الزلازل… وقفات وعبر
هوية بريس – ناصر عبد الغفور
أمام كثرة الزلازل في هذه الأعصار وتعدد القلاقل والأهوال في كثير من البقاع والأمصار([1])، وجب علينا الوقوف وقفة متأمل يروم أخذ العظات والعبر ويسعى في سبل النجاة والظفر.
وهذه بعض الوقفات([2]):
(1)- { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ }:
ما يقع من زلازل ويحدث من قلاقل ليس عبثا، بل كل ذلك تابع لحكمته سبحانه، فالله تعالى لا يخلق شيئا عبثا ولا يشرع شرعا سدى، بل كل خلقه وأمره مرتبط بحكمته، كما قال تعالى: “حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ”-القمر-.
وقد ورد إثبات الحكمة لله تعالى في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة، ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى من ذلك اثنين وعشرين وجها في كتابه شفاء العليل([3]).
فخلافا لأهل الجهل والغواية وفاقدي الفكر والدراية، كل ما يحدث من مصائب وأخطار وأخص بالذكر الزلازل وما يشبهها من الأهوال، فإنما يحدث لحكم قد نحيط بها كلا أو بعضا.
فمن صفاته سبحانه الحكمة ومن أسماءه الحكيم (الذي قد كمل في حكمته) كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
يقول الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى:”الحكيم: الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل”([4])، ويقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى:”الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها بحكمته وعدله”([5]).
قال الألوسي رحمه الله تعالى: “حكيم: مراع في جميع أفعاله الحكمة والمصلحة”([6]).
فتعالى الله هما يقوله الظالمون أنه يفعل لمجرد المشيئة نافين عنه صفة الحكمة التي قام عليها خلقه وأمره كالأشاعرة ونحوهم.
يقول الدكتور سفر الحوالي حفظه الله في معرض كلامه عن أصول الأشاعرة في باب العقيدة: “ينفي الأشاعرة قطعا أن يكون لشيء من أفعال الله تعالى علة مشتملة على حكمة تقضي إيجاد الفعل وعدمه.. وهو رد فعل لقول المعتزلة بالوجوب على الله حتى أنكر الأشاعرة كل لام تعليل في القرآن، وقالوا: إن كونه يفعل شيئا لعلة ينافي كونه مختارا مريدا، وهذا الأصل تسميه بعض كتبهم “نفي الغرض عن الله” ويعتبرونه من لوازم التنزيه، وجعلوا أفعاله تعالى كلها راجعة إلى محض المشيئة ولا تعلق لصفة أخرى كالحكمة مثلا بها… وسبب هذا التأصيل الباطل عدم فهم ألا تعارض بين المشيئة والحكمة أو المشيئة والرحمة…”([7]).
(2)- { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }:
من أولى الوقفات التي يجب أن نقف عليها أن نوقن حق اليقين ونعتقد جازم الاعتقاد أن ما يقع من الزلازل إنما هو بأمر الله جل في علاه وتقدس في سماه، وليس كما يقول أهل الكفر والإلحاد وأهل الضلال والفساد أن ذلك صورة من صور غضب الطبيعة، وللأسف هذا القول أصبح يجري على ألسنة الكثيرين ممن ينتسب إلى الإسلام، ممن أصبح إمعة للمل الكافرة يقول بقولهم وربما يفكر بفكرهم.
ولعل الإعلام العربي الفاسد كان له أكبر الدور في ذلك، فمثلا نجد قناة من القنوات المشهورة تعنون على أحد المواضع الخاصة ببعض الكوارث الطبيعية ب(عندما تغضب الطبيعة) فاتحة موضوعها بكلام نابع عن انحراف عقدي ظاهر:”عندما تغضب الطبيعة لا يستطيع أن يقف أمامها شيء…”
فمن أركان الإيمان الإيمان بالقدر ومن ذلك الإيمان بأن كل شيء لا يقع إلا بأمر الله الكوني، فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا بأمر الله جل جلاله…” إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ”، يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:” وهذا شامل للمخلوقات والعوالم العلوية والسفلية، أن الله تعالى وحده خلقها لا خالق لها سواه، ولا مشارك له في خلقها .
وخلقها بقضاء سبق به علمه، وجرى به قلمه، بوقتها ومقدارها، وجميع ما اشتملت عليه من الأوصاف، وذلك على الله يسير”([8]).
وهذا ما نجده مقررا في كثير من نصوص الوحيين، كمثل قوله تعالى:”مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)”-الحديد-.
