الفقيه الحجوي وآراؤه النهضوية* (1291/1376هـ) (1874/1956م)
هوية بريس – حمّاد القباج (مدير مركز بلعربي العلوي للدراسات التاريخية)
محمد بن الحسن بن العربي بن محمد بن أبي يعزى بن عبد السلام بن الحسن الحجوي الثعالبي الجعفري الهاشمي الزينبي.
علامة مغربي مصلح سلفي، ولد في فاس، ودرس في القرويين، تولّى مناصب حكومية في عهد الحماية الفرنسية.
ولد سنة 1291 هـ / 1874م في أسرة عالمة متفتحة، وقد ركز في ترجمته لنفسه على المراحل الأولى من حياته لما لها من دور أساسي في بناء شخصيته.
فوالدة الحجوي من أسرة آل كنون الشهيرة بعلمها، وهي بنت الأمين الحسين بن عبد الكبير كَنون.
وكان والد الحجوي كذلك عالما، درس على أكبر علماء تازة آنذاك كالعالم علال بن كيران، ومفتيها بوحجار، وقاضيها محمد الخصاصي.
ولما بلغ سبع سنوات، ألحقه والده بمكتب خصوصي برفقة أخوين صغيرين له، وبعض أبناء أصدقائه وبناتهم.
وفي هذا المكتب، حفظ القرآن على الفقيه محمد بن عمر السودي، كما أتقن على يديه الكتابة والقراءة والتجويد.
بعد ذلك انتقل مع رفاقه إلى مكتب عمومي بزقاق البغل، حيث دعم حفظه للقرآن وكثير من المتون.
وفي سن السادسة عشر التحق بجامع القرويين ودرس على شيوخها العلوم النقلية والعقلية.
واهتم من جهة ثانية بالعلوم الإنسانية التي تعلمها خارج القرويين.
تلقى الحجوي العلوم على أساطين علماء القرويين أمثال:
محمد بن التهامي الوزاني، محمد بن عبد السلام كَنون، محمد بن قاسم القادري، أحمد بن الخياط الزُكَاري، أحمد بن سودة، عبد السلام الهواري، الكامل الأمراني.
التحق بالمخزن العزيزي حيث وظف عدلا في صوائر دار المخزن بمكناس سنة 1900م.
ثم عين في منصب أيمن ديوانة مدينة وجدة سنة 1902م وكافأه السلطان بترقيته، وجعله نائبه الرسمي في الحدود المغربية الجزائرية.
وظيفة مندوب المعارف:
في أوائل 1330هـ / 1912م بعد فرض الحماية على المغرب؛ تولى الحجوي وظيفة مندوب المعارف مرتين: من 1330هـ إلى 1332هـ، واستعفي منه ليعود إليه من 1339هـ إلى 1358هـ.
وبذلك تقلد هذا المنصب لمدة تزيد عن العشرين سنة.
هذه الوظائف المخزنية لم تبعد الحجوي عن اشتغاله المتواصل بالعلم والمعرفة.
كما أنه لم يتخل عن التجارة التي مارسها منذ كان طالبا في القرويين.
أثنى على علمه ومعرفته علماء كبار من المغرب والمشرق:
يقول فيه محمد كرد علي: “الأستاذ المحقق محمد بن الحسن الحجوي”.
وأثنى عليه عبد القادر المغربي الدمشقي فقال: “السيد السند الأجل”.
ووصفه مؤرخ المغرب مولاي عبد الرحمن بن زيدان بقوله:
“صديقنا العلامة المشارك أبو عبد الله محمد الحجوي مندوب المعارف الإسلامية بالمملكة المغربية”.
وأثنى عليه العلامة الطاهر بن عاشور فقال:
“ومن أبهر الكواكب التي أسفر عنها أفقنا الغربي في العصر الحاضر، وكان مصداق قول المثل: (كم ترك الأول للآخر): الأستاذ الجليل، والعلامة النبيل، وصاحب الرأي الأصيل؛ الشيخ محمد الحجوي المستشار الوزيري للعلوم الإسلامية بالدولة المغربية، فلقد مد للعلم بيض الأيادي، بتآليفه التي سار ذكرها في كل نادي”.
