النوادر والزيادات تعليقا على بحث الإضاءات

04 ديسمبر 2013 23:26
عبد السلام أيت باخة

عبد السلام أيت باخة

(حول مسألة المسح على الجوربين)

ذ. عبد السلام أيت باخة

هوية بريس – الأربعاء 04 دجنبر 2013م

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه والتابعين، وبعد: فقد كتب أخونا الفاضل إبراهيم أيت باخة وفقه الله بحثا علميا متينا حول مسألة المسح على الجوارب، سماه: (إضاءات على مسألة المسح على الجوربين)، توخى فيه الدقة والإنصاف وعرض مذاهب الفقهاء مع بيان أوجه الاستدلال والاعتراض، وقد وفق إلى حد كبير جدا، وخلص في بحثه إلى عدم وجود دليل نقلي صحيح صريح يصلح أن يكون حجة في المسح على الجوربين.

غير أن الباحث وفقه الله انتهى في آخر بحثه إلى جواز المسح على الجوارب بشروط قياسا على الخفين.

ولي على كلامه نوادر وزيادات أجملها في التالي:

أولا: من جميل ما أورده الباحث الفاضل: أنه لا يصح الاستدلال بآثار الصحابة رضي الله عنهم في المسألة، لأن معظم من صحَّ عنه المسح على الجوربين من الصحابة إنما جاءت الرواية عنه بأنه مسح على الجوربين والنعلين معا.

قلت: وهذا كلام صائب يغفل عنه الكثير، لأن الترخيص  بالمسح على الجوربين عند هؤلاء الصحابة الكرام إنما جاء مقروناً بلبسهما مع النعلين. فيكون المسح عليهما معاً، لا على واحد منهما دون الآخر.

ولو جاز المسح على الجوربين بانفراد، لجاز المسح كذلك على النعلين بانفراد،  وهذا ما لم يقل به أحدٌ من الفقهاء الذين رخّصوا بالمسح على الجوربين.

قال الإمام النووي في المجموع (1/500): (واحتجّ من منعه مطلقاً بأنه لا يسمى خفاً فلم يجز المسح عليه كالنعل).

وبوب الإمام البخاري في كتاب الوضوء مشيرا إلى هذا بقوله: بابُ غسل الرِّجلَين في النّعلين، ولا يمسحُ على النعلين.

ثانيا: الاستدلال على جواز المسح على الجوارب بدليل القياس فيه نظر، لأن الأصوليين اختلفوا في صحة القياس على الرخص، جمهورهم أن الرخص لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها.

يقول ابن رشد في بداية المجتهد (1/26) ـ محررا محل النزاع في المسألة ـ: (وسبب اختلافهم: اختلافهم في صحة الآثار الواردة عنه – عليه الصلاة والسلام – أنه مسح على الجوربين والنعلين. واختلافهم أيضا في: هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها؟ فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه، ومن لم ير القياس على الخف قصر المسح عليه، ومن صح عنده الأثر، أو جوز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين).

ثالثا: الذين أجازوا المسح على الجوارب قياسا على الخفين، جعلوا لذلك شروطا ذكر الأخ الفاضل بعضها، ولم يكن دقيقا في ضبطها ونسبتها إلى أصحابها. والذي وقفت عليه من خلال المصنفات المعتمدة لكل مذهب أن هذه الشروط على النحو الآتي:

1ـ المالكية: لهم روايتان عن الإمام مالك:

الأولى: منع المسح على الجورب مطلقًا.

والثانية: جوازه فيما إذا كان مكسيا بالجلد من أعلى القدم وأسفله.

يقول ابن عبد البر في الاستذكار(1/222): (ولا يجوز المسح على الجوربين عند أبي حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين، وهو أحد قولي مالك، ولمالك قول آخر لا يجوز المسح على الجوربين وإن كانا مجلدين).

2ـ الحنابلة والصاحبان وهو المفتى به في المذهب الحنفي: يجوز المسح بشرطين
أحدهما: أن يكون صفيقا لا يشف.

والثاني : أن يمكن متابعة المشي عليه عرفا.

 ينظر: المغني (1/265)، وكشاف القناع (1/111) البدائع (1/21)، فتح القدير (1/139).

3ـ الشافعية: اشترطوا لجواز ذلك شرطين أحدهما: متفق عليه بينهم، وهو أن يكون الجورب صفيقا، والثاني: محل خلاف فمنهم من يشترط أن يكون منعلا، ومنهم من جوزه مطلقا، مادام يمكن تتابع المشي عليه، وإن لم يكن منعلا . ينظر: المجموع (1/556).

قلت: فهذه شروط المسح على الجوارب لمن سلك مسلك القياس، وهي كما ترى لا تتوفر في الجوارب التي يلبسها الناس اليوم.

وتفصيل ذلك كما يلي:

ـ الجوارب التي يلبسها الناس اليوم لا يصح المسح عليها بناء على شروط المالكية، لأنها غير مجلدة.

ـ ولا يصح المسح عليها بناء على شروط الحنابلة، لأنهم اشترطوا أن تكون سميكة (وهو شرط يمكن أن يتوفر في بعضها) مع إمكان متابعة المشي عليها بدون نعل أو حذاء، وهذا ما لا يتأتى في جوارب اليوم.

وهذا الشرط مهم عند الحنابلة، لا يصح المسح بدونه (إمكانية المشي عليها بدون نعل)، لم ينتبه إليه الأخ الفاضل في بحثه.

ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية -الذي يستند البعض على فتواه في تجويز المسح على الجوربين- يشترط لجواز المسح على الجورب أن يمشى فيه.

