الاحتفال برجال الاحتلال الفرنسي في مهرجان الرحل 2018.. خيانة عظمى

15 أكتوبر 2018 16:13
الاحتفال برجال الاحتلال الفرنسي في مهرجان الرحل 2018.. خيانة عظمى

هوية بريس – ذ. إبراهيم الطالب

عندما يغيب الوعي بالذات تتداخل كل المفاهيم وتستلب العقول ويصير المقتول يحتفل بقاتله، والمغتصَب بغاصبه.
هذا ما وقع ببلادنا طيلة مرحلة ما بعد الاستقلال المنقوص حيث يحتفى بكل شيء يمت بصلة للاحتلال الفرنسي المجرم، وبالمقابل هناك سياسة معتمدة رسميا تهدف إلى طمس التاريخ الأسود لجرائم فرنسا في المغرب، الأمر الذي يعتبر من أكبر الخيانات في حق الأجيال المغربية، التي تحرم من معرفة تاريخها، الذي لا يزال مؤثرا وبقوة في واقعها الذي تعيشه، وتعاني معضلاته، ومستقبلها الذي تُؤمِّله وترجو ازدهاره، فلا جدال في كوننا لا زلنا نتخبط في التبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية واللغوية لفرنسا، حيث لا يزال الوجود الفرنسي بالمغرب يلعب في حياة المغاربة الدور الأكبر في الحيلولة دون نهضة الشعب وتقدم دولته.
والحقيقة هي أننا لسنا أمام عملية طمس للتاريخ الأسود للجيوش الفرنسية والرعايا الفرنسيين في المغرب فقط، بل هي عملية كبرى لتزوير التاريخ أيضا، إذ يلاحظ بقوة أن المغرب الحزين، يُتعمد فيه تلميع صورة الغازي المجرم الذي يستنكف حتى أن ينطق ساستُه كلماتِ اعتذار على جرائمه ضد الإنسانية التي اقترفتها جيوشه في حق المغاربة العزل، ابتداء من غزو الشاوية 1907 وانتهاء بجرائم أواسط الخمسينيات أي طيلة أكثر من نصف قرن من المذابح.
ولعل من عمليات التزوير للتاريخ الأسود لفرنسا في المغرب، عزم القائمين على الدورة التاسعة لمهرجان الرحل تاراغالت في محاميد الغزلان على الاحتفال في السادس والعشرين من أكتوبر الحالي، بشخصية فرنسية كانت تمثل الاحتلال الفرنسي إبان مرحلة هيمنته على بلادنا.
شخصية طيار حربي مشهور هو “أنطوان دو سانت إكزوبيري” (Antoine de Saint-Exupéry) الطيار الفرنسي الذي اشتغل رئيسا لمطار خليج طرفاية، والذي حل به في أواخر أكتوبر 1927، ومات وهو في رحلة جوية استطلاعية إبان الحرب العالمية الثانية في خدمة بلاده وجيشها الذي كان في هذا الوقت يسوم المغاربة والتونسيين والجزائريين سوء العذاب يقتل نخبهم ويسجن سياسييهم وينفي علماءهم، ويرحل شبابهم قسرا لخوض حرب بالنيابة عنه لا ناقة لهم فيها ولا جمل ولا حتى حِلسَ حِمار.
قد يتهمنا بعض من لا قيمة لديه لمقومات الهوية سوى في “الفولكلوريات” والموسيقى والرقصات والأثاث وطرق اللباس، بأننا متشددون منغلقون حاقدون على الفرنسيين، لم يؤثر فينا عشق “أنطوان” للصحراء المغربية وهيامه بثقافتها وتفاصيل حياتها، وأننا لم ننظر إلى الجانب الإنساني والفني والأدبي في شخصية المحتفى به وتراثه الإبداعي، فقصته “الأمير الصغير” يطبع منها سنويا أكثر من مليون نسخة، ولا زالت كتبه ورسوماتها ورواياته وإبداعاتها تلقى الرواج الكبير. فالاتهامات المُحتملة المذكورة هي أيضا حججهم للاحتفاء برموز الاحتلال، التي لا يمكن بحال أن نفصل عملها الإنساني عن مشاركتها في غزو المغرب، إلا إذا كنّا عابثين بالذاكرة والتاريخ، خصوصا إذا كانت تلك الرموز الفرنسية قد مارست مهمة رسمية إبان الاحتلال الفرنسي ويتأكد الأمر إذا كانوا عسكريين أو يخدمون العمل العسكري بشكل مباشر.
فهل يمكن أن أحتفي بموظف رسمي للجيش الفرنسي ولو كان أديبا إذا لم أمسخ في هويتي وتاريخي؟؟
كيف يحلو لي الاحتفاء عندما أقرأ ما سجله الملاحظ الإنجليزي “هويل” في كتابه “مغامراتي المغربية” حيث وصف البيضاء غداة غزوها من طرف رفاق أنطوان إگزوبيري بـ”أن مظهر المدينة غداة الإنزال، يتعدى ما يمكن للمرء أن يتخيله من فظاعة، إن الأزقة الضيقة مليئة بنتانة تؤدي إلى الاختناق”.