وقال العلامة المحدث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: “العلامة النابه، البارع، الإمام فقيه المغرب الأقصى، الأصولي المتفنن الشيخ محمد بن الحسن الحجوي المغربي”.
تآليفه[2]:
تميز الحجوي بغزارة التأليف؛ فقد ترك أزيد من (115) مؤلفا بين صغير وكبير.
له كتب مطبوعة؛ منها: القرآن فوق كل شيء، والدفاع عن الصحيحين دفاع عن الإسلام، والتعاضد المتين بين العقل والعلم والدين، والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، والحق المبين والخبر اليقين بما في قراطيس حجة المنذرين مما يخالف الدين، والنظام في الإسلام، وثلاث رسائل في الدين، وتعليم الفتيات، ومختصر العروة الوثقى في مشيخة أهل العلم والتقى (ذكر فيه شيوخه) ..
توفي رحمه الله تعالى بالرباط سنة 1376هـ / 1956 م، ودفن بفاس.
من آرائه النهضوية:
من مناقب هذا الفقيه؛ أنه كان أول مثقف مغربي دعا لمقاومة أبرز عوامل تخلف المرأة المغربية وأهم أسباب انحطاط وضعيتها؛ ألا وهو الجهل والأمية؛ جاعلا من الدعوة إلى تعليمها إحدى أهم مشاريعه الإصلاحية التي ناضل من أجلها:
ففي سنة 1925 ألقى بمعهد الدروس العليا بالرباط: محاضرة مطولة يحث فيها المغاربة على تعليم بناتهم، ويجيب عن الشبهات التي تحول بينهم وبين ذلك باسم الدين والعادات!
ثم كتب في الموضوع كتابا نافعا سماه: “تعليم الفتيات لا سفور المرأة”.
وهو مخطوط محفوظ في الخزانة العامة بالرباط بخط المؤلف تحت رقم (205).
ثم طبعه الأستاذ سعيد بن سعيد العلوي ضمن وثائق كتابه “الاجتهاد والتحديث”.
ثم طبع بعناية الدكتور محمد بن عزوز سنة 2004.
كما عمل الحجوي الأب من خلال منصبه في وزارة المعارف على تفعيل وتنزيل هذا المعطى على أرض الواقع.
وقد لقي موقفه الإصلاحي معارضة سياسية ودينية شديدة ..
ومن ذلك أنه لما ألقى محاضرته الرباطية في الدعوة لتعليم المغربيات عارضته بعض الشخصيات، في مقدمتها الصدر الأعظم المقري، ووزير العدلية أبي شعيب الدكالي؛ الذين اعتبرا تعليمها بدعة وضررا للمجتمع ومصدرا للفساد، مما اضطر الحجوي إلى قطع محاضرته والانصراف.
ويذكر الحجوي أنه بقي إلى سنة 1949 ممنوعا على لسان الصدارة من تفقد مدارس البنات (كتاب تفقد مدارس البنات للحجوي مخطوط).
ومع ذلك مضى ولم يلتفت؛ وقد كتبت مقالة تجلي فكره الإصلاحي وتبرز مواقفه الداعية لإصلاح وضعية المرأة والارتقاء بمستواها ومكانتها وأدوارها الحيوية في التقدم والتنمية.
وضمنها: موقفه الرافض لدعوة التحرر التغريبية التي نادى بها قاسم أمين والطاهر حداد وطه حسين وأمثالهم ..
وهذا الموقف يبرز ما تمتع به المغرب آنذاك من حصانة ضد دعوات التغريب التي استفحلت في دول إسلامية أخرى؛ كتركيا ومصر والعراق وتونس ..
ولا شك أن هذه الحصانة ترجع إلى أسباب؛ منها في نظري: الدور الإيجابي الذي أداه الفقهاء المصلحون الجامعون بين التضلع من علوم الشريعة والفقه العميق لواقعهم وتحديات ظرفيتهم ..
