التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة (ح3)

11 سبتمبر 2015 22:32
التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة (ح3)

التصوف السني بالمغرب حقيقة أم خديعة (ح3)

ذوالفقار بلعويدي

هوية بريس – الجمعة 11 شتنبر 2015

الكشف عن سر السرية المفرطة عند المتصوفة

نواصل -إن شاء الله- هذه السلسلة من حيث انتهى بنا المقال الأول، انطلاقا من تساؤلنا عن سر حرص المتصوفة، وتواصيهم الشديد على كتمان سر يتداولونه فيما بينهم، بتواطئ عجيب على عدم البوح به.

وذلك بحثا منا عن حقيقة هذا السر، وعن ماهية طبيعة هذا الخطر الرهيب الكامن في مجرد التصريح بما يسرونه بينهم. وهذا الهول المرعب الذي أجزع قلوب المتصوفة. بل وأفزع أرواحهم حتى أحوجهم الأمر إلى التناجي سرا بينهم، والجنوح المفرط في استعمالهم أسلوب الألغاز والرموز والإشارات. وبقدر ما تثيره سريتهم هذه من الحذر الشديد والحيطة المضاعفة والاحتراس الدائم، بقدر ما تثيره فينا من الرغبة والشوق إلى المعرفة والاطلاع على حقيقة سرهم المخبوء في كلامهم، وغلو حرصهم على كتمانه بينهم بدعوى -كما سبق بيانه في غير هذه الحلقة- أنهم أصحاب مكاشفات، وأهل علم لدني يأخذونه بمحض العناية الإلهية، ويتلقونه من الحي القيوم بلا واسطة. وهو ما يطلقون عليه اسم العلم اللدني أو علم الحقيقة، أو علم الأسرار والمكاشفات.

وللتذكير فقط، فمما أوردته من نقول شيوخهم للتدليل على ما نسبته لهم من شديد حرصهم هذا، وهذا يساعدنا على ربط المقالات بعضها ببعض، قول القشيري الصوفي: (وهذه الطائفة يستعملون ألفاظا فيما بينهم قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم، لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب غيرة منهم على أسرارهم أن يشيع استعمالها في غير أهلها،…)، إلا أن الشيء الذي لم أنقله لكم ولم أخبركم به هو حرص الجنيد نفسه سيد القوم على حفظ السر المكنون، شأنه في ذلك هو شأن كل أهل التصوف، وأنا بهذا أختصر الطريق من باب ضرب عصفورين بحجر واحد. بحيث الاستدلال بالجنيد هو استدلال برجل صوفي، إضافة إلى أن تصوفه يصنف ضمن التصوف السني، يقول الشعراني فيما نقله عن الجنيد: (أن الجنيد رحمه الله كان يقول: كثيرا للشبلي رحمه الله تعالى: “لا تفش سر الله تعالى بين المحجوبين“)1.

ومما سبق كشفه كذلك عن سر اختيارهم وانتهاجهم منهج السرية هذا، من صميم ما وضعه شيوخهم وصرحوا به، هو أنه من كشف السر وأذاع ما أجملوه واستبهموه عن غيرهم من هذا العلم، استوجب قتله وأبيح دمه. بما يعني أن هذا العلم الخاص بهم، مَن كشفه منهم يستحق حكم الإعدام. ومما قدمته بين يدي القارئ في هذا الأمر من كلام شيوخهم قول ابن عجيبة المغربي: (فإذا انفرد القلب بالله، وتخلص مما سواه، فهم دقائق التوحيد وغوامضه، التي لا يمكن التعبير عنها، وإنما هي رموز وإشارات لا يفهمها إلا أهلها، ولا تفشى إلا لهم وقليل ما هم، ومن أفشى شيئا من أسرارها مع غير أهلها فقد أباح دمه، و تعرض لقتل نفسه)2.

الشيء الذي يكشف على أن القضية تكمن في سر يتآمر المتصوفة على كتمانه، سر يتضمن شيئا إفشاؤه يستوجب قتل من كشفه منهم واستحلال دم من أظهره وأعلنه. صدقا كشف سر كهذا، أمر يستحق خوض غمار المغامرة والمخاطرة، وذلك بما يلقي علينا كشفه من الضوء، ويشيع علينا من الحقيقة، ما يرفع عنا بعض ما أشكل علينا من معرفة دوافع هذه الخشية من التصريح بحقيقة مرادهم. وتحرجهم المخيف من الكشف عما وراء نجواهم من سر غامض دفين يسوؤهم بكل تأكيد الكشف عنه.

