على هامش تكريم حسن حنفي بمراكش

18 مايو 2014 21:15
على هامش تكريم حسن حنفي بمراكش

على هامش تكريم حسن حنفي بمراكش

 أحمد الشقيري الديني*

هوية بريس – الأحد 18 ماي 2014

اجتمع مفكرون وباحثون، في إطار فعاليات المؤتمر السنوي الثاني لمؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث”، المنعقد بمراكش السبت 17 ماي 2014 حول موضوع “الخطاب الديني: إشكالياته وتحديات التجديد“، ودعوا إلى بناء خطاب ديني يؤمن بطبيعة الاجتماع المتعدد والمتنوع، وقادر على نقد الخطابات القائمة على التصنيف العقائدي.

وقد تمّ بهذه المناسبة تكريم المفكر المصري حسن حنفي، الذي اعتبر أن تجديد الخطاب الديني يقوم على مسلمة يمكن رفضها أو قبولها، وهي أن هناك علاقة تمايز بين اللفظ والمعنى، وأنه إذا لم يتم قبول هذه الثنائية، فسيصعب تجديد الخطاب الديني الذي يعد ضرورة حتمية..

والدكتور حسن حنفي يعتمد هذه المسلمة في العديد من كتاباته، من أجل تحريف الكلم عن مواضعه، وسنقدّم بعضا من الشواهد على ذلك، ليقف القارئ على منهج تجديد الخطاب الذي تروم مؤسسة “مؤمنون بلا حدود..” بعثه في المغرب بعد أن قضى نحبه في مصر.

القراءات الحداثية للنص

ـ لقد أسّس علماء المسلمين مناهج علمية دقيقة لتفكيك المصطلحات ومعرفة مدلولاتها اللغوية والاصطلاحية الشرعية، باستحضار سياقها في النص وسياقها في التنزيل، وقصد الشارع من وضعها.. وهكذا.

ـ وأنتجت قديما اتجاهات باطنية وصوفية غنوصية متطرفة قراءات تقوم على تمايز بين اللفظ والمعنى، إذ جعلت للفظ معنى باطنا هو المقصود، دون ظاهره.. لكن هذا المعنى الباطن لا يخضع لقانون اللغة التي بها نزل القرآن الكريم، ولا لمنهج علمي أصولي متين، وإنما هو تحريف للكلم عن مواضعه.

ـ ثم جاءت المناهج الغربية الحديثة بعجرها وبجرها، واختار الحداثيون العرب منها ما يوافق هواهم، من أجل إعادة قراءة النص الديني، فجاءت قراءاتهم مشوهة لظاهر النص ولفحواه، مع إفراغه من محتواه، بل “الحكم بالإعدام والموت، لا على محتواه وحقائقه وأحكامه فقط، بل وإعلان موت المصدر الذي صدر عنه هذا النص.. وهو البارئ سبحانه..” على حدّ تعبير الدكتور محمد عمارة في تقديمه لكتاب “العلمانيون والقرآن الكريم”: الدكتور أحمد ادريس الطحان..

ـ من بين هذه المناهج التأويلية المعتمدة لدى المفكرين الغربيين في قراءة النص الديني، والتي هزمت عقول المتغرّبين عندنا حتى افتتنوا بها: “الهرمينوطيقا الوضعية” التي تزعم أنه “لا يوجد نص لا يمكن تأويله من أجل إيجاد الواقع الخاص به”.. فتنتقل بالدين من الإلهية إلى الطبيعة، ومن الوحي إلى العقل، ف”الله” في تأويلات هذه الهرمينوطيقا، ما هو إلا تعبير من الإنسان المحبط العاجز عن تحقيق ذاته العالمة القادرة السميعة البصيرة المتكلمة الفعالة لما تريد، فاخترع هذا الإنسان ذاتا تتصف بهذه الصفات، وسمّاها “الله”.. تعالى الله عن هرطقاتهم علوا كبيرا.

