استراتيجية الإسلام (29).. العِلم * المضمون التحريري ل”أسلمة المعرفة”

26 مارس 2024 15:17

هوية بريس- محمد زاوي

6-العلم

-المضمون التحريري لأسلمة المعرفة

للعلم منحيان: منحى في حقيقته النظرية والتقنية، ومنحى في غاياته ومقاصده الأخلاقية. وقد نحا العلم الحديث منحى متقدما في المنحى الأول، وفي الثاني ذهب مذهبا يخدم طغمة أقلية من الناس، لا الناس جميعا، ولا الإنسان بما هو تركيب بين المادي والمعنوي، الفردي والجماعي، العملي والنظري، المنفعي والحضاري. ولما انحرف المنحى الثاني عن غاياته المطلوبة من إعمار واستخلاف وحفظ للنوع البشري، فقد فرض انحرافه على المنحى الأول، وأصاب بالعطب تقدم العلوم والتكنولوجيات والنظريات المعرفية نفسها. فلم تعد هذه تتقدم بخطوة إلى الأمام إلا بقدر ما تقدمه من مصالح لمهلكي الحرث والنسل الذين يفسدون في الأرض بعد إصلاحها. “واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعَهُ الشيطان فكان من الغاوين، ولو شئنا لرفعناه بها ولَكنه أخلد إلى الأرضِ واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث”. (سورة الأعراف، الآيتان 175-176)

لا تفهَم أسلمة المعرفة كمشروع رائد وإنساني يحقق تقدم العلم ككل، وتحرير الإنسان في جميع أنحاء العالم، لا مصلحة وحضارة المسلمين وحدهم؛ لا تفهَم أسلمة المعرفة كذلك إلا في الإطار المذكور أعلاه، أي كمشروع لتحرير المعرفة من أهواء محتكري الخيرات والمنافع والمِلكيات على حساب تاريخ الإنسانية وسلامة الإنسان وصحته ورفاهه وإبداعه الخلّاق، بمعنى آخر: كمشروع لحفظ الصلاح في الأرض، وإصلاح ما فسد منها. “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” (سورة الأعراف، الآية 56).

إن العلم وجه من أوجه الاسختلاف في الأرض. فلما جعل اللهُ الإنسانَ خليفةً له فيها “إني جاعل في الأرض خليفة” (سورة البقرة، الآية 30)، ولما كان الإخراج للناس بقصد الخيرية في أعمال القلوب والجوارح والأركان “كنتم خير أمة أخرِجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله” (سورة آل عمران، الآية 110)؛ لما كان ذلك لم يكن العلم مطلوبا في ذاته، وإنما لغرض تيسير مهمة الاستخلاف في الأرض. بالعلم وبوسائل أخرى يكون الإنسان خليفة لله في الأرض، وإن لم يكن كذلك فقد نحا بالعلم منحى لا يحقق الاستخلاف، بل ينكر حكم الله ويرفض أمره في خلقه.

وإذا كان الإنسان لا يعمر الأرض بنفسه طالبا فيها الخلود (قول عيسى عليه السلام: “الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها”)، فإنه يعمرها بإنتاجه المادي والثقافي (“هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها”/ سورة هود، الآية 61). بهذا الإعمار تتحقق العبادة العامة (كل مظاهر الحياة/ “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”)، كما تتحقق بالمنافع والمتع العبادة الخاصة (الشعائر). العلم بمرجعيته الأخلاقية الإنسانية، الإسلامية، يحقق مقصد الإعمار، ويربطه بالخلود الأخروي، ويحرره من قواعد الإعمار الفاسد (كتحرير الطائرة من قواعد السقوط ووضعها على سكة قواعد التحليق/ راجع “الإشتراكية والاستثمارات الخاصة” لإسماعيل المهدوي). إن العلم واحد، والقواعد والقوانين فيه واحدة. الإعمار الذي يطلبه الإسلام يتحقق بقواعد الصعود وتخليق الحضارة وكف الأذى والطغيان ومنع السيطرة على حقوق المستضعَفين في الأرض، لا بقواعد السقوط والانحطاط وكبح الإبداع في الإنسان واستعباده بقوت يومه.

(يتبع)

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M