بالله عليك أيها القارئ أو لم تتساءل كما تساءلت عن ماهية هذا السر؟

أظن أنه سؤال بديهي لا يسع عاقل التغاضي عنه وهو: ما هذا السر الذي يستوجب إفشاؤه القتل لمن كشفه وأذاعه؟؟؟؟

أما أولئك المتحرجون في غير تحرج؛ الذين استعبدتهم المناصب والأهواء والمخاوف والوساوس والظنون، الظانين في أنفسهم الكياسة والفطنة والذكاء والدهاء فهم في الحقيقة ما يخدعون إلا أنفسهم. يخدعونها حين يظنون أنهم أربحوها وأكسبوها بمراوغاتهم، ويخدعونها حين يظنون أنهم عصموها وجنبوها الأذى بتلبيساتهم. هؤلاء في الحقيقة هم السذج المخدوعون، الذين يخبطون على غير هدى في طريق لا يعرفون غايته ولا نهايته. هؤلاء لا شأن لنا بهم، ولا سلطان لنا عليهم. ونحن على يقين أنهم يعرفون التصوف على يقين من الباطل الذي عليه كما يعرفون أبناءهم. ونحن نقول هذا الكلام لأننا لا نستشهد بكتب غابرة لا تراها الأعين والأبصار، أو مخبوءة في سجل محفوظ لا تلمسه الأيدي. فمن ذا الذي لم يسمع بكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وكتاب الرسالة للقشيري، وكتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي، إلى غيرها من كتب الشعراني وابن عجيبة، وغيرها من الكتب التي أكاد أجزم أنها لا تخلو منها مكتبة عمومية يقصدها القراء والباحثون. فهذا الغزالي على سبيل المثال يخبرنا على حقيقة السر الذي من كشفه أبيح دمه بقوله :” ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار، ولقد قال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية كفر”3.

كما ينقل لنا في إحيائه عن الجنيد إمام القوم ورأس الطريق قوله: “أهل الأنس يقولون في كلامهم ومناجاتهم أشياء هي كفر عند العامة. وقال مرة: لو سمعها العموم لكفروهم4.

كما يتحفنا أبو طالب المكي هو أيضا في كتابه قوت القلوب بقول الجنيد: “وهؤلاء (أي الصوفية) هم المدلون على الله تبارك وتعالى، والمستأنسون بالله تعالى، هم جلساء الله تعالى، قد رفع الحشمة بينه وبينهم، وزالت الوحشة بينهم وبينه، فهم يتكلمون أشياء هي عند العامة كفر بالله تعالى…”5.

أظن أنه لا حرج علي بعدما نقلت أقوال الجنيد عن الغزالي وأبي طالب المكي، أن أنقل خبره من طريق الشعراني – وقد سبق مني أن نقلت عنه-، وهذا حتى لا يقول أحد أن كتب الشعراني هي كتب خرافة، وإلا قلنا له فما بال كتاب الإحياء وقوت القلوب؟ وحتى إن كانت هذه الكتب تعد كتب خرافة عند من لا يرى التصوف منهجا سليما، فهي معتبرة عند المتصوفة.

نعم لقد أخبرنا الشعراني بقوله: “وكان الجنيد رضي الله عنه لا يتكلم قط في علم التوحيد، إلا في قعر بيته بعد أن يغلق أبواب داره. ويأخذ مفاتيحها تحت وركه، ويقول: أتحبون أن يُكذب الناس أولياء الله تعالى، وخاصته، ويرمونهم بالزندقة والكفر6.

فالذي يظهر من هذه النقول والتي لا يبلغ عددها قدر عشر عشر أعشار أعشار من مجموع ما هو مدفون في قبور كتبهم، أن سر قتل كاشف السر، هو أن السر يتضمن قول الكفر وحقيقته اعتقاد ما يناقض عقيدة أهل الإسلام.

