من تساؤلات القارئ المتدبر

12 ديسمبر 2018 12:37
من تساؤلات القارئ المتدبر

التقويم العقلي

ما المراد بالتقويم في قوله تعالى تعالى في سورة التين {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}؟

بعد تأمل وتدبر وتدارس ومراجعة لأقوال المفسرين لقوله تعالى في سورة التين {لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم}

ترجح لي أن المراد بالتقويم هنا – والله أعلى وأعلم بالمراد – أنه التقويم العقلي أي في أحسن تقويم عقلي… لماذا؟؟

لأمور:
1- أن كبريات المنن التي اختص الله تعالى بها هذا الانسان ثلاثة:
الأولى: منة الفطرة، وهي نعمة وهبية مكنونة في كيان الانسان يولد بها، تدفعه إلى الخير وتنفره من الشر مثلها كمثل المادة الخام التي تحتاج إلى تكرير وتطوير وتفعيل…
ومن هنا قال الله تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون}
فإقامة الوجه تجاه الدين مُسَهِّلها ومُيَسِّرها هي تلك الفطرة التي فطر الله تعالى عليها الإنسان، وتبديل خلق الله يكون في التخالف بين الفطرة والدين، فمخالفة الفطرة للدين تبديل لخلق الله، ومخالفة الدين للفطرة تبديل لخلق الله، والإبقاء على خلق الله وما خلق الله يكون في التوافق بين الدين والفطرة، والدين القيم ما كان موافقا للفطرة، فمراعاة الفطرة أصل من أصول فقه الدين ومقصد من مقاصده، وأي مخالفة أو إهمال للفطرة في فقه الدين، يعود عليه بالإبطال وإن سمي دينا، والدين المطلوب هو الدين القيم وليس غيره، هذه الحقيقة وهذه المراعاة وهذا التوافق يجهله أكثر الناس، فأوجدوا وفهموا ألوانا من الدين، كانت غير قيمة فبدلوا بها الفطرة، وهذا داء عام في كل من أهمل الفطرة ومراعاتها في فهم الدين…

وجاء في الحديث الصحيح (ما من مولود إلا ويولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه)

فالفطرة تولد مع الانسان وينبت في تربتها إلا أن التدخل البشري في عدم مراعاة الفطرة كأصل ومقصد في فهم الدين يحرف ذلك المولود عنها فيفقد الدين قيمته، ويتبدل خلق الله تعالى…

السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي جعل الانسان يوافق الفطرة أحيانا ويخالفها أحيانا؟
ستظهر الإجابة على هذا السؤال فيما يلي…

المنة الثانية: منة الوحي
وهي النعمة التي أتمها الله تعالى على عباده، وأكمل بها دينهم، ودلهم بها على جميع مصالحهم وعلى حقيقها، وعلى جميع مفاسدهم وعلى حقيقها، فلما اختاروا الدين واستجابوا للوحي، وأعملوه على مراد الله تعالى، صلحت أحوالهم وعُدِّلت مفاهيمهم وتصوراتهم، فزادهم الله إكراما وصلاحا ونورا وزكاة، حتى ارتقوا ففاقوا الملائكة المقربين…

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما السر؟ وما الوسيلة التي جعلتهم يختارون هداية الوحي؟

ستفهم الإجابة من خلال ما يلي…

المنة الثالثة: وهي منة العقل
أخرتها وإن كان ترتيبها من حيث الوجود ثانيا، لأختم بها وأرجحها وأجيب بها عن السؤالين السابقين…
العقل تلك النعمة التي هي مختبر التحليل والدراسة في الإنسان، وهي محل القرار ومصدر العزم والإقدام والاختيار، وهي مكمن الفهم والإدراك…
فما من شيء أو حدث أو طلب أو مشروع أو مسلك يعرض على الإنسان إلا وعرضه مباشرة على عقله ليفهم مفرداته أولا، ثم يدرك بعد ذلك معانيه ومقاصده، ثم تبدأ عملية الرسو على قرار معين، وهكذا يتم إخراج القرار النهائي…

إلا أن هذه العملية لا تمر في أجواء مجردة، بل تؤثر فيها مؤثرات:

منها: قصور وسائل الإدراك لدى الإنسان ومهما سعى في تطوير والبحث عن دقة تلك الوسائل إلا أنها تبقى قاصرة عن إدراك كل الحقيقة وكنهها، بل تبقى غير قادرة على إدراك كثير من الحقائق…

ومنها: الهوى وهو التسرع في الاختيار دون استقصاء وإدراك كل الحقيقة لأجل شهوة لحظية أو مصلحة وهمية أو سراب مُتَراءٍ…

ولتفادي تلك المؤثرات سُبِق بالفطرة كمحضن وبيئة تربيه على اختيار الصالح والنافع وإدراك الحقيقة، ولُحِق بوحي يعينه على اتمام المسيرة والوصول إلى حقائق الأمور، فينير بصره وبصيرته ويخرجه من الظلمات إلى النور، ويُنيله مصالح الدارين…