نتانة واختناق ينبعثان من جثامين آلاف القتلى شهداء الغزو الفرنسي حيث: “مِن ثلاثين ألفا من السكان، لم يتبق إلا حوالي مائتين أحياء بالمدينة.. آلاف من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، يهود ومغاربة مُزقوا إرَبا بواسطة قنابل “الملينيت” وبُقروا بالحراب، بعد أن استنفذت القنبلة أسوأ ما عندها، كان جيش المتطوعين الأجانب «اللفيف» الذي تم إنزاله بعد القَنبلة يُخرج الناس من مخابئهم ويعدمونهم بكل هدوء…” المصدر المذكور نفسه.
المجزرة سجلتها أيضا رسالة بعث بها الوزير الأكبر لمولاي حفيظ عقب بيعته بتاريخ 15 غشت 1907، قبل إرسالها إلى عميد الهيأة الدبلوماسية بطنجة، احتجاجا على مجزرة الدار البيضاء: “التي تعرض سكانها للعنف والاعتداء، بحيث قتل منهم 6000 نسمة”.
ستة آلاف هو الحد الأدنى لعدد المغاربة الذي ذبحوا وفجرت جماجمهم وإلا فإن العدد الحقيقي يتراوح بين 6000 و15000 كما تشهد به الوثائق والتصريحات التاريخية.
ولَنا أن نتخيل حجم القتل الذي يمكن أن تحدثه ثلاثة بوارج حربية ومدافع فتاكة متنوعة ترمي حممها طيلة أيام على دور وأكواخ المغاربة العزل وآلاف الجنود الذين استباحوا المدينة أياما بلياليها.
يصف الصحافي “بوردون” الذي عاش مشاهد غزو الدار البيضاء جانبا من المجازر التي حصلت في تلك الأيام واصفا ما جرى للذين استأمنتهم القوات الفرنسية؛ يقول: “لا، لا. لقد استيقظ قلبي، ولن أبين لك ذلك، هذا الجندي المخزني الذي فقد وجهه، وذي الفم المتورم الملتوي، الذي أزال الانفجار القنبلة ثلاثة أرباع رأسه، وهذه المرأة الحامل، التي ولدت هناك وسط الرعب والفزع، وسقطت ورأسها محني إلى الأمام وأرجلها مثنية، وتضم إلى لحمها العاري الذي لا يزال يختلج الصغير الذي ازداد لحينه، ولَم ير النور إلا ليموت”.
فهل يمكن لمن كان له وعي تاريخي بما اقترفته يد الإرهاب الفرنسي أن يحتفي بأحد عساكره؟؟
إرهاب فرنسا لم يقف عند الجرائم المذكورة فقد تلته مذابحُ عديدة نمثل -كنموذج لها- بمذبحة سيدي الغنيمي 15 مارس 1908، أي بعد قرابة 7 أشهر فقط من المذبحة العظمى إثر غزو الدار البيضاء.
وقد أسفرت هذه المذبحة وحدها عن قتل 2000 من المغاربة، أغلبهم من النساء والأطفال والشيوخ، ولنترك جريدة «Autorité» في عددها الصادر في 22 مارس 1908 تصف المذبحة تحت مقال بعنوان: “معركة أم مذبحة”؛ يقول المقال:
“لقد أكدت جريدة شبه رسمية، أن المدفعية الفرنسية اكتشفت دوارا يتكون من مئات الخيام فاستهدفته بقذائفها، وعندئذ حدثت مشاهد مرعبة: فقد كانت الجثث تتكوم فوق بعضها البعض، مكوِّنة مجموعات من 10 و20 و30 جثة، وباختصار فإن قذائف “الملينيت” لم تنفجر في صفوف مقاتلين ولكن في صفوف سكان مسالمين…”.
فهل بعد هذا الإرهاب الكبير والمذابح الكريهة يحتفى برجال فرنسا؟؟
وهل يمحو عشق “أنطوان إكزوبوري” المحتفى به في محاميد الغزلان دماء شهدائنا؟؟
لسنا ضد الأدب ولا ضد الجمال ولسنا منغلقين ولا متطرفين، ولكننا نأبى القبول بالخيانة لديننا وبلادنا وتاريخنا، ونرفض طمس الذاكرة وتزوير التاريخ.
بل نرى أن الواجب على الهيئات التي تعنى بقضايا المقاومة وجيش التحرير أن تتدخل لمنع هذه المهزلة في حق أجدادنا وجداتنا، كما نلح على القطع مع السياسات الرسمية التي تنتهج تغييب الدرس التاريخي الذي لا تستغني عنه أي دولة في صناعة الهوية لدى أبنائها.
إن الاحتفاء برجالات الاحتلال وعسكرييه لا يمكن أن يُقبل بتاتا وفاء منا لأجدادنا وآبائنا ونسائنا الذين اغتصبن ورملن، وكذلك تقديرا لأرواح مئات الآلاف من المسلمين الذين قتلوا وسفكت دماؤهم دفاعا عن الدين والبلاد والهوية.
إنها حقيقة خيانة لأسلافنا وجريمة في حق الأجيال القادمة.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

آخر اﻷخبار
4 تعليقات
  1. مثل هذا الاحتفاء لا يمكن أن يقع إلا: “عندما يغيب الوعي بالذات تتداخل كل المفاهيم وتستلب العقول ويصير المقتول يحتفل بقاتله، والمغتصَب بغاصبه”.
    جزاكم الله خيرا

  2. إنها حقيقة خيانة لأسلافنا وجريمة في حق الأجيال القادمة.

    وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم
    جزاكم الله خيرا سيدي ابراهيم الطالب

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M