(3)- كثرة الزلازل من علامات الساعة:
قد صحت الأخبار عن المصطفى المختار عليه أفضل الصلاة والسلام ما تعاقب الليل والنهار بأن الزلازل تكثر في آخر الأعصار وأن ذلك من علامات الساعة.
روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عيه وسلم:”لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم و تكثر الزلازل و يتقارب الزمان و تظهر الفتن و يكثر الهرج : و هو القتل”.
وعند الشيخين الحديث أتم: ” لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله وحتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان ويظهر الفتن ويكثر الهرج وهو القتل وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم رب المال من يقبل صدقته وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه : لا أرب لي به وحتى يتطاول الناس في البنيان وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول : يا ليتني مكانه وحتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك حين ( لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا )
ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها “([9]).- متفق عليه-.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:” يا ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت أرض المقدس؛ فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعةُ يومئذٍ أقرب من الناس من يَدِي هذه من رأسك([10]) “-صحيح أبي داود-.
(4)- الزلازل رحمة من الله تعالى بعباده:
من رحمة الله تعالى بالمؤمنين أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا، ولا يؤخرهم إلى يوم القيامة، فوالله أن يصاب المؤمن في دنياه بما شاء الله من المصائب ويأتي يوم القيامة وقد كفر عنه من سيئاته بما أبتلي به وأصيب خير له من يأخذ بجرمه في ذلك اليوم العصيب الشديد الذي يقول عنه أولو العزم من الرسل:” إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله و لن يغضب بعده مثله”([11]).
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذاب في الآخرة إنما عذابها في الدنيا الفتن و الزلازل و القتل و البلايا”([12]).
يقول العلامة عبد المحسن العباد حفظه الله تعالى:” (أمتي هذه أمة مرحومة) يعني: أن الله تعالى رحمها فلم يهلكها بسنة بعامة كما حصل للأمم الماضية، بل هي باقية، وإنما يحصل لها الهلاك أو لبعض الناس فيها بالزلازل والفتن والقتل الذي يكون بينهم.”([13]).
فالمصائب التي تصيب أمتنا من زلازل وقلاقل وغيرها لا تكون عامة لجميع الأمة بل في نطاق محدود، خلافا للأمم الماضية حيث يكون العقاب عاما-نسأل الله السلامة والعافية.
ومن أوجه الرحمة بما يقدره الله تعالى من الزلازل تكفير السيئات ومحو الزلات… يقول جل في علاه:” لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)”-النساء-.
وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة، منهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد روي أنه قال:”يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فَكُل سوء عملناه جزينا به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “غَفَر اللَّهُ لكَ يا أبا بكر، ألستَ تَمْرضُ؟ ألستَ تَنْصَب؟ ألست تَحْزَن؟ ألست تُصيبك اللأواء([14])؟” قال: بلى. قال: “فهو ما تُجْزَوْنَ به””([15]).
وفي رواية:” قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية:”من يعمل سوءًا يجز به”؟ قال: يا أبا بكر، إنّ المصيبة في الدنيا جزاء.”([16]).
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها”-متفق عليه-، وفي لفظ:” ما يصيب المسلم من نصب و لا وصب و لا هم و لا حزن و لا أذى و لا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه”-متفق عليه-.
فإذا كانت مجرد الشوكة يكفر الله بها خطايا عباده فكيف بزلازل قد تأتي على الأخضر واليابس؟
ورحم الله الإمام السعدي حيث يقول:” فسبحان من أنعم ببلائه وتفضل بعقوبته وإلا فلو أذاقهم جميع ما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.“([17]).
وروي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت –وقد سئلت عن الزلزلة:” هي موعظة ورحمة للمؤمنين ونكال وعذاب وسخط على الكافرين.”([18]).
(5)- من مات بالزلزال فهو شهيد:
إن من أعظم الأمنيات أن يموت العبد شهيدا لما ورد في فضل الشهيد من الفضائل العلية والعطايا السنية مما أخبر به رب البرية وصح في السنة النبوية.
وإن من رحمة الله سبحانه أنّ وصف الشهادة لا يقتصر على من مات في أرض المعركة قتيلا، بل يتعداه لبعض خلقه.
فقد صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه سأل أصحابه يوما:” ما تقولون في الشهيد فيكم ؟ قالوا : القتل في سبيل الله قال : إن شهداء أمتي إذن لقليل من قتل في سبيل الله فهو شهيد و من مات في سبيل الله فهو شهيد و المبطون شهيد و المطعون شهيد و الغرق شهيد.”([19]).
