إضاءات حول مبادرة إطلاق منصة محمد السادس للحديث النبوي

10 مايو 2022 14:19

هوية بريس – أ.د عبد الفتاح الزنيفي

في ضوء عناية ملك البلاد محمد السادس بالحديث النبوي الشريف، تم إحداث منصة محمد السادس للحديث النبوي، التي جاءت حسب البيان الذي ألقاه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية امتدادا لرعاية ملوك الدولة العلوية وعنايتهم، ولتعلق المغاربة علماء وعامة بحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفع الشبه عنه.

وتفاعلا مع البيان الوزاري، أشير إلى بعض المسائل الآتية:

*المسألة الأولى: القرآن والسنة المشرفة مصدران لمعرفة الإسلام:

“المرجع في معرفة الإسلام أصلان أو مصدران، هما القرآن والحديث، فالقرآن هو الكتاب المنزل، والحديث هو أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله والأمور التي أقرها أو تركها في حياته أثناء أداء رسالته”.1

يحاول البيان من خلال هذه المسألة الأولى قطع الطريق على جميع الدعاوى التي تحاول فصل الأمة عن الحديث النبوي، بل يوجه رسالة واضحة لأهل التشويش والتشغيب والتدليس العلمي ممن يصدعون الرؤوس ويلبّسون على الناس، بدعوى الاعتماد على القرآن العظيم وحده دون السنة المشرفة لاستخلاص الأحكام الشرعية، متجاهلين عمدا أمر القرآن العظيم بطاعة الرسول صلى الله عليه و سلم، فما طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اتباع سنته كما وصلت إلينا مصححة من قِبل علماء الحديث أهل الفن.

* المسألة الثانية: علماء الحديث ودورهم التاريخي:

تناول البيان بايجاز قصة تدوين الحديث النبوي الشريف، كما أشاد بدور أهل الحديث في ابتكار منهج علمي صارم لغربلة الروايات ونخلها، إذ جاء فيه:

“أما الحديث فقد سمع الصحابة رضوان الله عليهم، سمعوا رسول الله يقول أقوالا ورأوه يفعل أفعالا ويقر أمورا، وكان لهم الاهتمام الشديد بكل ما يقوله ويفعله، محبة فيه وإعجابا به وحرصا على تسديد دينهم وإكماله باتباعه واتخاذه أسوة لهم كما وجههم القرآن إلى ذلك، ولولا هذا الاعتبار لصعب أن تُحفظ أقوال شخص بعد وفاته ولو بجيل واحد.

والذي وقع هو أن الصحابةَ ثم التابعين وتابعي التابعين بعدهم، قد حفظوا السنة أقوالا وأفعالا في ذاكرتهم، وتناقلها بعضهم عن بعض، وقد وقعت وقائع عظيمة في تاريخ المسلمين في مدة قرن ونصف بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقائع تميزت على الخصوص بانتشار الإسلام في بيئات بشرية وجغرافية وثقافية متنوعة، كما وقعت في هذه المدة تطورات سياسية واجتماعية مفعمة بحمولات انفعالية واكبت وقوع خلافات وقيام فرق وأحزاب ونشوب صراعات عنيفة، وفي تصور مثل هذا السياق يمكن لكل منطق سليم أن يتصور ما يمكن أن يكون قد وقع من الضغط على ذاكرة الجمهور بخصوص الحديث النبوي، حفظا وتلقيا وتأويلا واحتياجا في أوساط المسلمين.

تحت هذه الضغوط التاريخية تصدى فضلاء من علماء الأمة للقيام بمشروع تدوين ما بدأ يطرح نفسه على مستوى الوعي كأصل ثان للدين أحكامه وأخلاقه وهو الحديث الذي صار من المستعجل البحث عنه. كان جل من تصدوا لهذا المشروع من العجم مثل البخاري الذي كان من سمرقند في أوزبكستان الحالية، وكان عدد ممن كان يُطلب عندهم الحديث من العرب قد استقروا في البلاد الأخرى التي دخل إليها الإسلام.

ووفق الله أفاضل العلماء إلى تحقيق هذه الكرامة العظمى، وهي التدوين في كتب سميت بالصحاح والمسانيد والسنن، بين منتصف القرن الثاني ونهاية القرن الثالث للهجرة. وقد تم جمع الحديث وتدوينه بمنهج لم يسبق له مثيل في تاريخ الفكر إلى ذلك الوقت، وذلك من حيث الحجم والمجهود المطلوب وغنى المضمون وخطورته وصرامة التعامل معه، منهج مبني على النقد بفحص الثقة والمصداقية لمواجهة آثار أهل الأهواء والمصالح، مشروع أسفر عن قيام علم كامل اختص به المسلمون هو “علم الحديث”.