إن نضال الحجوي من أجل تعليم المرأة المغربية؛ كان ينبع من تشبعه بمحورية العلم في النهوض والترقي الذي يريده لبلده وسائر بلاد المسلمين؛
وفي هذا الصدد؛ ألف كتابا أجاب فيه عن مشكل ذلك العصر: علاقة الدين بالعلم العصري وسبب تخلف المسلمين؟
قال في الكتاب المذكور (ص 26):
“وهذه المسألة من أعوص المسائل حلا، ولم أقف على من ألف فيها تأليفا يتتبع فيه فروعها وأصولها, ويأتي ببرهان واضح على نقض ما أبرمه أهل الإلحاد, ورد جنايتهم على الإسلام.
وفي نظري أنه واجب على علماء الأمة الاعتناء بها, وتخصيصها بتأليف برهاني يزيل عن عقول الأمة, وعقول الناشئة الإسلامية سحب الشكوك والأوهام, لذلك تصديت في هذه المحاضرة لإقامة البراهين على حل هذه المعضلة وتبرئة الإسلام من وصمتها.
ولعلك إذا أمعنت النظر فيما سأورده من الأدلة والبراهين على نقض هذه الشبهة, وإثباتنا بدليل واضح لا يقبل التشكيك, أنه لا يوجد في الإسلام عقيدة واحدة, بل ولا فرع واحد مبني على ما يضاد العقل, أو يناهض العلم.
بل ستمر أمامك ثلاثة وأربعون دليلا, وبراهين لا تقبل التشكيك تبين لك نقيض ذلك وتثبت لديك ضرورة أن الإسلام دين موافق للعقل, لا مضاد له, وأنه دين العلم, دين مبني على تحرير الفكر من قيد التقليد, غير مضاد لشيء من قواعد العلم الصحيح الثابتة على أساس الامتحان العلمي.
وبذلك يتبين لك، أن مؤلف كتاب (مصطفى كمال) جاهل بدين الإسلام, غير متذوق له, ولا شم رائحته الحقيقية، وإنما سمع الرهبان والملحدين أضداد الإسلام يقولون شيئا فقاله تقليدا، في حال أنه ينكر التقليد ويعيبه”اهـ.[3]
ومن جهود الحجوي في الارتقاء بمناهج التعليم؛ أنه استغل منصبه المخزني وزيرا للمعارف في عهد السلطان عبد الحفيظ؛ لعرض مجموعة من الإصلاحات التي تهم هذا القطاع الذي كان أحد أهم العناصر التي راهن عليها في الدعوة إلى تحديث المغرب؛
وفي هذا الصدد؛ وضع محمد بن الحسن الحجوي سنة 1914 نظاما أساسيا لجامعة القرويين من عشرة أقسام مست مختلف شؤون القرويين تنظيما وتدريسا؛ إلا أن الاحتلال أجهض هذا المشروع واستدعى الحجوي من فاس إلى الرباط..[4]
ومما جاء في الكتاب الأول المفتوح إلى السلطان عبد الحفيظ في شأن التعليم:
“ويتفقد معاهد العلم والعلماء ويرتب مجالس العلم (…) ويقدم للتعليم ما يستحقه وينشطه برفع درجته، ويؤخر من لا يستحق بحسب الاستحقاق لا بحسب اليد أو القربى (…) ويفكر في بناء مدرسة جامعة لتلقي المعارف الوقتية المفقودة مع اضطراره إليها”[5].
وفي بيان الاعتراضات التي لقيها من العلماء الجامدين والمتخوفين؛ يقول الحجوي:
“كما أن الرأي العام كان ضدي في تنظيم القرويين وإحداث نظامها، وكان ألد الأعداء لنظامها علماؤها بالخصوص (…)، وعلى كل حال أمكنني إدخال اسم نظام للفكر القروي”[6].
فصل
وفيما يلي نبذ من آراء الحجوي الثعالبي في موضوع تعليم البنت والنهوض بوضعية المرأة والمفهوم الشرعي لتحريرها وتمتيعها بحقوقها:
“تربية البنت وتعليمها ضروري، من حيث الدين والاجتماع معا، وليس هو بكمالي كما يظن بعض من لم يمعن النظر في المسألة تأملا ونقدا.
