الاستعمار الحقوقي وعملاؤه نكاية في الوطن وتضامن مع الأجنبي
هوية بريس – محمد زاوي
1-حقوق الإنسان المغربي: خطاب وطني وخطة توافقية
لقد بلينا بجيل من أبناء جلدتنا، تنكروا لأمهاتهم. لعنوا الرحم، وسبوا الوطن. ليسوا أغبياء ليقروا بذلك علانية، ولكنهم يعشقون التصريح بمواقفهم العدمية واللاوطنية تحت أقنعة “الإنسان العالمي” و”حيثما كان الحق فذلك موطني” و”لا خير في وطن لا يحمي حقوق أبنائه”… وكلها كلمات حق أريد بها باطل، كما قال الإمام علي كرّم الله وجهه. ف”الإنسان عالمي” حقّا، ولكنه ذو خصوصيات مختلفة ومتغيرة في الزمن والمكان، إذ ليس الإنسان في دول الجنوب هو نفسه في دول الرأسماليات الكبرى، وليس الإنسان في وطن عربي مستهدف بسياسة التجزئة هو نفسه في جمهورية السويد حيث تجتمع فوائض القيمة وتتراكم رؤوس الأموال. وكما أن الوطن هو وطن الحق، فإن ذلك لا يعني استحالتنا خونة وتنكرنا لأوطاننا وارتماءنا في أحضان الأجنبي كلما أحسسنا ببؤس اجتماعي أو ظلم سياسي… هناك من يريد أن ينسينا هذه المبادئ، حتى يتسنى له تفكيك ما يمكن تفكيكه من “وطنيتنا” (والوطنية وعي قبل أن تكون عاطفة).
ليس هناك اليوم ما هو مقلق من انتشار هذا الخطاب المسموم، حيث تنتشر العدمية الوطنية وتزدرَى رموز الوطن وتمسح ذاكرتنا الوطنية بكل الوسائل المتاحة. في كل مكان، في البيوت، المدارس، الجامعات، الإدارات، المقاهي، وسائل النقل العمومية، الندوات والمحاضرات، الجمعيات المدنية… لا تكاد تجد إلا ثلاثة أنواع من الخطاب:
– خطاب وطني:
يُنظَر لأصحابه كمعادين لمصالح الشعب، وحيث يريد هذا الخطاب تأطير الشعب وقيادته تحت سقف الدولة وفي إطار الحفاظ عليها، ينزع الخطاب الشعبوي إلى خلق الفوضى تحت قناع الثورة، كما يسعى إلى تفكيك الدولة وتبديد رموز الوطن وذاكرته تحت قناع مواجهة “رجعية المخزن” والثورة على “الاستبداد”.
– خطاب استعماري:
يردده بعض أبناء الوطن، منهم من تحميه جهات أجنبية بمختلف أنواع الدعم المادي والمعنوي (وهؤلاء قلة)، ومنهم أكثرية متحمسة لكل خطاب عدمي وراديكالي يتغذى على: عرقلة مسار الانتقال الديمقراطي، رفض الرأسمالية المغربية إصلاح نفسها… ليس لهذه الأكثرية أية علاقة مباشرة مع الأجنبي، ولكنها كثيرا ما تخدم مصالحه عن طريق قيادات “حقوقية” باعت نفسها بالدولار وضمنت حمايتها لدى المنظمات الأجنبية.
– خطاب ملتبس:
لا هو إلى هؤلاء، ولا هو إلى هؤلاء. وطنية في هذه القضية، وخيانة في تلك. دفاع عن الوطنية في “قضية اللغة العربية”، وتنكر له في قضايا “الصحراء المغربية” و”الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب” و”استقلال الاقتصاد الوطني”. تنظير لأهمية الدولة بمختلف أجهزتها في المجرد، وتفكيكها في سياقات خاصة. رفض للعولمية في السياسة والاقتصاد، وقبولها في الثقافة. استحضار للاستعمار الجديد في الخطاب، وإنكار له أثناء التحديد النظري للتناقض الرئيس في مغرب القرن الحادي والعشرين…
العولمية في الدفاع عن حقوق الإنسان هي ما يسقط فيه كل من الخطابين: الثاني والثالث، فيصبح الخطاب الحقوقي خطابا استعماريا لأنه غير مؤطر بأولوية حقوق الوطن في شرطنا التاريخي. إننا اليوم في حاجة إلى “مدافعين عن الوطن”، فإذا بمنظمة العفو الدولية تغزونا بصفة استعمارية جديدة هي صفة “المدافعين عن حقوق الإنسان”.