ـ يقول الدكتور حسن حنفي: “إن الله لفظة نعبّر بها عن صرخات الألم وصيحات الفرح، أي إنه تعبير أدبي أكثر منع وصفا لواقع، وتعبير إنشائي أكثر منه وصفا خبريا، إنه لا يعبّر عن معنى معين، إنه صرخة وجودية أكثر منه معنى يمكن التعبير عنه بلفظ من اللغة، أو بتصوير من العقل، هو ردّ فعل على حالة نفسية أو تعبير عن إحساس أكثر منه تعبيرا عن قصد أو إيصالا لمعنى معيّن، فكل ما نعتقده ثم نعظمه تعويضا عن فقدان يكون في الحس الشعبي، هو الله.. والإلهيات في الحقيقة وإن بدت نظرية في الله ذاتا وصفاتا وأفعالا، هي وصف للإنسان الكامل ذاتا وصفاتا وأفعالا..”(1).

ـ “فالإنسان يخلق جزءا من ذاته ويؤلهه، أي أنه يخلق المؤله على صورته ومثاله، فهو يؤول أحلامه ورغباته ثم يشخصها ويعبدها، فالمعبود دليل على العجز، والمقدس قرينة على عدم القدرة، القادر لا يعبد ولا يقدس، بل يعمل ويخطط ويحقق أهدافه..”(2).

إلى أن يقول بصريح العبارة: “فالذات الإلهية هي الذات الإنسانية في أكمل صورها.. وأي دليل يكشف عن وجود الله، إنما يكشف عن وعي مزيّف.. ذات الله المطلق هو ذاتنا نحو المطلق ورغبتنا في تخطّي الزمان والمكان..”(2).

ـ وبعد أنسنة الإله، يتم الانتقال إلى أنسنة النبوة وكل المعتقدات الغيبية.. فتؤول الهرمينوطيقا اتصال النبي بالملك بـ”علاقة الفكر بالواقع.. فالنبوة التي تتحدث عن إمكانية اتصال النبي بالله وتبليغ رسالة منه، هي في الحقيقة مبحث في الإنسان باعتباره حلقة وصل بين الفكر والواقع”(3).

ـ يوضح أحد تلامذة حسن حنفي -الدكتور نصر أبو زيد- هذا المعنى المادي للنبوة، والذي ينفي عنها أي صورة من صور الإعجاز، بأنها درجة من أعلى درجات الخيال الناشئ عن “فاعلية المخيلة الإنسانية”، يتصل بها النبي كما يتصل الشاعر بشيطانه والكاهن بالجان..

قلت: تشابهت قلوبهم، فهي نفس التهمة التي نعث بها مشركو العرب الوحي، والتي ردّها القرآن بقوله: (وما هو بقول شاعر قليلا ما تومنون، ولا بقول كاهن، قليلا ما تذكرون).

ـ الفارق عند الهرمينوطيقا بين النبي وبين الشاعر والكاهن والصوفي، هو فقط في درجة قوة المخيلة..

“فإذا كانت فاعلية الخيال عند البشر العاديين لا تتبدّى إلا في حالة النوم وسكون الحواس عن الانشغال بنقل الانطباعات عن العالم الخارجي إلى الداخل، فإن الأنبياء والشعراء والعارفين قادرون دون غيرهم على استخدام فاعلية المخيلة في اليقظة والنوم على حدّ سواء.. والنبي يأتي على رأس قمّة الترتيب في استخدام فاعلية المخيلة، يليه الصوفي العارف، ثم يأتي الشاعر في نهاية الترتيب.. وهذا كله يؤكد أن ظاهرة الوحي لم تكن ظاهرة مفارقة للواقع، أو تمثل وثبا عليه وتجاوزا لقوانينه، بل كانت جزءاً من الثقافة ونابعة من مواضعاتها وتصوّراتها”(4).

ـ فالقرآن بحسب هذه القراءات الحداثية، في حقيقته وجوهره -كما يؤكد نصر أبو زيد- “منتج ثقافي تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد عن عشرين سنة، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه، فالواقع أولا والواقع ثانيا والواقع أخيرا”.