فهذا أحمد بن محمد بن عجيبة المغربي صاحب كتاب إيقاظ الهمم في شرح الحكم (حكم ابن عطاء الله سكندري)، ولا أظن أني بحاجة لأذكر القارئ بما ذكرته في الحلقة السابقة من هذه السلسلة من علاقة هذا الرجل بتصوفنا الرسمي. تأمل معي فهذا الرجل نقل أبياتا من نظم الحلاج، والحلاج حكم عليه بالقتل صلبا لقوله بعقيدة الحلول والاتحاد ووحدة والجود والتي هي -أي الأبيات-:

أنـا أنـت بـلا شـك***فـسبحانـك سـبحـانـي

وتوحيدك توحيدي***وعصيانك عصيانـي

وقوله أيضا:

سبحان من أظهر ناسوته***سـر سنا لاهـوته الثاقـب

ثم بدا في خلقه ظاهـرا***في صورة الآكل والشارب

حـتى لقـد عايـنه خلـقـه***كلحظة الحاجب بالحاجب

ثم علق عليها -أي ابن عجيبة- بقوله، وتأمل قوله جيدا: “وبإظهار هذا ومثله قتل -رضي الله عنه-، فمن لطف الله تعالى ورحمته أن ستر ذلك السر بظهور نقائضه، صونا لذلك السر أن يظهر لغير أهله ومن أفشاه لغير أهله قتل كما فعل بالحلاج“)7.

فما الذي أظهره الحلاج حتى قتل ؟ عفوا الحلاج رضي الله عنه، هكذا قدمه ابن عجيبة. مما يدل على أنه راض عما أظهره الحلاج، وإن كان هو غير راض عن فعل الإظهار.

ثم ماذا يعني مثل قول الحلاج “أنا أنت”، أليس هذا هو ما يطلق عليه عقيدة الحلول والاتحاد؟

ثم أليس قول ابن عجيبة: (ومن أفشاه لغير أهله قتل كما فعل بالحلاج) يوضح المراد والمقصود من قوله السابق: (ومن أفشى شيئا من أسرارها مع غير أهلها فقد أباح دمه، وتعرض لقتل نفسه). سبق مني وأرشدتك إلى القراءة بهدوء وإمعان وتركيز. فإني أظن أنك إذا عدت إلى المقال الأول وقرأت قول أحمد التيجاني (لو بحت بما علمه الله لي لأجمع أهل العرفان على قتلي)8، لصار بإمكانك إدراك أن الذي كتمه التيجاني هو الذي باح به الحلاج. لاسيما إذا ما سقطت يدك على مثل قول الإمام السرهندي: “لو أظهرت شمة من تلك المعاملة التي هي مربوطة بتلك الولاية قطع البلعوم وذبح الحلقوم9. لاحظ جيدا أليس قول التيجاني (لو بحت)، هو عين قول السرهندي (لو أظهرت). وكذا قول التجاني (لأجمع أهل العرفان على قتلي)، هو نفس قول السرهندي (قطع البلعوم وذبح الحلقوم). ولا أخال أنني مضطر للإشارة على أنه يمتنع علي نقل كل ما بحوزتي من نقول في هذا الصدد تناسبا مع مساحة المقال، وإلا فمثل هذه النقول متوفرة بعدد مشايخ التصوف. ومما يستفاذ من هذه النقول أن الصوفية صنفان، صنف كتم لقوته والتزامه بقواعد المذهب، وصنف أفصح لضعفه وغلبة الحال عليه. وهذا عين ما صرح به عبد السلام ياسين وهو صوفي معاصر بقوله: “ولئن قال الحلاج قولته فذلك لضعفه عن الكتمان”10. فعبد السلام ياسين يعلم بما باح به الحلاج، وإلا لما وصفه بضعفه عن الكتمان. وهذا كله حتى يدرك المتتبع، أن التصوف ليس كما يروج له كل خادع أو مخدوع؛ جوع وزهد ورقاق وخلوة وخرقة وزاوية… وإنما هو أصول وقواعد عقدية من التزم بها كان صوفيا. سواء صَرَّح أم لَوَّح.

وعودا إلى كلام ابن اعجيبة، أدعوك إلى الجمع بين قوله في بداية المقال: (فإذا انفرد القلب بالله، وتخلص مما سواه، فهم دقائق التوحيد وغوامضه،) مع خبر الشعراني عن الجنيد في قوله: (وكان الجنيد رضي الله عنه لا يتكلم قط في علم التوحيد،..). لتدرك أن التوحيد في استعمال الصوفية هو ما باح به الحلاج.