كان همُّ هؤلاء الأئمة المدونين أن يميزوا في ما يُروى بين الحديث الصحيح والحسن والضعيف والسقيم. ووضعوا مصطلحا بالنسبة للرواة وآخر بالنسبة لطبيعة المتن والثالث في ما يتعلق بخصوصيات تتعلق بالمتن أو بالإسناد، وآخر لمقبولية الحديث، ولم يكتفوا بالبحث في مصداقية الرواة بل حرصوا على بيان ظروف النقل وطرقه.”2

يفهم من البيان الوزاري أن الحديث النبوي الشريف جمع و دون وفق قواعد علمية صارمة، شهد لها أهل الغرب بالعلمية والتفوق عن غيرها، والحق يزداد توهجه بشهادة المخالف.

إذ يقول المستشرق صامويل مارجليوث: “ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم”، ومن شدة إعجاب الباحث المسيحي أسد رستم بصنيع المحدثين يقر أن طريقتهم “طريقة علمية حديثة: لتصحيح الأخبار والروايات”.

و ليس الهدف استقصاء أقوال الغربيين، فما قرره علماء الإسلام في هذا الباب كاف شاف، ولكن فقط تنويرا لأذهان القراء، وتأكيدا على أن القواعد التي اعتمدت في ضبط الحديث النبوي بلغت درجة عالية من الضبط والدقة جعلت المخالف قبل الموافق يذعن لها، وذلك بفضل جهود علماء الإسلام عجما وعربا، الذين شيدوا منهجا أثر في العلوم الأخرى، حتى اقتبس منه أهل التاريخ وأهل الأدب لتوثيق أخبارهم ونقلها.

وقد خص البيان الإمام البخاري رحمه الله بالذكر، لوسمه كتابه بالصحيح، رغم أن شيوخ شيوخه كالإمام مالك رحمه الله لم يصرح بذلك، وإن بلغت أحاديثه القمة في الصحة، حتى وصف الإمام البخاري ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر بسلسلة الذهب، فرضي الله عن الجميع.

لذلك فالطعن في الإمام البخاري رحمه الله هو طعن في نقلة السنة والحديث من الصحابة إلى يومنا هذا.

وهذا الإيراد في نظرنا ليس عبثا، بل تنبيها لمن يحاول النيل من هذه القامة العلمية السامقة، فالإمام البخاري محفوظ قدره قديما وحديثا سواء من السلاطين والعلماء والعوام.

أما نقد عمله فقد تصدى له حفاظ هذه الأمة قديما مثل الدارقطني وغيره، وحديثا من المشتغلين بالحديث الذين يخضعون كتابه للنقد والدراسة وفق قواعد المحدثين، مع الإشارة إلى أن مختلف الانتقادات التي وجهت للبخاري من المتخصصين ناقشت منهجه الذي سطره دون صحة الأحاديث أو ردها، وهذا النقد العلمي البَناء سيبقى بابه مفتوحا لأنه صدر من أهله.

المسألة الثالثة: خطورة التعامل مع الحديث إلا بالعلم:

كان البيان الوزاري واضحا في كون التعامل مع الأحاديث دون الرجوع لأهل الفقه والفهم يؤدي بصاحبه إلى المهالك، فالروايات تحتاج دوما لمن عنده علم بالعلوم الشرعية ليستطيع فهمها وتنزيلها وبيانها حتى لا يستشهد بها في سياقات خاطئة أو تستعمل في غير محلها وهذا الصنيع جلي في العهود الأولى إذ “حمد المسلمون لهؤلاء الأئمة الرواد عملهم واستفادوا منه في حياتهم باختلاف أبوابه، سواء تعلق الأمر بالعبادات أو المعاملات أو الأخلاق أو بالأمور الأخرى التي تناولها الحديث، ولكن الذي حض عليه ورع أهل التقوى هو الرجوع في هذا العلم إلى أهله الذين يفتون به في ضوء القرآن ومقابلة الحديث بالحديث وغير هذين من المعايير، غير أن هذا الورع لم يكن حاضرا في كل الأحوال، إذ استعمل الحديث غير العلماء بل واستعمله أهل الفرق والأهواء لأغراضهم.” 3