ما الحل لهذا اللبس؟ كيف نواجه هذا الخطاب الاستعماري الذي يخترقنا في ثوب خطاب حقوقي؟
لن تخرج خطة مواجهة هذا الخطاب الضاغط المبتز عن الخطوات التالية:
– أولا، اتحاد كافة حركات المجتمع: أحزاب، ونقابات، وجمعيات مدنية، ومنظمات طلابية، حركات دينية دعوية… تحت راية الوطن، وبغرض الدفاع عن الحقوق النقابية والسياسية تحت سقف مصلحة الوطن ككل. (1)
– ثانيا، إنجاح التوافق بين إدارة الدولة وإدارة المجتمع، حيث تقدَّم تنازلات من الطرفين في سبيل حل التناقض الرئيس بين كافة فئات الوطن والإمبريالية الجديدة. فمن جهة، تصلح الرأسمالية المغربية ذاتها ب: التخلي عن تهريب الأموال والاستهلاك الفاحش، التنازل للعمال عن بعض حقوقهم (الزيادة في الأجور، التقليل من ساعات العمل، الضمان الاجتماعي…). ومن جهة أخرى، تؤجل الأحزاب السياسية والنقابات والحركات بعض مطالبها إلى ما بعد تصفية تواجد الاستعمار الجديد في مصالحنا وثقافتنا.
– ثالثا، إنتاج خطاب حقوقي وطني يتوافق عليه كل الوطنيين في إدارة الدولة وإدارة المجتمع، ثم يُعبأ إليه كافة أفراد الشعب المغربي في الميدان، عن طريق تنظيم الندوات والمحاضرات والمؤتمرات المشتركة والوقفات والمسيرات الاحتجاجية…
– رابعا، توظيف كافة وسائل الدولة، وكذا وسائل الأحزاب والجمعيات والنقابات الإيديولوجية (نشر الكتب والمجلات، الإعلام، المقررات الدراسية، الأنشطة الحزبية…) والمادية (اللوجستيك، المؤسسات، الأموال…) والقانونية (المؤسسات الدستورية، الصلاحيات القانونية)، في سبيل نشر خطاب حقوقي وطني لا عولمي، وفي سبيل أن تكون يد الدول فوق كل عميل يهدد مصالح الوطن ومواطنيه.
– خامسا، عدم استغلال هذه الخطة في إلجام كل صوت حرّ وطني يناضل ويدافع عن حقوق الإنسان المغربي تحت سقف مصلحة الوطن والحفاظ على الدولة. فكل خطأ من هذا النوع لن يهدد إلا مصالح جميع الوطنيين في نهاية المطاف، لصالح أجندات الاستعمار الحقوقي وعملائه.
2-انتكاس “جماعة العدل والإحسان”: إتلاف لإرث الإمام واستمرار للمواقف العولمية
إنه لمن السهل العثور على مكامن الخلل في الموقف السياسي لجماعة العدل والإحسان، من السهل العثور على ذلك في كتابات عبد السلام ياسين ومختلف المواقف التي تصدرها الجماعة. ولكن، فلنتساءل: أليس لعبد السلام ياسين أفضال؟ أليس له حظ من الوطنية (والوطنية وعي قبل أن تكون عاطفة، لأنها قد تتحول إلى عمالة تحت قناع خطاب الوطنية إذا غاب الوعي)؟
من تجليات وطنية عبد السلام ياسين، أنه:
– ابن للتصوف المغربي وامتداد له (الطريقة البودشيشية، حيث المزج بين: منهج البسطامي/تصوف الكرامات والأخلاق، ومنهج الجنيد/ تصوف الصحو والأخلاق)، وهو أصل يحكم صاحبه بين الفينة والأخرى، مهما استلبه الخطاب الإخواني أو الخميني.
– كان من رجالات المدرسة المغربية بعد الاستقلال، حيث كان من الفاعلين الأساسيين في تنزيل سياسية “المغربة” في التعليم المغربي.
– صاغ اللاءات الثلاث: لا للعنف، لا للدعم المالي الخارجي، لا للسرية. فكانت السلمية ولا فتنة، والعنف تحتكره الدولة. وكان الاعتماد على الذات التنظيمية في التمويل، والدعم الخارجي يبقى محل شبهة دائما. وكانت الدعوة علنية، فلا تخشى الدولة فتنة غير متوقعة. تبيئة الإرهاب، الاختراق بالمال، إسرار الفتنة، هذا ما كان عبد السلام ياسين يرفضه، وإن سقط في بعضه بشكل غير مباشر.