لا زلنا مع كشف ماهية السر ونوع الكفر المراد والمشار إليه في كلام المتصوفة، وهذه المرة مع عبد القادر الجيلاني من كتابه فتوح الغيب: ص:330، تأمل قوله:                           

فمن فهم الإشارة فليصنها***وإلا سوف يقتل بالسنان

كحلاج المحبة إذ تبدت له***شمس الحقيقة بالتدانــي

وقال أنا هو الحق الذي***لا يغير ذاته مر الزمــان

أدرك أنك ستتساءل مع نفسك غير مصدق وتقول من صاحب النظم؟

وسأقول لك نعم عبد القادر الجيلاني، واطمئن أنه ليس هناك تشابه في الأسماء.

ومما يؤكد هذا الأمر ابن الفارض -وهو من صوفية الاستشراق- بقوله: “إنما قتل الحلاج لأنه باح بسره إذ شرط هذا التوحيد هو الكتم”11. تأمل مجددا إلى استعمال لفظ التوحيد.

وهذا ابن خلدون يقول: (قتل الحلاج بفتوى أهل الظاهر وأهل الباطن، أهل الشريعة وأهل الحقيقة، لأنه باح بالسر فوجبت عقوبته)12.

نعم، قتل الحلاج مصلوبا بفتوى العلماء. إلا أنه قد يحصل إشكال للقارئ من خلال ما قاله ابن خلدون.

هذا الإشكال هو: ما سر التوافق الحاصل بين أهل الظاهر وهم علماء الشريعة، وأهل الباطن وهم مشايخ الصوفية؛ في الحكم على الحلاج بالقتل، مع تباين الفريقين في المعتقد؟!

أقول: نعم، قتل بفتوى أهل الظاهر -حسب تعبير المتصوفة- لكفره عندهم لما يقتضيه ما باح به من خروج ومروق عن دينه وملته.

قال القاضي عياض: “أجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من المالكية، وقاضي قضاتها، أبو عمرو المالكي على قتل الحلاج وصلبه لدعواه الإلهية وقوله بالحلول وقوله أنا الحق”13.

أما أهل الباطن فلا. فإن حكم القتل الصادر عنهم في حق الحلاج، فذلك لأنه أفشى سرهم لغيرهم وباح به، فهو في حكم خائن العهد الذي بينهم، فحكم القتل الصادر عنهم في حقه هو فقط لبوحه لا لاعتقاده، وبهذا وجب قتله عندهم صونا لسرهم كما عبر ابن عجيبة.

فلا توافق إذن في شأن الحلاج. فإنه شتان بين أهل الشريعة الذين حكموا بقتله مع اعتقاد كفره وزندقته، وبين أهل التصوف الذين حكموا بقتله مع اعتقاد إيمانه وولايته، ولذلك هم يترضون عنه عند ذكر إسمه كما هو واضح في كلام ابن عجيبة.

فأين المخدوعون؟!!

أيعقل أن يكون تصوف هؤلاء بمثل نقولهم هذه تصوفا سنيا؟

فإن قال لا. قلنا له: فما تقول في تصوف ابن عجيبة، وتصوف التيجاني، والسرهندي؟

على كل فخلاصة القول في هذه المقالات الثلاث أن الصوفية لهم علم خاص بهم وهو ما يدعى عندهم العلم اللدني، وهو سر يتواصون بكتمه وعدم كشفه وإفشائه لغير أهله، ومن أفشاه أبيح دمه ووجب قتله لما يتضمنه ظاهر هذا السر من كفر بالله وزندقة وهو عين مقالة الحلاج.

يتبع….

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- “الطبقات الكبرى للشعراني” المقدمة.

2- “إيقاظ الهمم في شرح الحكم”، (ص:39).

3- “مشكاة الأنوار”، المقدمة.

4- “إحياء علوم الدين”، (4/449) للغزالي.

5- “قوت القلوب”، أبو طالب المكي (77/2)

6- “مشكاة الأنوار”، المقدمة.

7- “إيقاظ الهمم في شرح الحكم”؛ (ص:156).

8- كشف الحجاب عمن تلاقى مع الشيخ التجاني من الأصحاب (ص:373)، لاسكيرج.

9- أنظر الإحسان (2/ص240)، لعبد السلام ياسين. وكتاب “المنتخبات من المكتوبات” للسرهندي.

10- “الإسلام بين الدعوة والدولة”، (ص:352).

11- “مصرع التصوف”؛ (ص:153).

12- “إيقاظ الهمم في شرح الحكم” (ص:74 و347).

13- “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، ج2 ص:592، للإمام القاضي عياض.

[email protected]

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M