أقول: يشير البيان في هذه المسألة إلى أنه لا يخلو زمان أو مكان من صيارفة وجهابذة يتقنون جميع العلوم الحافة بالحديث الشريف كعلم الرجال، والجرح والتعديل وما يخص الرواية، وكذلك ما يخص الدراية، والتي يقصد بها فقه الحديث وهذا الأخير فقه خاص يتعلق بالنظر في الحديث الشريف من جهة الإعمال والتنزيل والبيان، فقد يصح الحديث عند الفقيه ولا يعمله لتبوث معارض عنده، أو خصوصية في حكمه أو غيرها من الموجهات التي يستصحبها الفقهاء عند استنباط الحكم الشرعي، ولكن للأسف حينما كلت الهمم، وظهرت نابتة تهجم على الحديث النبوي متجاهلة آلةَ أصول الفقه فضلت وأضلت، نسأل الله العافية. ونستحضر هنا ما حكاه العالم المغربي الأندلسي البربري الأصل راوية الموطأ يحيى بن يحيى الليثي (ت. 234هـ)، الذي وصفه مالك بـ “عاقل الأندلس”، لما كان يختلف إلى شيخيه المصريين ابن القاسم الفقيه وابن وهب المحدث قال: “كنت آتي عبد الرحمَن بنَ القاسم، فيقول لي: مِن أينَ يا أبَا محمد؟ فأقولُ: من عند عبد الله بن وهب، فيقول لي: اتَّق الله فإنَّ أكثر هذه الأحاديث ليسَ عليها العملُ. ثم آتي عبد الله بن وهب، فَيَقول لي : من أينَ؟ فأقول: من عندِ ابن القاسم، فيقول لي: اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأيٌ”. ثم علق على عليهما بأن كليهما أصاب في مقالته.

المسألة الرابعة: جهود المغاربة في خدمة الحديث الشريف

إن تعلق المغاربة بالحديث النبوي وصاحبه صلى الله عليه و سلم، يعرفه كل من درس التاريخ أو خبر الأحوال أو ألقى السمع وهو شهيد، فتراثنا سواء في التأليف أو المديح غني، معرف لا يحتاج لبيان أو تدليل، حيث إن “المغاربة من أشد الناس حرصا على العناية بالحديث، وتجلى اهتمامهم في جوانب كثيرة منها الرحلة للتلقي ووضع المصنفات والشروح والاختصاص ببعض الأسانيد والاحتفال الرسمي والشعبي بختم البخاري ووضع كتب تجمع بين الصحيحين ووضع مختصرات وترتيب قراءات لتوعية الناس بمكانة الحديث كقراءة كتاب الشفاء للقاضي عياض. وكانت هذه العناية حاضرة لاسيما في عهد الدولة العلوية. وقد كانت الدروس الحديثية في حضرة السلطان سيدي محمد بن يوسف بمثابة تمهيد الدروس الحسنية.”4

ومن خلال هذا التعلق المغربي بحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت هذه المبادرة التي تؤكد مكانة الحديث النبوي في قلوب المغاربة ملكا وشعبا، وليس هذا بغريب كما أسلفت، فهو مما بايع عليه المغاربة، إذ حفظ الدين من المهام الملقاة على عاتق أمير المؤمنين حفظه الله كما أكد ذلك البيان.

شخصيا، أعتبر أن هذه رسالة تنبيه لأهل الطعن ودعاة الاجتهاد المنفلت والتنوير ليراجعوا أنفسهم، وإعلاء لشرف أهل الحديث الذين على رأسهم الإمام البخاري، الذي ذُكر مرارا في البيان إلى جوار الإمام مالك رضي الله عنهم.

و مما نختتم به تعليقنا على هذه المبادرة الملكية، أن الحديث النبوي الشريف، شكل وما زال يشكل شخصية المسلم عقيدة وسلوكا وأخلاقا، وما التأسي بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المطلوب في القرآن العظيم إلا تجسيد لتلك المحبة التي تأخذ بقلب المسلم وتربطه بالجناب النبوي الشريف، فمحبته عليه الصلاة والسلام من الإيمان، كما جاء في حديث سيدنا عمر رضي الله عنه في الصحيح: “عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك))، فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمر)).
و تتويجا لما سبق، نؤكد أن الحديث النبوي بصم عقلية المسلم وصاغها صياغة تتماشى مع تدينه وعبادته وخلقه ومعاملاته، وهذه البصمة النبوية ستبقى تؤتي ثمارها بجانب أنوار القرآن الكريم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بالرغم من كيد الكائدين وحسد الحاسدين، وتداعي الأمم على أمة الإسلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

1؛ 2؛ 3؛ 4 … من الكلمة التي ألقاها وزير الأوقاف، مع تصرف يسير في الإحالة 3.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M