– كان أكثر حذرا من أتوظفه الإمبرياليات لصالحها، يحتج ويدعو إلى الخروج للشارع، يخطئ التقدير (كما حصل في “20 فبراير”)، ويتراجع عن خطئه إذا تبين له.
– أنقذ الكثير من أبناء الشعب المغربي (الشباب المغربي) من الإدمان والضياع الأخلاقي، ومن أنْ تستقطبهم الجماعات الإرهابية لصالح سياسات إمبريالية في نهاية المطاف…
هذه هي تركة عبد السلام ياسين الوطنية، وغيرها تركات لا وطنية، نذكر منها:
– الموقف اللاجدلي من الدولة. والحقيقة، أن التناقض مع إدارة الدولة ليس تناقضا رئيسا، والإدارة ليست طرفا واحدا، وهي متحولة في التاريخ المغربي الشامل، وهي في علاقة دائمة بالمجتمع والخارج…
– عولمة الخلافة، في حين أن الخلافة نظام سياسي تاريخي، خاص بسياقه التاريخي. وتحت خطاب “الخلافة”، قد تتحقق مطامع سياسية لبعض الدول ذات التاريخ الإمبراطوري، وقد تتشكل بؤر الفتنة لتفكيك الوطن العربي. ومن المفارقة، أن تخدَم الفرقة والتجزئة تحت شعار الوحدة (=الخلافة).
– التخلف في القضايا الوطنية (قضايا: الصحراء المغربية، الاختيارات المغربية في التدين والتمذهب، الاقتصاد الوطني…).
– الشعبوية، وليس الشعبية. في الأولى، تقود الجماهيرُ قياداتَها. وفي الثانية، يقع العكس.
– عولمة الإسلام بدل توطينه، فيستدعى الإسلام في عالم يراد له أن يكون أمريكيا، بدل أن يستدعى في وطن به شروطه الخاصة. وهكذا يراد للإسلام أن يخدم العولمة والرأسمال، بدل أن يخدم الأوطان ودول الجنوب.
… إلخ.
وعوض أن يتأهب أبناء جماعة العدل والإحسان وقيادتها لتكثير المطلوب وخدمته، مع نفي ما يشكل خطرا على الوطن والأمة… عوض أن يفعلوا ذلك، شرع بعضهم في الرقص على كل نغمة ضد السلطة، مهما كان مصدر هذه النغمة. وفي هذا الإطار، ندخل توقيع أربعة من أعضاء “الجماعة” على عريضة “المعطي منجب”، احتجاجا على ما أسمته “منظمة العفو الدولية” “تجسس الدولة المغربية على المدافعين على حقوق الإنسان”. والغريب في هذه النازلة، أن هذه “العريضة اللاوطنية” جاءت في سياق معركة بين الدولة المغربية و”منظمة العفو الدولية”. لقد وردت هذه العريضة وكأنها وسيلة للضغط على الدولة، لصالح “منظمة” لا يمكن أن تخفى أجنداتها المشبوهة على كل ذل عقل. وإلى اليوم، لم توضح قيادة “الجماعة” هذه الزلة التي لا يمكن أن يتساهل معها الشعب المغرب وهو يُبْتزّ في سيادته الوطنية.
ليس هذا مقام تفصيل النقد في منهج جماعة العدل والإحسان وذكر مكامن الرجعية فيه، ولكننا نود أن نوجه لها الرسالة التالية:
ليس للإسلام أن يخدم إلا إحدى مصلحتين: مصلحة الاستعمار، ومصلحة الأوطان المدافعة عن استقلالها وسيادتها. وعوض أن ننسي أفضال الإمام عبد السلام ياسين بأخطائه النظرية والعملية، وجب أن نفعل العكس. كل طريق غير هذا الطريق، فهو إفشال للجماعة، ومساهمة في تفكيك الوطن. أما المرتزقة المحميون من الأجنبي، فلن يرضى “الإمام” لمريديه أن يستدرَجوا إلى العمالة (مهما كانت غير واعية) من قبلهم.