وقد أجمع الرأي العام داخل المغرب وخارجه على أن تربية الأم هي أساس صلاح الأمة أو فسادها، ولا سبيل لأمة أن تحل المحل اللائق من الرقي إلا بتعليم البنت وتهذيبها، وبقدر تعميم رقي البنت الفكري والأخلاقي ترقى الأمة، وبقدر نقصان ذلك التعميم تنحط لأمة”[7].
ينبغي أن نصل إلى أعلى المستويات فـي تعليم البنت:
“لا يكفي في تعليم البنت: القراءة وحفظ يسير من القرآن أو كله من غير فهم ولا استفادة فكر، ولا يكفي تعلم صنعة أو صنائع بدون تهذيب، وهذا هو جل ما هو موجود في المدارس الآن – إلا من أراد أن يعلم ابنته شيئا من مبادئ الفرنسية وطلب ذلك – فمدارس البنات الآن مدارس أولية، صناعية، ولم تصل إلى أن تكون ابتدائية أو تهذيبية، وأعظم سبب في ذلك عدم وجود معلمات مغربيات يعرفن شيئا من العلم أو التهذيب غير قراءة لفظ القرآن العظيم، ولا يحسن شيئا من العلوم الدينية المفروض علينا تعليمها للبنات عينا، ولا حتى قراءة القرآن أو رسمه كما ينبغي، وإن هذا الشيء غير مفيد إفادة يحسن السكوت عنها، وهناك بنات يتعلمن عند الراهبات الإنكليزيات وغيرهن في الجديدة وفي مدن أخرى غيرها، وكلكم يعلم ذلك وما فيه، وخطره على الناس وعلى الدين.
وقد أقبلن على تلك المدارس كلها وهي مكتظة، ولم توف بالحاجة، حيث إن الشعب المغربي ظهر فيه هيام بالعلم وغرام بالتهذيب لأولاده وبناته، بل إقبال الشعب على تعليم الفتيات أعظم، كما يظهر من موازنة الإحصائيات.
وعليه، فالجواب أن نرقي تعليم البنات إلى قدر أعلى من ذلك وأن نزيده نظاما وتحسينا حتى يحصل منه المقصود الذي بيناه آنفا تعليما ابتدائيا، أدبيا، إسلاميا، صناعيا”[8].
وقد عدد العلوم والمعارف التي رأى أهمية تعليمها للبنت في ذلك الوقت؛ وهي:
- القراءة والكتابة والخط والرسم
- ضروريات الدين
- الحساب والجغرافيا ومبادئ العلوم
- الأخلاق الإسلامية
- تدبير المنزل
- تدبير الصحة والرياضة البدنية
- فن التربية
- صناعة أو أكثر
أسباب تأخر المرأة المغربية وانحطاط وضعها؛ وأن علاج هذا الوضع يبدأ بالتعليم الذي ارتقت به المسلمة فـي عهود الازدهار:
قال رحمه الله تعالى:
“لا أنكر معكم أن المرأة تأخرت في الإسلام، بتأخره، فأصابها حظها من التأخر أو أكثر من حظها، وليس الذنب على الشريعة بل على المسلمين، حيث أهملوا تعليم المرأة، كأنه منكر من الأمور وفجور أو كسلا أو جهلا.
فالمرأة في القرون المتأخرة ليس هي المرأة في زمن الإسلام وعظمته، ولقد كانت عائشة أم المؤمنين، مفتية الإسلام وراويته في زمنها، كما كان بقية أزواجه عليه السلام، وكن يقرأن ويكتبن، وكم من واحدة من أمهات المؤمنين كان لها مصحف تقرأ فيه، كعائشة وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهن.
وقد تعلمن القراءة والكتابة على عهده صلى الله عليه وسلم، فحفصة بنت عمر علمتها الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس القرشية، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: “علميها رقية النملة كما علمتها الكتابة” رواه أبو نعيم، وغيره؛ كما في الإصابة.
وكان صلى الله عليه وسلم يسمر مع أزواجه يعلمهن الأدب والعلم، ويدل لذلك قصة حديث أم زرع في الصحيح والشمائل وغيرها.