قال -رحمه الله- في مجموع الفتاوى (21/214): (نعم يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواء أكانت مجلدة أو لم تكن في أصح قولي العلماء).

ـ ولا يصح المسح أيضا على الجوارب التي يلبسها الناس اليوم بناء على شروط الشافعية، لأنهم اشترطوا أن تكون سميكة يمكن تتابع المشي عليها، كما هو مذهب الحنابلة، مع اختلافهم في الشرط الآخر وهو كونها منعلة.

وخلاصة هذه الشروط تدل على أن الجورب الذي يمسح عليه عند القائلين بالقياس هو المماثل في أوصافه للخف. وعليه فقياس الجوارب التي يلبسها الناس اليوم على الخفين قياس مع وجود فارق، والمسح عليها مخالف لأقوال أئمة المذاهب الأربعة كلها.

رابعا: يستدل كثير ممن يرى جواز المسح على الجوارب  بأثر يرويه الدولابي عن سهل بن زياد عن الأزرق بن قيس قال: (رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ومسح على جوربين من صوف ، فقلت: أتمسح عليهما ؟ فقال: إنهما خفان، ولكنهما من صوف).

وهذا الأثر اختلف في تصحيحه، لأنّ راوِيه سهل بن زياد الطحان لم يَرِدْ فيه تعديل، بل قال عنه الأزدي رحمه الله : ” منكر الحديث.

وعلى فرضية صحته، لا يصلح أن يكون حجة للقائلين بجواز المسح على الجوربين، لأنّ أنساً رضي الله عنه قال: “إنهما خفّان” أي إنه ما ترخّص في المسح عليهما إلا لأنهما عنده في معنى الخف، يمشي عليهما، والدليل على ذلك ما رواه البيهقي بسند حسن عن راشد بن نجيح (الحماني) قال: (رأيت أنس بن مالك دخلَ الخلاء وعليه جوربان أسفلهما جلود وأعلاهما خزٌّ (صوف) فمسح عليهما). (البيهقي: 1/273).

فهذا وصفٌ واضحٌ للجورب الذي مسح عليه أنسٌ رضي الله عنه، فمن أراد أن يقلده في المسح وجب عليه أن يمسح على جورب مثل جوربه .

خامسا: من الأخطاء التي يقع فيها بعض القائلين في عصرنا بجواز المسح على الجوارب، أنهم يتسننون به، ويقولون إنه أفضل من غسل القدمين، بل يلبسون الجوارب بنية المسح، وهذا غلو مذموم.

لأن المسح رخصة، والغسل عزيمة، ولا يمكن للرخصة التي هي استثناء من أجل الحاجة، أن تكون أفضل من العزيمة التي هي الأصل، ومن المعلوم عند علماء الأصول أن العزيمة تبقى سارية المفعول مع وجود الرخصة، فيكون الإنسان مخيرا بين الغسل والمسح.

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أمّا طهارة المسح على الخفّين فليست واجبة، بل هو مخيّر بين المسح وبين الخلع والغسل) الفتاوى (21/361).

وقد ذهب جمهور العلماء إلى أن الغسل أفضل، خلافا للحنابلة في أحد أقوالهم، واستدلوا إضافة إلى القواعد الأصولية بجملة من الأدلة النقلية منها ما رواه ابن المنذر في الأوسط عن أم كلثوم ابنة أبي بكر أنّ عُمَرَ نزل بوادٍ يقال له وادي العقارب فأمرهم أن يمسحوا على خفافهم وخلع هو خفيه وتوضأ وقال : (إنما خَلعت لأنه حبب إليَّ الطهور).

وعن صدقة بن يسار قال: سمعت ابن عمر يقول : (إني لمولَعٌ بغسل قدمي فلا تقتدوا بي).

وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فلم ير جواز لبس الخفين لأجل المسح، لكن لو لبسهما لحاجة كان المسح أفضل اتباعا للسنة قال رحمه الله: (ولا يشرع له أن يلبس الخفّين لأجل المسح ، بل صورة المسألة إذا لبسهما لحاجته ، فهل الأفضل أن يمسح عليهما، أو يخلعهما، أوكلاهما سواء؟ على ثلاثة أقوال: والصّواب أنّ المسح أفضل، اتّباعاً للسنّة) الفتاوى (26/94).

وفي ختام هذا البحث أحب أن ألفت نظر إخواننا الأفاضل إلى أمرين اثنين:

الأول: أن هذه المسألة الفقهية، من الأمور التي يسع فيها الاختلاف، فلا ينبغي التشديد فيها، ولا ينبغي نسبة مذهب معين فيها السنة، فإن مثل هذه الأمور يحكمها منطق الراجح والمرجوح لا منطق السنة والبدعة.

وما أجمل كلام ابن تيمية رحمه الله: (الاختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء من مسائل الأحكام تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا إخوة).

الثاني: القول بأن ذكر مثل الأمور على المنابر يثير الفتن والأولى تجنبه كلام ساقط مردود، لأن وظيفة المنبر الأولى هي أن يتعرف الناس على الأحكام الشرعية ويتفقهوا في دينهم.

ولست أدري كيف يكون القول بعدم المسح على الجوارب مثيرا للفتن، وهو عين المذهب المالكي، وعليه فتاوى علماء المغرب قديما وحديثا.

بل إني أزعم الآن -زعم واثق- أن الذي يثير الفتن بين الناس في الأمور الفقهية هو استيراد الفروع الحنبلية، ونشرها بين العوام تحت مسمى “السنة” مع التحذير من أقوال علماء المذهب المالكي ووصفها بالجمود والبدعة وغيرها من الأوصاف الدنيئة.

هذا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M