وإن ممن له حكم الشهادة ضحايا الزلازل، فقد صحت الأخبار عن المصطفى المختار أن من مات بالهدم يكون شهيدا. وهذه بعض الأحاديث في ذلك:
– ” الشهداء([20]) خمسة: المطعون، والمبطون، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله “-متفق عليه-.
يقول الإمام محمد المباركفوري رحمه الله تعالى:”( وصاحب الهدم ) بفتح الدال وتسكن أي الذي يموت تحت الهدم.”([21]).
– “الغريق شهيد و الحريق شهيد و المبطون شهيد و من يقع عليه البيت فهو شهيد”([22]).
– ” الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله : المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد والحرق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة”–صحيح أبي داود-.
لذا كان الموت بالهدم ويدخل فيه الموت بالزلازل (فهي من أعظم أنواع الهدم) عند العلماء علامة من علامات حسن الخاتمة([23]).
(6)- وجوب المسارعة إلى التوبة:
سبق القول أن كثرة الزلازل من علامات الساعة، وهذا ما يجب أن يحمل العاقل الكيس إلى أخذ الحذر والمبادرة بالتوبة النصوح والرجوع إلى العزيز الودود والاجتهاد للتحرر من أغلال النفس والهوى ومكايد العدو اللدود([24]).
فوالله إن الأمر جد وليس بهزل، فإلى متى التسويف ونحن نرى علامات الساعة معظمها ظهر وأخص بالذكر هنا الزلازل التي نسمع بها بين الفينة والأخرى، بل منها ما نعيشه كما حدث لي أكثر من مرة([25]).
فالبدار البدار بتوبة قبل مغادرة الديار إلى مقام ليس بعده انتقال إما جنة أو نار.
وقد ورد الحث على التوبة والترغيب فيها في كثير من الآيات والأحاديث وما ذلك إلا لعظيم شأنها، أكتفي بذكر بعضها:
يقول تعالى:” وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)”-النور-.
ويقول جل في علاه وتعالى في سماه:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ”-التحريم-.
ويقول عز من قائل:” إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) “-النساء-.
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تأوليها:”{ بِجَهَالَةٍ } أي: جهالة منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه، وجهل منه بنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه، فكل عاص لله، فهو جاهل بهذا الاعتبار وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقبا عليها { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة الموت، فإن الله يقبل توبة العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا… ويحتمل أن يكون معنى قوله: { مِنْ قَرِيبٍ } أي: قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، فيكون المعنى: أن من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب وأناب إلى الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه.”([26]).
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” يا أيها الناس ! توبوا إلى الله و استغفروه، فإني أتوب إلى الله و أستغفره في كل يوم مائة مرة “([27]).
فحري بالعاقل أن تكون هذه الزلازل التي تحدث بين الفينة والأخرى خاصة في هذا الزمن سبب لمبادرته بالتوبة والندم والخوف ممن خلقه من عدم…يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:” قد يأذن الله سبحانه لها-أي للأرض- في الأحيان بالتنفس فتحدث فيها الزلازل العظام فيحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية والإنابة والإقلاع عن معاصيه والتضرع إليه والندم كما قال بعض السلف([28]) وقد زلزلت الأرض (إن ربكم يستعتبكم) وقال عمر بن الخطاب وقد زلزلت المدينة فخطبهم ووعظهم وقال (لئن عادت لا أساكنكم فيها).”([29]).
فالسعيد من قدّم التوبة، و بادر بالرجوع و الأوبة.
(7)- { وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا }:
من حكم الله جل جلاله فيما يقع من زلازل حمل عباده على الخوف منه سبحانه لا من غيره وخشيته دونما سواه.
فمن أجل العبادات خوف القلب من رب الكائنات، بل إن الخوف عمود من الأعمدة الثلاث التي تقوم عليها العبودية، ألا وهي المحبة والخوف والرجاء.
وقد رغب الله تعالى عباده في خوفه أيما ترغيب، وما ذاك إلا لأن الخوف إذا سكن القلوب انصاعت وخضعت وتذللت لعلام الغيوب، فأتمرت بأمره وانزجرت بزجره.
يقول تعالى:” فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)”-آل عمران-، يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:”وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده، وأنه من لوازم الإيمان، فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله، والخوف المحمود: ما حجز العبد عن محارم الله.”([30]).
ويقول سبحانه:”فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ”-المائدة-.