وهذه كانت سيرة السلف في سمرهم في بيوتهم مع أزواجهم، وبناتهم وعيالهم للتعليم والتهذيب، وبسبب ذلك انتشر العلم في نسوة الإسلام، إذ لم يكن لديهم مسارح ولا مقاصف ولا مقاهي ولا محلات التمثيل والصور المتحركة التي يزعم بعض أهل العصر أنها مهذبة، سقطة ومكرا، وهي منبع فساد الأخلاق، لتمثيل أنواع الجرائم والمآثم والغرام والخيانات، فهي التي تنبه الغافل وتعلم الجاهل.
وما كانت نساء المسلمين إلا كما وصف القرآن: (الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)[النور: 23].
ولقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم اهتمام بتعليم المرأة؛ ففي أصح الصحيح قصة المرأة التي وهبت نفسها للرسول ليتزوجها، ولم يردها، فقام رجل وقال: زوجنيها يا رسول الله …
إلى أن قال له: “زوجناكها بما معك من القرآن“.
وفي رواية ابن عباس: “أزوجها منك على أن تعلمها أربع أو خمس سور من كتاب الله تعالى“.
وقالت عائشة، كما في الصحيح: “نعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من التفقه في الدين“. وقد تقدم.
وقد انتشر تعليم المرأة في الإسلام، بانتشاره وسرعة امتداده بعد الجهل العظيم، فظهر فيه عالمات مقرئات مفتيات راويات شاعرات، ماهرات أديبات واعظات مربيات مدرسات.
فقد كانت أم سعد بنت سعد بن الربيع الأنصارية مقرئة؛ يقصدها القراء لأخذ كتاب الله تعالى.
روى أبو داوود: أن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ عليها مع ابنها أبي موسى، وكانت يتيمة في حجر أبي بكر الصديق فقرأت عليها: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)[النساء: 33] فقالت: لا، ولكن “والذين عاقدت أيمانكم” ـ الحديث.
وكانت أمهات المؤمنين معلمات مفتيات في أهم المعضلات.
وهذه الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية، أشعر نساء العرب، كانت صحابية جليلة، وكان لها أربع بنين فوارس حضرت معهم حرب القادسية فحرضتهم على التقدم للقتال، فتقدموا، وكل واحد أنشأ قصيدة حماسية وقاتل، إلى أن قتلوا جميعا، وأمهم تحرضهم صابرة محتسبة، وقصتها معهم من القصص الحماسية الحقيقية العجيبة، وقد ذكرها ابن عبد البر في (الاستيعاب) وغيره.
وهذه أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، خطيبة النساء الشهيرة المتقدمة الذكر، شهدت غزوة اليرموك وعاشت بعدها دهرا طويلا.
وهذه الشفاء بنت عبد الله بن عبد الشمس القرشية العدوية، من المهاجرات السابقات، وعاقلات النسوة، كانت تعلم النساء القراءة والكتابة على العهد النبوي لا لأنها من أهل مكة الذين لهم اعتناء معلوم بالكتابة وسبقوا إليها لضرورة التجارة التي هي أحوج المهن إليها، بخلاف أهل المدينة الذين كانوا فلاحين.
ولقد كان عمر يقدمها في الرأي ويرعاها ويفضلها، وربما ولاها شيئا من أمر السوق. (قاله ابن سعد وابن عبد البر وابن حجر).
وفي (الاستيعاب): أن سمراء بنت نهيك الأسدية كانت أدركت النبي صلى الله عليه وسلم؛ كانت تمر بالأسواق تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتنهى الناس من ذلك بسوطها.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون إلا عن علم، ولا يقرها عمر عليه وهي جاهلة، ثم إنها امرأة صحابية متجالة بل معمرة فلا يستدل بها الشابة التي يخشى عليها، ومنها الفتنة فتكون عين المنكر.
وانظر الجزء الرابع من (الإصابة) و(الاستيعاب) ترى بعضا من تراجم عالمات صحابيات.
وهكذا كان الذين يؤلفون في تواريخ الرجال يخصصون جزءا للنساء العالمات الأديبات، ومنهم من خصصهن بالتأليف كأبي الفضل أحمد بن طاهر البغدادي المتوفى سنة 280هـ صاحب كتاب (بلاغات النساء) الذي ذكر جملة من خطيبات النساء وشاعراتهن و(وقد طبع بمصر سنة 1326هـ).