إلا أنه يبقى المنة المميزة لهذا الإنسان إذ به يقرر، وبه استحق مخاطبة الوحي، وبه يبحث عن معالم الفطرة التي غيبتها طبقات الهوى والشهوة والمادة، وبه استحق كرامة الله تعالى لأن ما من تفوق أو نجاح أو فوز حقيقي دنيوي وأخروي إلا وهو نابع من قرار واختيار عقلي…

إذن فالذي يجعل الإنسان يوافق فطرته أو يخالفها هو عقله
والذي يجعل الانسان يختار الوحي أو يخالفه هو عقله…

2- قوله تعالى {في أحسن تقويم}
عبر القرآن ب(في) الدالة على الظرفية والتفصيل وهذا أنسب للتقويم العقلي منه للتقويم الفطري أو الجسدي، لانهما ينظر إليهما على الإجمال، فتقويم الخلقة لا يظهر في تفاصيلها وإنها يظهر في صورتها المتناسقة، وتقويم الفطرة لا يتناول التفاصيل، وإنما يتناول المقاصد والمبادئ…
أما التقويم العقلي فإنه يتناول التفاصيل والجزئيات في تحليلها واستقراءها والموازنة بينها، واختيار الأصلح والأصوب انطلاقا من الحجج والبراهين، وهذا يناسبه التعبير ب(في) أي أن هذا التقويم الممتن به يظهر قوامه في تفاصيله ويمكن الاستفادة منه في كل صغيرة وكبيرة في حياة الانسان، وهو تقويم مفصَّل ومفصِّل لكل دقائق حياة الإنسان…

3- سياق الآية سياق امتنان، أقسم الله تعالى فيه بأعظم مخلوقاته (التين والزيتون وطور سينين والبلد الأمين) فإنه يبرز للإنسان حقيقة ما يحمل من تقويم عقلي يمكن أن يفيده في مسيرة حياته المليئة بالمستجدات والتطورات فيكون سبب نجاته وفوزه باختيار القرار الصائب…
إلا أن سر ومناسبة اختيار هذه المخلوقات عينا للتقويم العقلي لم تظهر لي بعدُ !!

والبحث والتأمل والتدبر جار…

4- ما بعد الآية
قوله تعالى {ثم رددناه أسفل سافلين}

لماذا نسب الله تعالى الرد هنا له ب(نا) الدالة على التعظيم؟

للدلالة على أن الانسان لما أهمل ذلك التقويم العقلي ووجهه إلى الوجهة الخطأ، في الانجرار خلف مؤثراته (قصور الوسائل، الهوى) كان سببا أساسيا في هُوِيِّه وسقوطه، ورده إلى أسفل سافلين، حتى يصبح نقمة على العالم بعد أن كان نعمة من خلال تصرفاته الهوجاء وقراراته المدمرة…
ونسب الرد إلى الله تعالى للدلالة على أن ما يجري للإنسان من تطورات وتحولات وأحداث سارة أو ضارة، هو في غالبها وحقيقتها تراكمات لما كسبت يداه، إلا أن إصدارها وإقرارها وخلقها فهو من الله عزوجل ، تربية لهذا الانسان وتذكيرا له وتحذيرا، وفي التعبير ب(نا) الدالة على التعظيم تذكير بربوبية الله تعالى التي لا يكون أمر أو حدث في هذا العالم إلا بعلمه وتحت نظره…

ولكن الذين استفادوا من ذلك التقويم العقلي وأعملوه أحسن إعمال فقادهم إلى الإيمان، جزاءهم أن لهم أجرا غير ممنون،
و(ممنون هنا) لها معنيان:

– أي غير مقطوع لأنه سلكوا الطريق الصحيح الذي يقرب لهم كل المصالح ويصرف عنهم كل المفاسد في الدنيا والآخرة…

– أو من المن وهو التذكير بالنعمة والتفضل فما وصلوا إليه من خير فبإعمالهم واستفادتهم من ذلك التقويم العقلي وتفعيله في مكانه الصحيح…

فإذا كان هذا هو المسلك والمنهج وكانت هذه هي مقتضيات التقويم العقلي والتربية الإلهية، لم يكن لك أيها القارئ أو السامع مجال للتكذيب بهذا الدين المدلول عليه بالعقل والموافق للفطرة، فالذي أعمل عقله خير إعمال كان له الأجر المستحق غير المقطوع، ومن عطل ذلك التقويم استحق الرسوب، ورده الله تعالى إلى أسفل سافلين…

هذا يدعوك إلى أن تقف شاهدا ومنبهرا بتلك العدالة الربانية والعناية الإلهية، فلما تسمع {أليس الله بأحكم الحاكمين} تنطق كل خلية من خلاياك الجسدية والفطرية والعقلية (بلى وألف بلى)

والله أعلم

 

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M