بدائع الائتلاف ومصارع الاعتناف

17 يناير 2015 20:08
بدائع الائتلاف ومصارع الاعتناف

بدائع الائتلاف ومصارع الاعتناف

د. محمد ويلالي

هوية بريس – السبت 17 يناير 2015

لا شك أن صلاح العلاقة داخل المجتمعات الإنسانية مبني على سلامة التواصل بين أفراد هذه المجتمعات، بما يقتضيه من معاني التراحم والتوادد، والكلمة الطيبة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وبخاصة إذا كان الطرف الآخر من المخالفين في الدين، في زمن ضعفت فيه مناعة المسلمين، وقويت فيه شوكة المناوئين.

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصا على ترتيب البيت الداخلي للمجتمع المسلم قبل دعوة الآخرين، مراعاة لمبدإ التدرج في الدعوة من جهة، وتحصينا للجسم الداخلي للمسلمين من جهة أخرى. ولذلك لما أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يطفئ نار النعرات الطائفية بين المسلمين، ويخمد الحرب القبلية بينهم فقال: “دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ“، سَمِعَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: “قَدْ فَعَلُوهَا، وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ”، فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ“. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “دَعْهُ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُمتفق عليه.

وفي بيعة العقبة الثانية، لما كشف الشيطان أمر المبايعين، وعزم على إفشاء سرهم وتأليب قريش ضدهم، قال الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ للنبي -صلى الله عليه وسلم-: “َالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَداً بِأَسْيَافِنَا. فكان جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- مراعيا لأحوال الزمان والمكان وقوة المسلمين، مقارنة بشوكة المخالفين، فقال لهم: “لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ، وَلَكِن ارجِعُوا إلَى رِحَالكُمرواه أحمد أحمد.

إن الظرف الذي نحياه اليوم، لهو أحوج ما يكون إلى إعادة ترتيب العلاقات الداخلية بين المسلمين أنفسهم، بأن تُطاوع قلوبُنا شرعَ الله وتستقيم على هديه أولا. قال تعالى: “وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ“.

إن الله -تعالى- لم يدعنا في هذه الآيات إلى مرحلة الصدع بالدعوة إليه، والبشارة بدينه، ومقارعة المخالفين حتى قدم لذلك بضرورة الاستقامة على شرعه في قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا“، ليردف هذه الدعوة -مرة أخرى- بقول تعالى: “وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ“. قال الإمام الطبري: “يقول تعالى ذكره: ومن أحسن -أيها الناس- قولا ممن قال: ربنا الله ثم استقام على الإيمان به، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك”.

 المجتمعات الإسلامية -اليوم- لا تعكس الوجه الحقيقي لهذه الأخلاق السامية، ولا تلهج بمثل هذه الأفضال الربانية، لا يملك كثير منا الجراءة على أن يقول: إنني من المسلمين، في عبادتهم، وتقواهم، وأخلاقهم، والاعتزاز بعقيدتهم، والدفاع عن مبادئهم، والصبر كصبرهم، وتحمل الأذى كتحملهم، والسعي بالإصلاح بين الناس كسعيهم، والتأليف بين القلوب كتأليفهم، وبذل المعروف كبذلهم، وبسط لوجه كبسطهم، وكف الأذى ككفهم، وتقديم المصالح العامة على الخاصة كتقديمهم. قال زيد بن أسلم: “كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا“.

 ولو في المسلمين اليومَ حرٌّ***يَفُك الأسرَ أو يَحمي الذِّمارا

 لَفَكـوا دينهم وحَـمَــوْه لـمَّـا***أَرادَ الكافـرون به الصَّغـارا

إنها الأخلاق السامقة التي بها المسلمون سادوا، والركائز الصُّلبة التي بها انتصروا، “وما النصر إلا من عند الله“، والله -تعالى- ينصر من المسلمين من نصره، لا من خذله. قال تعالى: “أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ“. وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث بديع: “يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الأَمْرِ مَا لَمْ تَعْصُوا اللَّهَ، فَإِذَا عَصَيْتُمُوهُ بَعَثَ عَلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا يُلْحَى هَذَا الْقَضِيبُ (أخذ لحَاَهُ وهو قشره)” الصحيحة.

وهذا واقعنا اليوم، بسبب كثرة معاصينا، وشديد خصوماتنا، وعنيد اختلافاتنا. لسنا منصورين، بل سُلط علينا من يستفزنا في ديننا، وخالقنا، ونبينا، وعقيدتنا. ها هم أولاء أصحاب الصحيفة الأسبوعية الذين أساؤوا إلى رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بالأمس، نشروا يوم الأربعاء الماضي عددا جديدا يسخر من نبينا -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة ملايين نسخة، بدل 60 ألفا التي كانت تصدر عادة، وبـ16 لغة مختلفة، رافعين شعار “لن نسكت”. بل عزم بعضهم على أن ينتقل بعداوته من الطعن في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إلى الطعن في الخالق سبحانه.

 قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: “ولَذُنوب الجيش عندي أخوف عليهم من عدوهم، فإن الله إنما ينصرنا بطاعتنا له ومعصيتهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة“.

ويعدد ابن القيم -رحمه الله- مخاطر اطراح آداب الإسلام، والانشغال بالمعاصي، ويراها تكمن في: “قلة التوفيق، وفساد الرأي، وخفاء الحق، وفساد القلب، وخمول الذكر، وإضاعة الوقت، ونفرة الخلق، والوحشة بين العبد وبين ربه، ومنع إجابة الدعاء، وقسوة القلب، ومحق البركة في الرزق والعمر، وحرمان العلم، ولباس الذل، وإهانة العدو..”، “وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ“. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: “حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِصحيح سنن أبي داود.

لقد اقتضت حكمة الدعوة في بداية بزوغها أن يعامل النبي -صلى الله عليه وسلم- المخالفين من المشركين واليهود والنصارى بدرجة عالية من الائتلاف لا الاعتناف، ومن التعريف بسماحة الدعوة، لا هدم بنائها بنزوة، وبمستوى عالٍ من الحكمة، لا بصدر مشتعل بالنقمة، إذ المؤمن بطبعه هين لين، رفيق حليم، ليس بالمتماوت المنتكس، ولا المندفع المرتكس.

قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “المؤمن يَألف ويُؤلَف، ولا خير فيمن لا يألفُ ولا يؤلفُ، وخير الناس أنفعهم للناسالصحيحة. وقال -صلى الله عليه وسلم-: “حُرِّمَ عَلَى النَّارِ كُلُّ هَيِّنٍ، لَيِّنٍ، سَهْلٍ، قَرِيبٍ مِنَ النَّاسِصحيح الجامع. فهو من الناس قريب، يؤلف بين المتخاصمين، ويصلح ذات بين المتنافرين، ويقرب بين المتباعدين. مودة لا يحكمها مال، ولا يسيجها جاه، ولا يغلفها منفعة، ولا يحنطها مصلحة، إنما هي المودة المؤلِّفة، والمرحمة الجامعة. قال ميمون بن مهران: “التودد إلى الناس نصف العقل“.

ولَقَدْ صَحِبْتُ الناسَ ثُمَّ سَبَرْتُهُمْ***وبَلَوْتُ ما وَصلُوا منَ الأسبابِ

فإذا القَرابَةُ لا تُقَـرِّبُ قـاطِعـــاً***وإذا المَـوَدَّةُ أقــربُ الأسـبــابِ

ومراعاة للزمان والمكان والأشخاص، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يذهب مذهب التأليف والارتفاق بالمخالف وإن كان كافرا، مع إنزال الناس منازلهم، والاحتفاظ بأقدارهم، وإذا بالمخالف ينقلب من مُعاد شامت، إلى مساند ثابت، ومن مخاصم مجاهر، إلى مسالم مناصر.

– فهذا ثُمامة بن أَثال، لم يتمالك وقد رأى حِلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وانبهر بجميل سجاياه، أن قال: “يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيَّ، وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلاَدِ إِلَيَّ” متفق عليه، ثم لتسلم قبيلته كلها بإسلامه.

– وهذا العباس بن عبد الله يمر على أبي سفيان، وقد ظهر النبي -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة بجيش لا قِبل للعرب به، فيقول له أبو سفيان: “مَا لَكَ فِدَاكَ أَبِى وَأُمِّي؟”، فيقول له: “هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَالنَّاسُ”. فيقول له أبو سفيان: “فَمَا الْحِيلَةُ؟”. فغدا به العباس على رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَسْلَمَ. قال العباس: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ هَذَا الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا”. قَالَ: “نَعَمْ. مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِى سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌمسلم، ثم أسلم بإسلامه قومُه.

– ولما اختصم الأشعث بن قيس ورجل من اليهود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في أرض باليمن، ولم يكن لعبد الله بيِّنة، قضى فيها لليهودي بيمينه كما في الصحيحين.

– وروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال:  بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ، جَاءَ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ضَرَبَ وَجْهِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِكَ. فَقَالَ: “مَنْ؟”. قَالَ: رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ. قَالَ: “ادْعُوهُ”. فَقَالَ: “أَضَرَبْتَهُ؟”. قَالَ: سَمِعْتُهُ بِالسُّوقِ يَحْلِفُ: وَالَّذِى اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ. قُلْتُ: أَيْ خَبِيثُ، عَلَى مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-؟ فَأَخَذَتْنِي غَضْبَةٌ ضَرَبْتُ وَجْهَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ.. (أي: لا تقولوا: هذا النبي خير من هذا النبي، على سبيل التقليل من شأن بعضهم)” متفق عليه.

قد يمكث الناس دهرا ليس بينهمُ***وُد فـيـزرعه التسليم واللَّطَـفُ

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M