ويقول تعالى في سماه وجل في علاه مادحا لأهل خشيته ومثنيا على أهل رهبته:”إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)”-المؤمنون-…
وقد تعددت أقوال العلماء في بيان حقيقة الخوف من الله سبحانه، هذه بعضها أنقلها من كتاب المدارج لشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى:
“قال أبو حفص : الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه وقال : الخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عز و جل فإنك إذ خفته هربت إليه فالخائف هارب من ربه إلى ربه قال أبو سليمان : ما فارق الخوف قلبا إلا خرب وقال إبراهيم بن سفيان : إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها وطرد الدنيا عنها وقال ذو النون : الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق”([31]).
وللأسف الشديد أصبحنا في زمن قل فيه الخوف من رب الأرض والسموات وطغت فيه الماديات والركون إلى الشهوات والملذات واستولى على القلوب الران والغفلات، وإذا ذكّر أحدهم أو نبه كان لسان حاله هيهات هيهات…
لذا كان من حكم المولى سبحانه فيما يقع من آيات كونية حمل الناس على الخوف الذي كاد يرحل من القلوب….
يقول تعالى عن البرق:” هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)”-الرعد-.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكسوف:” إن الشمس و القمر لا ينكسفان لموت أحد و لا لحياته و لكنهما آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده.”-متفق عليه-.
فما نرى من زلازل وقلاقل إنما هي من آيات الله الكونية يخوف الله به عباده، كما قال عز شأنه وعظم سلطانه:”وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا”-الإسراء:59-.
يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تأويلها:” وما نرسل بالعبر والذكر إلا تخويفا للعباد.”، ثم نقل بسنده عن عن قتادة:” وإن الله يخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكَّرون، أو يرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يأيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه.”([32]).
(8)- نحن لا شيء أمام قدرة الله جل جلاله:
إنّ مما يجب أن نستخلصه مما يحدث بين الفينة والأخرى من كوارث طبيعية وأخص بالذكر الزلازل ضعف بني آدم بل وحقارته أمام قدرة القهار ومشيئة الجبار.
فأين هو التطور التكنولوجي والتقدم العلمي حينما يجتاح إعصار أو يحل زلزال في بلد من البلدان خاصة تلك التي تدعي أنها بلغت في العلم مناها وفي التقدم غايتها وحال لسانها أنا أنا وليس إلا أنا –نعوذ بالله من الخذلان-.
ألم تظهر أمريكا –فرعون هذا الزمن- حيرتها وعجزها عدة مرات أمام ما أصابها من غضب الله..أعاصير..وفيضانات..وحريق…وهي التي تزعم أنها رائدة التقدم بكل أشكاله وألوانه؟
وقبلها، ألم يقل أسلافها في الشرك والكفران والعتو والطغيان:” مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً”، فكان الجواب من العزيز الجبار:”أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)”، ثم جاء الرد سريعا بآية من آيات الله جعلتهم نكالا “فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)” –فصلت-.
وبعد عاد العاتية ألم يقل فرعون الطاغية:” أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى” فأخذه الله أخذة رابية([33])، وكان حتفه ونهايته بالماء الذي كان يفتخر به ويتباهى قائلا:” وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي”…
والنمرود الجبار ألم يهلكه العزيز القهار بمجرد بعوض([34])؟
(9)- هل تذكرنا بما نشاهده من زلازل الزلزلة الكبرى؟
زلازل تصيب بعض بقاع الأرض بدرجات مختلفة تخلف دمارا مهولا وخرابا كبيرا…
ألا يذكرنا هذا بأمر أجّل وأخطر؟
ألا يذكرنا بزلزال ليس بدرجة سبعة أو ثمانية، وليس مقتصرا على نقطة من نقاط الأرض، بل زلزال يصيب الأرض برمتها والكون بأكمله والعالم بجملته…درجته ليس لأحد من البشر أن يحسبها أو يقيسها لأنها فوق طاقات البشر وخارجة عن حساباتهم وأقيستهم الدنيوية؟
زلزال لا يخلف مجرد هدم عمارات وردم بروج عاليات أو ضحايا بالآلاف والمئات، بل الأمر أبعد من ذلك بكثير…إنه زلزال يغير معالم الكون بأسره ويبدل صورة العالم برمته علوه وسفليه ويخضع الأجرام السماوية الكبرى لتغييراته.
ودونك أخي الكريم صورا لهذا الزلزال الكبير الذي لا مفر من وقوعه ولا مناص من حدوثه:
– ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)”-الحج-.
– “وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)”-طه-.
يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى:”يقول تعالى ذكره: ويسألك يا محمد قومك عن الجبال، فقل لهم: يذريها ربي تذرية، ويطيرها بقلعها واستئصالها من أصولها، ودكّ بعضها على بعض، وتصييره إياها هباء منبثا. (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا) يقول تعالى ذكره: فيدع أماكنها من الأرض إذا نسفها نسفا، قاعا: يعني: أرضا ملساء، صفصفا: يعني مستويا لا نبات فيه، ولا نشز، ولا ارتفاع.”([35]).
– “يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10)”-الطور-.
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:” { يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا } أي: تدور السماء وتضطرب، وتدوم حركتها بانزعاج وعدم سكون، { وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } أي: تزول عن أماكنها، وتسير كسير السحاب، وتتلون كالعهن المنفوش، وتبث بعد ذلك [حتى تصير] مثل الهباء، وذلك كله لعظم هول يوم القيامة، وفظاعة ما فيه من الأمور المزعجة، والزلازل المقلقة، التي أزعجت هذه الأجرام العظيمة، فكيف بالآدمي الضعيف!؟”([36]).
– “إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)”([37]).
فعلينا إن رمنا النجاة والفوز برضى رب البريات أن نتذكر بما يقع من زلازل ذلك الزلزال العظيم الذي لا يعلم قوته وشدته إلا مالك الملك سبحانه، فنسلك سبيل الطاعات والقربات وننأى بأنفسنا عن سبيل الفسوق والموبقات لعلنا نسعد بخاتمة نكون فيها من المبشرين بالغرفات العاليات والنجاة من الدركات([38]) والقلاقل المزعجات.
لكن وللأسف الكثير منا لا ينظر إلى ما يحدث من زلازل وهزات بعين البصيرة ليتعظ ويعتبر بل تجده لا يملك إلا أن يتعاطف مع الضحايا ويسترجع وما يلبث أن يعود إلى لهوه وغفلته…ولا يفكر البتة في حاله مع خالقه…وكأن هذا الزلازل لا تعنيه في شيء…
ولا شك أن السبب في عدم تأثر الكثيرين بما يرون من أهوال وزلازل وهزات وقلاقل ضعف البصيرة فإن العبرة ليست ببصر العيون وإنما ببصر القلوب…يقول تعالى:” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)”-الحج-.
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:”ولهذا دعا الله عباده إلى السير في الأرض، لينظروا، ويعتبروا فقال: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ } بأبدانهم وقلوبهم { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } آيات الله ويتأملون بها مواقع عبره، { أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أخبار الأمم الماضين، وأنباء القرون المعذبين، وإلا فمجرد نظر العين، وسماع الأذن، وسير البدن الخالي من التفكر والاعتبار، غير مفيد، ولا موصل إلى المطلوب، ولهذا قال: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } أي: هذا العمى الضار في الدين، عمى القلب عن الحق، حتى لا يشاهده كما لا يشاهد الأعمى المرئيات، وأما عمى البصر، فغايته بلغة، ومنفعة دنيوية.”([39]).
وليس كل أحد بالعبر يعتبر وبالآيات ينزجر وإلا فقد قص الله تعالى علينا في محكم كتابه كثيرا من قصص الغابرين وأخبار الهالكين، وما حلت بهم من العقوبات والمثلات([40])…لكن هيهات هيهات أن يتحقق المقصود ونسلك السبيل المحمود ونتعظ بغيرنا قبل أن يتعظ بنا من بعدنا إذا لم يتحقق الشرط المذكور في كلام العزيز الغفور:” إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)”-ق-.
يقول العلامة السعدي رحمه الله تعالى:”أي: قلب عظيم حي، ذكي، زكي، فهذا إذا ورد عليه شيء من آيات الله، تذكر بها، وانتفع، فارتفع وكذلك من ألقى سمعه إلى آيات الله، واستمعها، استماعًا يسترشد به، وقلبه { شَهِيدٌ } أي: حاضر، فهذا له أيضا ذكرى وموعظة، وشفاء وهدى.
وأما المعرض، الذي لم يلق سمعه إلى الآيات، فهذا لا تفيده شيئًا، لأنه لا قبول عنده، ولا تقتضي حكمة الله هداية من هذا وصفه ونعته.”([41]).
وكما قال تعالى: { وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ }، فأهل الإيمان هم الذين بما يشاهدون من آيات كونية يعتبرون وبما يسمعون يتعظون، أما غيرهم فهم في جهلهم يعمهون وفي غفلاتهم يترددون.
