سلسلة أنواع القلوب (ح6) القلب الراضي (ج4) التسليم بما قسم الله، والانقياد لما اختار الله

15 سبتمبر 2015 19:46
سلسلة أنواع القلوب (ح6) القلب الراضي (ج4) التسليم بما قسم الله، والانقياد لما اختار الله

سلسلة أنواع القلوب (ح6) القلب الراضي (ج4) التسليم بما قسم الله، والانقياد لما اختار الله

د. محمد ويلالي

هوية بريس – الثلاثاء 15 شتنبر 2015

تحدثنا في القسم الخامس من أنواع القلوب عن الجزء الثالث من مواصفات القلب الراضي، الذي خصصناه لضرورة الرضا بالإسلام دينا. وكانت مناسبة لكشف عوار بعض أفكار ومعتقدات قلوب من اتخذوا التحرر عن الدين منهجا، والانسلاخ عن التكاليف الشرعية مسلكا، والتنكر لآداب الإسلام وأخلاقه ديدنا.

ونود -اليوم إن شاء الله تعالى- أن نستجلي إحدى أهم وأعظم صفات القلب الراضي، مما يُخوِّل استحضارُها والإيمان بها راحة نفسية عجيبة، وطمأنينة قلبية فريدة، يلتذ بها المؤمن، ويتذوق حلاوتها الموقن، ألا وهي التسليم بما قسمه الله، والفرح بما قدره الله، والانقياد إلى ما اختاره الله، والإيمان الجازم بأن هذا الذي كتبه الله لك هو عين الخير، وكمال الصواب، وسديد الاختيار، سواء كان هذا الاختيار خيرا، أم كان ظاهره شرا. قال الله تعالى: “مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ“. ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِصحيح سنن الترمذي.

كثير من الناس يضجر من كونه فقيرا محتاجا، أو مريضا عليلا، أو بئيسا حزينا، يحزنه فقره، أو يقلقه شكله، أو تشاكسه زوجته، أو يعارضه أبناؤه، أو ترهقه وظيفته، حتى يتمنى الموظف أن يكون تاجرا، والتاجر أن يكون صانعا، والصانع أن يكون مزارعا، كل يضجر من حالته، ويتأفف من وضعه، ولو تأملوا في الوصية بالرضا، لهان عليهم الأمر، ولعلموا أن ما ساقهم الله إليه بعد أخذهم بالأسباب هو لهم خير، وأن الإعراض عن الدنيا، والتشوف إلى ما عند الله مُكسِب لمغانم الآخرة، كما قال تعالى: “تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ“.

هؤلاء عموم أنبياء الله، قد اختبر الله تعالى كثيرا منهم بالفقر والمرض، وهوانهم على أقوامهم، حتى قتل منهم الكثير، وطرد منهم الكثير، وكذب منهم الكثير، فلم يضجروا، ولم يتأففوا.

دخل أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو موعوك (به حمى)، عليه قطيفة، فوضع يده فوق القطيفة فقال: ما أشد حُمَّاكَ يا رسول الله. قال: “إنا كذلك يُشدَّد علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر“. ثم قال: يا رسول الله، من أشد الناس بلاء؟ قال: “الأنبياء“. قال: ثم من؟ قال: “العلماء“. قال: ثم من؟ قال: “الصالحون. كان أحدهم يبتلى بالقُمَّل حتى يقتله، ويبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يلبسها، وَلَأَحدهم كان أشد فرحا بالبلاء من أحدكم بالعطاءصحيح سنن ابن ماجة.

ولم يكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أشرف الخلق بمعزل عن سَنن الأنبياء قبله، فقد ابتلي، ومرض، وأوذي، واتهم، وافتقر، وحزن، وكان في قمة الرضا بما قسم الله، وأوج التسليم لمراد الله، وعظيم الانقياد لاختيار الله، غير متبرم أو متحسر، أو متضجر أو متأفف، يعلم أنه تحت عين الله، الذي يعلم السر وأخفى.

فعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: “مَا عَلِمْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- أَكَلَ عَلَى سُكُرُّجَةٍ (إناء صغير) قَطُّ، وَلاَ خُبِزَ لَهُ مُرَقَّقٌ (الرغِيفُ الواسعُ الرقيقُ) قَطُّ، وَلاَ أَكَلَ عَلَى خِوَانٍ (ما يوضع عليه الطعام عند الأكل). قِيلَ لِقَتَادَةَ: فَعَلَى مَا كَانُوا يَأْكُلُونَ؟ قَالَ: عَلَى السُّفَرِ (ج: سُفْرَة: جلد مستدير)” البخاري.

وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: “مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم -مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ- مِنْ طَعَامِ الْبُرِّ ثَلاَثَ لَيَالٍ تِبَاعًا حَتَّى قُبِضَ” متفق عليه.

