنحدر إلينا من عصر الانحطاط والعمل على بناء فهم جديد للدين عقيدة وشريعة انطلاقا من الأصول مباشرة وصولا إلى تحيينه أي جعله معاصرا لنا نحن أبناء القرن العشرين”.

إنها شهادات من أكاديمي ومفكر متمرسين جمعت بينهما خصيصة الانتماء إلى جيل عاش تقدميته ولم ينس أن ينهل من مياه الإنصاف والتجرد، وهو جيل ورغم ما يمكن أن   نسجله عليه من تأثر وتأثير في احتكاكه بالآخر والأخذ عنه بشيء من المتبوعية، إلا أنه جيل آمن بقضية أمته فلم ينس وهو يؤرخ لمرحلته وراهنية تفاعله مع الداخل والدخيل بكثير من الانبهار، لم ينس ما قدمته الحركة السلفية وأعلامها من تضحيات ومقاومة للوجود الاستعماري بأرض الإسلام، مقاومة لم تسجل على طول خطها التدافعي ردا أو رفضا أو إقصاء أو ممانعة للفكر والعلم والقيم الثقافية الغربية النافعة، على اعتبار أن الحكمة ضالة المؤمن، وأن الإسلام لم يعارض إبداعا ولم يهدم مصنعا ولم يقص مجهودا بشريا يعود على الإنسانية بالنفع والمنفعة في مجال الطب والصيدلة والصناعة والمكننة أيا كان مصدره.

إنما كان الخط التدافعي لهذه المقاومة الإسلامية “السلفية النفس والروح” حاضرا شديدا متصاعدا واقفا في وجه ثقافة الاستغراب، عند نقطة الانحراف الذي تصير فيه الثقافة وقيمها في سخرة وخدمة الامبريالية توجهها القوى الغاشمة توجيها ضلاليا تدليسيا يكرس سياسة الاستعمار ويشرعن طغيانها، ويخدم أجندة القهر والاغتراب.

فالسلفية إذن بوصفها حركة رجوع بالحاضر إلى النهل من تراث الماضي، مع واجب وضرورة التنبيه على أنه لا يجب أن يفهم من هذا الوصف أنه رجوع سلبي وهروب يبحث عن حضن وملاذ سحيق ليمارس عزلة الانكماش والجمود، كما يروج لهذا العديد من الخصوم والمناوئين ليس حصرا من العلمانيين، بل حتى من “جورة الثغر الديني” من أهل الخصوصية و الهيكلة والتمذهب في ثوبه الإقصائي الحائف، إنما هو رجوع إيجابي يروم بت الحياة ونفخ إكسيرها في تراث السلف بغية تحيين عظمته وتوجيه مظاهر التمكين فيه، وكذا استثمار أدوات النجدة وعقاقير التمريض من ركامه النفيس، وذلك لتجنيد الكل وحقن جرعاته في أوردة رهان النهوض من كبوة ونكسة الحاضر ولمّ وجمع شتات ما تشعب من الأصيل إلى سبل هالكة أذهبت ريح الأمة دينا ودنيا وخندقتها في مصاف المرض والعطب والإصابة.

فالسلفية إذن في رجوعها المحمود الذي يحاول الكثير من دعاة الحداثة اليوم أن يجعل من تجريمه واتهامه وإدانته فعلا نضاليا وموقفا تقدميا، تبغي التجديد الهادف لماضي الأمة المشرق التليد بتصويب يلازمه تحيين من شأنه أن يثور في وجه الجمود الفكري والعقم العلمي، وأن يوجه سلاحه الفكري والمنهجي المستنبط من الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة إلي هذه المنظومة المتواكلة في يأس، المنحنية في ذل وخنوع بالهامة والقامة أمام مشروع التبعية العمياء لمدنية “جحر الضب”، وكذلك إلى سخائم الرفض والتمصوف التي ينفخ اليوم في رماد ممارستها كي تعود إلى الواجهة بتقشفها وزهدها وعزلتها الأفيونية وطقوسها التي عمادها الأساطير والخرافات والشعوذة والعصمة الكاذبة باسم الكرامة والولاية والإمامة وبغض الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 فما العيب أن يحن الرماد فيخلص إلى بؤرة الموقد الأول، وما العيب أن يبحث منتهى المجرى على الصفاء والاصطفاء من رأس العين ومنبعه المعين، وما العيب أن تشذب أغصان الحاضر لتعود الحياة إلى جذور الماضي، فتكون شجرة وجودنا من جنس تلك الشجرة الطيبة التي أصلها في الأرض ثابت وفرعها في السماء تؤتي ثمرة الأكل في كل حين بإذن منبتها سبحانه، ولا تكون شجرة وجودنا كما يريد لها أولئك الذين يبغونها عوجا شجرة خبيثة لا قرار لها أيّما ريح استغراب أتت عليها اجتثتها من على الأرض ما لها من ثبات ولا قرار، ما العيب أن نتمسك بمنهج “ما أنا عليه وأصحابي” ونرفع لواء هذا المنهج في وجه الأوهام والخرافات والأباطيل التي طال الأمد عليها ممارسة، فحسبها الناس من الدين وما هي منه في شيء، فنعجل بإراحة كاهل فكرنا الديني من الحمل الثقيل من الأوزار والأوزاع والقيود الثقيلة، التي يرى كل منصف سوي الفطرة في مصيبة حملها والنوء بثقلها والمشي في أغلالها تعطيلا وتثبيطا لأي عملية نهوض وانطلاق نحو الأفضل في شجاعة وسرعة مطلوبة شرعا وكونا، تنفك كل الانفكاك عن ظلامية الزيادة في أصل الدين والتطفيف في كيل الدنيا.

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M