وكما قال ربنا جل جلاله وتقدست نعوته وصفاته:” وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلا طُغْيَانًا كَبِيرًا”-الإسراء:60-، يقول الإمام الطبري رحمه الله تعالى:”ونخوّف هؤلاء المشركين بما نتوعدهم من العقوبات والنكال، فما يزيدهم تخويفنا إلا طغيانا كبيرا، يقول: إلا تماديا وغيا كبيرا في كفرهم”([42]).
(10)- الأرض جند من جنود الله تعالى يغار على محارم الله:
يقول جل في علاه وتعالى في علياء سماه:”وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)”-المدثر-.
قد يظن ظان أو يتوهم متوهم أن جنود الله تعالى تنحصر في الملائكة الذين يأتمرون بأمره والذين أرسل بعضهم لإهلاك بعض الأشرار من خلقه، أو الزبانية المكلفين بتعذيب أهل الشقاوة من عباده كما قد يفهم من سياق آيات المدثر.
والأمر ليس كذلك فالملائكة ليسوا إلا جندا من جنود الله جل جلاه..فالسماء جند والجبال جند والبحر جند والأرض جند بل والحشرات جند([43])…
يقول تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }-فاطر:41-.
وفي الحديث:”ليس من ليلة إلا و البحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله تعالى أن ينتضح عليكم فيكفه الله”([44]).
وإن من جنود الله سبحانه الأرض فإنها هي كذلك مسخرة مدبرة إذا أمرها بالاهتزاز اهتزت وبالانشقاق انشقت وبالخسف خسفت كما فعلت بقارون اللعين (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ).
وإذا أمرها بالزلزلة الكبرى انقادت وأذعنت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحقت وبأفعال العباد فوقها أخبرت…
وإذا أمرها بزلازل دون ذلك انصاعت وائتمرت كما يحدث بين الفينة والأخرى.
قال تعالى: “قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ”-الأنعام:65-، قال مجاهد:” أو من تحت أرجلكم” الخسف . وقال السدي:”فيخسف بكم الأرض.”([45]).
فالأرض تغار على محارم الله تعالى وتشفق بسبب ما يجري عليها من معاصي ابن آدم.
يقول كعب:” إنما تزلزلت الأرض لأنها … تعمل عليها المعاصي ، فترعد فرقا من الرب تعالى إذ يطلع عليها“([46]).
(11)- أنهلك وفينا الصالحون؟
كل المصائب إنما سببها المعايب وكل ما يصيب الإنسان فبسبب المخالفات والعصيان، ويعفو عن كثير من ذلك الكريم الرحمن.
“مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ”-النساء:79-.
“ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)”-الروم-.
“وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)”-الشورى-.
فالله جل في علاه منزه عن الظلم وقد حرمه على نفسه، فما يصيبنا ليس إلا جزءا يسيرا مما كسبت أيدينا، وإلا فلو يؤاخذنا سبحانه بكل جريرة([47]) ما ترك عليها من دابة، كما قال تعالى:” وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ”-النحل:61-.
يقول علي رضي الله عنه:”ما وقع عذاب إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة”.
ويقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:” فإن هذا الرجف شيء يعاقب الله تعالى به العباد.“([48]).
فما يحدث من مصائب وقلاقل وأهوال وزلازل وقحط وغلاء وانتشار أنواع من الوباء وغير ذلك من أصناف البلاء ليس إلا نتيجة لما فشا من المنكرات وانتشر من المبيقات واستفحل من المخالفات(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)-آل عمران:165-.
قد يقول قائل: لكننا نشاهد كثيرا من الأبرياء يعمهم العذاب من زلازل وغيرها، فكيف ذلك؟
والجواب نجده بينا شافيا في كلام من أرسل للناس هاديا (صلى الله عليه وسلم)، فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم”يكون في آخر الأمة خسف ومسخ وقذف قالت قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال نعم إذا ظهر الخبث”-صحيح الترمذي-.
وعنها رضي الله عنها:” (إذا ظَهَرَ السُّوءُ في الأرضِ ؛ أنزلَ الله بأهلِ الأرضِ بأسَهُ. قالت [عائشة ]: وفيهم أهل طاعة الله عزَّ وجلَّ؟! قال: نعمْ، ثمَّ يصيرون إلى رحمة الله تعالى).“([49]).
وعن أم سلمة رضي الله عنها ترفعه:”إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض و إن كان فيهم قوم صالحون يصيبهم ما أصاب الناس ثم يرجعون إلى رحمة الله و مغفرته”([50]).