وأذكر لك من التابعيات حفصة بنت سيرين التي روى عنها أصحاب الصحيح كلهم، قال إياس بن قرة: (ما أدركت أحدا أفضله عليها).
ورابعة العدوية ومعاذة العدوية وغيرهن.
ولقد نبغ في زمن التابعين، ومن بعدهم، نسوة كثيرات نبوغا فائقا، مثل الرجال أو أكثر، فكن كعبة علم وأدب ودين وفضل وزهادة ووعظ وإرشاد، محجوجات لطلاب العلم والأدب على عهد زهرة الإسلام مثل: كريمة بنت محمد المروزية التي كانت تقصد من الآفاق، وتشد لها الرجال الرحال ليرووا عنها (صحيح البخاري)، وتصحح للطلاب النسخ على نسختها، وكان مجلسها بمكة يجمع الطلاب من كل فن تلقي عليهم أنواع المعارف.
وفاطمة بنت علي بن المظفر البغدادية التي كانت تلقن النساء رواية صحيح مسلم.
وفاطمة بنت محمد بن سعد البغدادية الواعظة.
وأم مالك بنت الإمام مالك راوية (الموطأ) عنه.
وكريمة بنت عبد الوهاب القرشية مسندة الشام.
وتقية بنت مغيث الأرمنازية الشاعرة، وشهدة بنت أبي نصر الدينوري الكاتبة.
وغيرهن ممن يضيق بذكرهن المجلد، كل ذلك مع الحجاب والوقوف مع آداب الشريعة الغراء.
وإن أبا داود الطيالسي وحده روى عن سبعين امرأة.
لقد كان بالربض الشرقي من قرطبة، أيام بني أمية مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي.
وهذا الإمام ابن حزم الظاهري يقول عن نفسه في كتابه (طوق الحمامة): “وهن علمنني القرآن، وروينني كثيرا من الأشعار، ودربنني في الخط”. وكان في إشبيلية خمسمائة محبرة للنساء.
وعلى كل حال لما كان الإسلام متقدما زاهرا كانت المرأة كاتبة شاعرة، وهي محجبة، تبتدئ التعليم خارج المنزل وعندما تحتجب تكمل معلوماتها في منزلها أو تخرج لتلقيه في المساجد، محجبة.
ولما وقع التأخر وقع في الجميع، ولكنه كان في النساء أكثر وأظهر، وليس المراد انعدام تعلمها بل قلته فقط، فإنا نرى في أخريات الأيام، كان لا يزال بعض النساء عالمات، أديبات مثل:
السيدة حمدة بنت زيادة المكتب، من أهل وادي آش بالأندلس، نبيلة شاعرة كاتبة؛ قال في (الإحاطة): “من أهل الجمال والمال والمعارف والصون، إلا أن حب الأدب كان يحملها على مخالطة أهله مع صيانة مشهورة، ونزاهة موثوق بها”.
وكالأستاذة الأديبة الشاعرة، سارة بنت أحمد بن عثمان الحلبية ثم الفاسية، المتوفاة بفاس آخر المائة السابعة، أو أول الثامنة، كان لها شعر كثير وأدب وفير ينظر بعضه في الجذوة.
وأم هانئ بنت محمد العبدوسي الفاسية الفقهية المفتية، آخر هذا البيت من الفقهاء بفاس، توفيت سنة ست وثمان مائة، وأختها فاطمة كذلك، وغيرهن.
وانظر كتاب (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور) للست زينب بنت علي فواز العاملية السورية ثم المصرية، المطبوع بمصر على يد مؤلفته سنة 1312هـ.
فإنها ذكرت جملة من أديبات الجنس اللطيف، متقدمات ومتأخرات.
وفي جملة من أوروبيات وأمريكيات.
وانظر كتاب (شهيرات النساء في العالم الإسلامي) تأليف الأميرة المصرية قدرية حسين، المطبوع في مصر سنة 1343هـ، ففيه أديبات وعالمات من هذا الجنس اللطيف الإسلامي ينبغي الوقوف على تراجمهن.