ـ لكن ما لا تستطيع الإجابة عنه هذه القراءات، أن القرآن جاء بعقائد مخالفة لما كان سائدا من معتقدات عند مشركي العرب من ألوان الشرك، حتى أنهم قالوا متعجّبين: (أجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب).

ولما خاطب الله نبيه بعد أن تعجّب من إنكار قومه لما جاء به -رغم وضوحه- لأنه كان مخالفا لثقافتهم ومعتقداتهم، وسخروا منه: قال له: (بل عجبت ويسخرون)، ولم يسايروه ولا أجابوا دعوته، بل عذبوا أتباعه وفتنوا من آمن به، حتى اضطرّوهم للفرار إلى أرض أجنبية عنهم، ثم قاتلوه، ومن معه، ولو جاء بما يعزّز ثقافتهم وينصر آلهتهم ما حاربوه، ولا طردوه، وهو من أشرف بطونهم.

ـ وجاء أيضا مخالفا لما كان سائدا في ثقافة أهل الكتاب من ألوهية المسيح وعقيدة التثليث وعقيدة الصلب.. وغيرها مما نقض أسسه وبيّن زيفه.

ـ فمن أي ثقافة تشكل هذا الخيال عند محمد بن عبد الله؟؟ لا البيئة العربية تساعد على تفسيره، ولا البيئة الثقافية لأهل الكتاب الذين غيّروا وبدّلوا في دين المسيح.

ـ ثم هذه ظاهرة الوحي جلية من خلال الأحوال التي كانت تعتري النبي وهو يكابد ثقلها، ألم ينقل عن الصحابة بالأسانيد الصحيحة وأحيانا المتواترة أن النبي كان إذا جاءه الوحي فيفصم عنه وإنه ليتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد، أو يكون على الناقة فتبرك من شدّة ثقله إذا نزل عليه الوحي، أو كما قال الصحابي: “كانت رجل النبي على فخذي فكادت أن ترضها لما أوحي إليه، من شدّة ثقلها” ثم بعد ذلك مباشرة يقول كلاما فصلا محكما، ما هو بالهزل ولا الجنون.

ـ ثمّ لو سلمنا بهذه الهرطقات، لماذا يتكرّر نموذج الشاعر والعارف الصوفي والكاهن في كل الديانات والثقافات، ولم يتكرّر محمد صلى الله عليه وسلم منذ أن ختم الله به الرسالات؟ ألا يوجد منذ 14 قرنا من له تلك المخيلة العظيمة؟

ـ ثمّ إن الشاعر أو الكاهن أو العارف، لا ينسب كلامه لقوّة عليا، كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم، فهل يتميّز النبي عن أولئك بالكذب أيضا على الله؟

ـ وإذا سلمنا بأنه كان يكذب على الله أو يتخيّل ذلك دون أن يتعمّده، فلماذا يؤيّده ربّه وينصره ويظهر دينه على سائر الأديان؟ أليست لهذا الإله غيرة على كلامه وخلقه حتى يترك من يكذب عليه دون أن يأخذ منه باليمين ويقطع منه الوتين؟

ـ وهل يصدر عن الخيال -مهما اتسع- متن لا يوجد فيه تناقض، ولا يوجد فيه ما ينافي العقل الصحيح، ولا معطيات العلم اليقينية الثابتة، بل فيه ما يؤيّدها، مما لم يعرف إلا في هذا العصر: عصر الكشوفات العلمية.

ـ إن هذه الهرمينوطيقا أوهن من بيت العنكبوت.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) “العلمانيون والقرآن الكريم”: الدكتور أحمد ادريس الطحان؛ أنظر تقديم الدكتور محمد عمارة..، وأيضا حسن حنفي: “التراث والتجديد” (ص:128)، و”دراسات إسلامية” (ص:359).

(2) حسن حنفي: “من العقيدة إلى الثورة”.

(3) حسن حنفي: “دراسات إسلامية” (ص:397).

(4) نصر أبو زيد: “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن”؛ عن (1) (ص:13).

* عضو مركز المقاصد للدراسات والبحوث.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M