(12)- ما يسن عند وقوع الزلازل:
هناك عدة أمور تسن عند الزلازل، أذكر منها:
– التضرع لله جل جلاله والدعاء لمن مات شهيدا بالزلزال…
– بذل المساعدة بكل ما أمكن (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)… (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ)… (مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم و تعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى)-مسلم-…
– الصدقة، فكما سبق الزلزال عادة ما يكون من غضب الله جل في علاه وتعالى في سماه وإن مما يذهب غضبه سبحانه الصدقات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” صدقة السر تطفئ غضب الرب “([51]).
وقد روي أن عُمَر بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه-كتب إلى عماله- فِي زَلْزَلَةٍ كَانَتْ بِالشَّامِ، أَنِ اخْرُجُوا يَوْمَ الأَثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ كَذَا وَكَذَا وَمَنَ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُخْرِجَ صَدَقَةً فَلْيَفْعَلْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}([52]).
– وإن من السنن التي قد يجهلها الكثير من الناس: صلاة الآيات، وهي صلاة الكسوف، فإنها تسن عند كل آية عظيمة كالزلزال. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن عثيمين رحمهما الله تعالى.
يقول شيخ الإسلام:” وتصلى صلاة الكسوف لكل آية كالزلزلة وغيرها، وهو قول أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وقول محققي أصحابنا وغيرهم“([53]).
وقد روى ابن أبي شيبة رحمه الله تعالى في مصنفه عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، “أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَلَّى بِهِمْ فِي زَلْزَلَةٍ كَانَتْ أَرْبَعَ سَجَدَاتٍ رَكَعَ فِيهَا سِتاً.”.
وبسنده كذلك عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْهَجَرِيُّ قَال:”انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ بِالْبَصْرَةِ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ أَمِيرٌ عَلَيْهَا فَقَامَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ، فَقَرَأَ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ ، ثُمَّ رَكَعَ فَأَطَالَ الرُّكُوعَ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : هَكَذَا صَلاَةُ الآيات ، قَالَ : فَقُلْتُ : بِأَيِّ شَيْءٍ قَرَأَ فِيهِمَا ؟ قَالَ : بِالْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ.”([54]).
وهذا من الأدلة على صلاة الكسوف تسمى صلاة الآيات، فليست خاصة بظاهرة الكسوف أو الخسوف وإنما تعم كل آية من آيات الله العظيمة سواء كانت آيات سماوية كالكسوف أو آيات أرضية كالزلازل والأعاصير والفضايات القوية وغير ذلك.-عفانا الله وحفظنا وجميع المسلمين من كل ذلك-.
فاللهم ردنا إليك ردا جميلا، واجعلنا ممن يعتبر فينزجر، واكلأنا بعينك التي لا تنام، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1] ) ومنها بلدنا العزيز (المغرب) الذي شهد يوم الجمعة 22 من شهر صفر 1445ه (8 شتنبر 2023) حوالي الساعة الحادية عشر ليلا زلزالا عنيفا خلف دمارا وقتلى بالمئات وجرحى، ولولا لطف الله لكانت الآثار كارثية أكثر مما حصل. وقبل زمن ليس بالبعيد شهدت تركيا وسوريا الجريحة زلازل بعدة هزات ورجفات مما خلف قتلى بالآلاف–تقبل الله موتاهم وموتانا عنده من الشهداء وعجل بشفاء الناجين-.
([2] ) أسأل الله تعالى أن تكون سببا لهداية من شاء الله هدايته وأن تنير بصائر وتحيي قلوبا، إنه سميع قريب –سبحانه-.
([3] ) فلتنظر لأهميتها وقد نقلتها في شرحي لاسم الله تعالى الحكيم –وهو بحمد الله متوفر على شبكة النيت (موقع الألوكة)-.
([4] ) جامع البيان في تأويل القرآن:3/88.
([5] ) تفسير القرآن العظيم:1/445، وقال:” حكيم في أمره وشرعه وقدره”.
([7] ) منهج الأشاعرة في العقيدة للدكتور سفر الحوالي، ص:27.
([9] ) وقد آثرت نقل الحديث بتمامه دون الإكتفاء بمحل الشاهد منه لما فيه من علامات أخر وأمور تكون بين يدي ذلك اليوم المحتوم.
([10] ) يقول العلامة عبد المحسن العباد:” فيه إشارة إلى أنها قريبة جداً، وفيه إشارة إلى الخلافة في زمن بني أمية، وقد حصل ما حصل من الفتن، وحصل ما حصل من الخير العظيم، فقد حصلت فتن وقلاقل، وحصلت أيضاً فتوحات عظيمة.”-شرح سنن أبي داود-.
([11] ) جزء من حديث الشفاعة المشهور –المتفق عليه-.
([12] ) رواه أبو داود وغيره وصححه الألباني.