3-“الجمعية المغربية لحقوق الإنسان” ومحاذير العمالة للأجنبي
يظهر فسوق الفاسق بفجوره، فيأثم في العلن أكثر مما يأثم في الستر، ولكنه يظهر لنا جليا فنعرفه حق المعرفة إذا أفصح عن حقيقته وأبدى مواقفه. هذا ما حصل ل”الجمعية المغربية لحقوق الإنسان”، فأظهرت وفاءها للأجنبي على حساب علاقتها الوطنية بالدولة. إن “إنسان” “الجمعية” غير محدّد في زمنه ومكانه، وكذلك لم تكن “منظمة العفو الدولية” محدَّدة بالنسبة إليها. والحقيقة، أن “الإنسان المغربي” محدد في زمنه ومكانه، وليس كما تروج له “الجمعية”. إنه نتاج: رأسمالية كولونيالية سابقة، ورأسمالية مغربية تبعية لاحقة. إنه نتاج: تدخل أجنبي في القرار السياسي، وتبيعة اقتصادية، وعرقلة لاستكمال الوحدة الترابية، وتفكيك للثقافة والوعي الوطنيين. وكذلك “منظمة العفو الدولية”، فهي لا تُعدَم تحديدا في الزمن والمكان. إنها نتاج عالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي (1993)، عالم الهيمنة الأمريكية. إنها مؤسسة من المؤسسات الدولية التي تستعلِم على الدول المستقلة، وتهدد أمنها القومي، وتبرر ابتزازها والتدخل في قرارها السياسي… إنها وسيط من الوسائط الاستعمارية التي “تُعولِم” حقوق الإنسان بغرض “أمْرَكتها”، وفتح سوق العالم في وجه الرأسمال الأمريكي (بشقيه: العسكري والمدني) تحت قناع “حقوق المدافعين عن حقوق الإنسان”.
هذا ما تتحاشى ذكره “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان”، وعلى العكس من ذلك، تروج لنقيضه، وتضع “منظمة العفو الدولية” في موقع المظلوم والمعتدى عليه من قبل الإدارة المغربية. فلنفترض جدلا أن جهازا من أجهزة الدولة المغربية كان مخطئا، فهل ذلك يقتضي التداعي على الدولة مع الأجنبي؟ في أية خانة سندخل هذا الموقف الذي لن يستفز مشاعر رجال الدولة المغربية وحدهم؟ في أية خانة سندخل هذا الموقف الذي سيستفز بالإضافة إلى رجالات الدولة كافة الجماهير المغربية وكافة النخب والفعاليات الوطنية؟
فلنؤجل موقفنا إلى آخر هذا المقال، ولنُطلِع القارئ الآن على ما تضمنه البيان الذي أصدرته “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان” تضامنا مع “منظمة العفو الدولية”.
لقد قرأنا بيان “الجمعية المغربية لحقوق الإنسان” (2) بكثير من الأسف، والاشمئزاز أيضا. وإننا إذ نرفض هذا البيان، ونعتبره نكاية في الدولة المغربية وتداعيا عليها جنبا إلى جنب مع أدوات الاستعمار الجديد، فإننا نسجل ما يلي:
– صدور “البيان التضامني” من داخل المرجعية الكونية لحقوق الإنسان، وهي نفسها المرجعية العولمية الأمريكية في شرطنا الحالي: تصدير أزمات الرأسمالية المتوحشة إلى دول الجنوب.
– حديث البيان وكأنه في انفصال تام عن الدولة المغربية، حيث تظهر “المنظمة” بمظهر الحليف النزيه والمحترَم، في مواجهة الدولة المغربية كخصم لا يحترم حقوق الإنسان، ولا يتحلى بالنزاهة، ولا مصداقية له. وحيث يعيش “المحمي” تحت سيادة الدولة، وتحت حمايتها، يأبى إلا أن يتوهم انفصاله عنها. وعوض أن يناضل تحت سقف الدولة، يسعى إلى أن يستدعي عليها خصوم سيادتها ومصالحها.
– اعتبار البيان “محاولة السلطات (المغربية) يائسة”، والهدف منها هو “إخراص صوت (منظمة العفو الدولية)”. وهذا ما يؤكد انتصار “المنظمة” لمن يحميها، كما يؤكد الكثير من قرارات الدولة التي كنا نستغربها سابقا.
– إشارة البيان إلى ما تطلبه “الجمعية” من تمتين للعلاقات مع “المنظمة”، وهل هناك متانة علاقات أكثر من هذه؟ وهل هناك ما هو أمتن من أن تتداعى على سيادتك ودولتك مع الأجنبي؟
… إلخ.
لن يخيفنا أحد بإيديولوجيات حقوق الإنسان العولمية، فالحقوق ما كانت في زمن ومكان الوطن، وغيرها لن يكون إلا في زمن ومكان الاستعمار.
الهوامش:
(1): حقوق الإنسان تحت سقف حقوق الأوطان، بتعبير عبد الصمد بلكبير.
(2): الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، توقيع عزيز غالي، بيان موضوعه: رسالة تضامن مع الصديقات والأصدقاء في منظمة العفو الدولية، بتاريخ: 8 يوليوز 2020.