ووصف عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- أثاث بيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: “وَإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ (جلد) حَشْوُهَا لِيفٌ (ما تصنع به الحبال)، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا (ورق شجر يدبغ به) مَصْبُوبًا (مسكوبًا)، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ (جلود غير مدبوغة)، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ، فَبَكَيْتُ، فَقَال: “مَا يُبْكِيكَ؟“. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: “أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟البخاري.

هذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، سيد البشر، وأشرف من وطئ الأرض، الذي زكاه الله فقال: “وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ“، عاش عظيما، لأنه رضي بما قسمه الله له من الدنيا، عاش كريما، لأنه حقق معنى القناعة والتعفف، عاش منتصرا، لأن مَن عَلَّمه الرضا بالقليل، مَلَأَ قلبه قوة وعزة وشرفا، لينقل لنا -صلى الله عليه وسلم- ثمرة هذا الدرس الجليل: إن تحقيق سعادة الدارين، كامن في التقلل من الدنيا الفانية، وإشباع القلب بحب الآخرة، الدارِ الباقية الخالدة.

فقد جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِيَ اللَّهُ، وَأَحَبَّنِيَ النَّاسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ الناسصحيح سنن ابن ماجة.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “بَشِّرْ هَذِهِ الأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْبِلاَدِ، وَالنَّصْرِ وَالرِّفْعَةِ فِي الدِّينِ، وَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ بِعَمَلِ الآخِرَةِ لِلدُّنْيَا، فَلَيْسَ لَهُ فِي الآخِرَةِ نَصِيبٌصحيح الترغيب.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ. وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌصحيح سنن ابن ماجة.

ويقول أبو الدرداء – ضي الله عنه : “لئن حلفتم لي على رجل منكم أنه أزهدكم، لأحلفن لكم أنه خيركم”.

وقال عبدُ الله بنُ مَسْعود – رضي الله عنه -: “أنتم اليوم أطول اجتهادا، وأكثر صلاة من أصحاب رسول الله – لى الله عليه وسلم ، وكانوا خيرا منكم. فقيل: لم؟ قَالَ: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب في الآخرة”.

وهذه تجربة الحسن البصري الذي ملأ الدنيا علما، وفقها، وورعا، حتى قال فيه قتادة: “ما جالست رجلاً فقيهاً إلا رأيت فضل الحسن عليه، وكان الحسن مهيباً، يهابه العلماء قبل العامة”. وقال فيه محمد بن سعد: “كان الحسن فقيها، ثقة، حجة، مأمونا، ناسكا، كثير العلم، فصيحا، وسيما”. فبماذا وصل إلى هذه المرتبة إذن؟.

سأله رجل -وقد علم زهده وعفته- فقال: “ما سرُّ زهدك في الدنيا يا إمام؟ فقال أربعة أشياء: “علمت أن رزقي لا يأخذه غيري، فاطمأن قلبي. وعلمت أن عملي لا يقوم به غيري، فاشتغلت به وحدي. وعلمت أن الله مطلع علي، فاستحييت أن يراني على معصية. وعلمت أن الموت ينتظرني، فأعددت الزاد للقاء ربي”.

ورحم الله من قال: “من رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطهُ أحدٌ، ومن قنِعَ بعطائه لم يدخل قلبَه حسد”.

 رضيـت بما قسـمَ الله لي***وفوّضتُ أمري إلى خالقي

كما أحسن الله فيما مضى***كذلـك يُحسن فـيما بَـقِــــي

إن ما ذكرناه من وصف القلب الراضي بالتقلل والتزهد، لا يعني أن المسلم يترك العمل الدنيوي تماما، ويعيش على الفاقة والاستجداء وسؤال الناس، بل المقصود أن لا ينشغل هذا القلب بالدنيا عن الآخرة، حتى يصير همه أن يكون من أصحاب المال، أو الجاه، أو المنصب، يوالي على ذلك ويعادي، ويؤاخي عليه ويجافي، وربما يركب في سبيل تحقيقه المحرمات من رشاوى، وظلم، وكذب، إذ الغِنَى الحقيقي غِنَى النفس. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ” متفق عليه.

فالخطر أن تملكك الدنيا لا أن تملكها فيكونَ وجودها وذهابها عندك سواء.

فأنت تستفرغ وسعك في تحسين معيشتك، وتتخذ لذلك من الأسباب ما شرعه الله، ثم حيث ما وصل بك سعيك قنعت ورضيت بما وصلت إليه، كثيرا أو قليلا. وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “خير الرزق الكفافصحيح الجامع.

قال علي بن الفضيل: سمعت أبي يقول لابن المبارك: “أنت تأمرنا بالزهد والتقلل، ونراك تأتي بالبضائع، كيف ذا؟” قال: “يا أبا علي، إنما أفعل ذلك لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي”. قال: “يا ابن المبارك، ما أحسن هذا إن تم هذا”.

وقال أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه-: “حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي”.

ما أجملَ الدينَ والدنيا إذا اجتمعا***وأقبحَ الكفـرَ والإفلاسَ بالرجـل

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M