([14] ) قال الحافظ: (“اللأواء”: الشدة وضيق المعيشة والمشقة).
([16] ) ذكره الإمام الطبري في تفسيره-9/243-.
([18] ) رواه ابن أبي الدنيا في (العقوبات) ونصه:” عن أنس بن مالك ، أنه دخل على عائشة ورجل معه ، فقال لها الرجل : يا أم المؤمنين ، حدثينا عن الزلزلة ، فقالت : « إذا استباحوا الزنا ، وشربوا الخمر ، وضربوا بالمغاني ، وغار الله عز وجل في سمائه فقال للأرض : تزلزلي بهم . فإن تابوا ونزعوا ، وإلا هدمها عليهم . قال : قلت : يا أم المؤمنين ، أعذاب لهم ؟ قالت : بل موعظة ورحمة وبركة للمؤمنين ، ونكال وعذاب وسخط على الكافرين » . قال أنس : ما سمعت حديثا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أشد فرحا مني بهذا الحديث.”.
([19] ) رواه البيهقي وصححه الألباني- 5602 في صحيح الجامع.
([20] ) جمع شهيد بمعنى فاعل لأنه يشهد مقامه قبل موته أو بمعنى مفعول لأن الملائكة تشهده أي تحضره مبشرة له. –تحفة الأحوذي-.
([21] ) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي:4/146.
([22] ) ابن عساكر وصححه الالباني. 4172 في صحيح الجامع.
([23] ) ينظر أحكام الجنائز في هذه المسألة.
([24] ) { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } .
([25] ) أذكر أنني كنت (سنين خلت) متكأ أقرأ شيئا من وردي اليومي بعد الرجوع من صلاة الفجر فإذا بالسرير يهتز بي والمنزل برمته يميل، لكن لطف الله بنا حيث لم يكن ذلك الزلزال بدرجة قوية، وقبل أسابيع كنت مسافرا لأحدى المدن الساحلية وإذا بي أشعر وأنا نائم قريب صلاة الفجر بهزة أرضية كانت ولله الحمد هي الأخرى بدرجة ضعيفة.
([27] ) رواه أحمد وصححه الألباني وهو مخرج في الصحيحة تحت رقم: 1452.
([28] ) هو الصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه، كما سيأتي لاحقا إن شاء الله تعالى.
([29] ) مفتاح دار السعادة:1/221.
([34] ) وقصته مشهورة نقلها المفسرون في مقدمتهم إمامهم ابن جرير، لكن من أهل العلم من حكم بإرسالها، ولعلها إلى الإسرائيليات أقرب، لكن فيها عبرة لكل ظالم وطاغية ومعتد وعاتية. فبني آدم لا شيء أمام قدرة القهار ومشيئة الجبار سبحانه.
([37] ) قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى:”وفي وقت هذه الزلزلة قولان: أحدهما تكون في الدنيا وهي من أشراط الساعة قاله الأكثرون، والثاني أنها زلزلة يوم القيامة.”-زاد المسير:9/202-.
([38] ) أقصد دركات النار –عياذا بالله- فإن الجنّة درجاتٌ، والنَّار دركات. قال الله تعالى: {إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}.
([40] ) { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ } أي: وقائع الله وأيامه في الأمم المكذبين، أفلا يتفكرون في حالهم ويتركون جهلهم.-تيسير الرحمن:413-.
([43] ) قال تعالى:”فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ”، فكان الجراد والقمل والضفادع من جند الله الذين سلطوا على آل فرعون إنذارا وتحذيرا.
([44] ) رواه الإمام أحمد لكن ضعفه الألباني. والحديث وإن كان ضعيفا سندا لكن لا ريب أن البحر جند من جنود الله التي تغار على محارم الله والتي يسلطها الله على من يشاء من خلقه، ألا نتذكر (التسونامي) التي عصفت بأكثر من 11 دولة من دول جنوب آسيا؟
([45] ) جامع البيان: الطبري:11/417.
([46] ) رواه ابن أبي الدنيا رحمه الله تعالى في كتاب العقوبات. وقوله فرقا: أي خوفا شديدا وفزعا.
([48] ) العقوبات لابن أبي الدنيا.
([49] ) أخرجه أحمد وغيره وصححه الألباني في الصحيحة:ح رقم:3156.
([50] ) أخرجه الطبري رغيره وهو في الجامع الصحيح تحت رقم:680.
([51] ) روي عن جمع من الصحابة رضوان الله عليه وهو مخرج في السلسلة الصحيحة: ح 1908.
([52] ) مصنف ابن أبي شيبة:2/472.