وانظر كتاب (شهيرات التونسيات) لسيدي حسن حسني عبد الوهاب الوزير التونسي ـ المطبوع بتونس سنة 1350هـ.
كل هذا يدل على أن نساء الإسلام لم يزل فيهن عروق الحياة العلمية تنبض.
ولازال الرجال يغذون تلك العروق بمادة الحياة وخصوصا ذوي الأحلام الصائبة، والغيرة الصادقة، والشهامة الأدبية العلمية.
فالعلم والفضل والأدب لم ينقطع قط من نساء الإسلام، وإنما قل ورق عند تأخره وقلت فيهن من أسباب تأخر الإسلام.
ولقد أدركنا فاسا، قبل عهد الحماية، في جل حوماتها دور لتعليم البنات القرآن والكتابة والقراءة، وفيها معلمات صالحات، زيادة على دور أخرى تختص بتعليم الصنائع اليدوية الرقيقة المتنوعة (وكلهم يعلمها) تعليما ممزوجا بأدب المنزل، وكان في كل درب منها عدد ليس بقليل بحيث نقول عن تحقيق: إن جل بنات فاس كن يتعلمن الصنائع ويتهذبن وكثير منهن يتعلمن القراءة والكتابة ولا يبقى خلوا من التعلم إلا قليل.
وهكذا كانت الحواضر عندنا، كسلا والرباط ومراكش وتطوان والصويرة وغيرها من بلدان المغرب إلا ما قل.
بل تعليم الصنائع كان شائعا في جل البوادي.
وها أنتم ترون إلى الآن، فيها أنواع الزرابي، ومنسوجات الصوف من أكسية، وجلاليب وبرانيس وغيرها من مصنوعات النسوة مما لا يدرج في أي قطر أفضل منه، ولم تزل الحالة كما كانت إلى الآن.
والذي حدث على عهد هذه النهضة الأخيرة، عهد مولانا المقدس مولانا يوسف ذكرها الله له فيمن عنده وقدس روحه، وهو تكثير تلك الدور وتسميتها مدارس وتنظيمها تنظيما يساير الرقي العصري في سائر الأقطار الإسلامية وغيرها.
وكان المغاربة أزهد الناس في هذه المدارس التي فتحت للبنات حتى أن إداراة المعارف، لحرصها على التعليم، فتحت واحدة بفاس نحو سنة 1333هـ، وبقيت فارغة لم يقصدها أحد واضطرت لغلقها.
ولكن لما وقفوا في الأيام الأخيرة منذ سنة 1341هـ على حسن نوايا الحكومة حين أعربت لهم عما في هذا المشروع من المصالح الحيوية وعدم منافاتها للدين الإسلامي.
وفي المسامرة التي نشرت من قبل، عند ذلك أقبلوا عليها بتسابق ونشاط. فلا تفتح مدرسة الآن إلا وهي تمتلئ آخر الشهر الأول من عمرها حتى بفاس.
وقد زادت التلميذات في هذه المدة الأخيرة، على ثلاثة آلاف، وكل يوم في الزيادة، ولم تكن سنة 1341هـ عندنا إلا ثلاثة مدارس، لا تضم إلا 125 تلميذة، ففي مدة نحو ثمان سنين تضاعف عددهن خمسا وعشرين مرة، فإقبال المغاربة على تعليم البنات مدهش وهو أعظم من إقبالهم على تعليم البنين بكثير، إذ عدد البنين الآن يتجاوز 15000 ألف فقط، والحال أنه بدأ قبل سنة ثلاثين، فعمره ينيف عن اثنين وعشرين سنة مع عمومه في المدن وأكثر القرى، بخلاف تعليم البنات فإنه لم يزل في بعض المدن خاصة.
هذا، وإن العلم والتعليم زاد ازدهاره وأينعت ثماره، وزخرت معاهده، واتسعت مدارسه ومساجده، وانتشرت في الحواضر والبوادي، وفاخرت الأرض فلكها بنجوم المدارس والنوادي على عهد سيدنا ومولانا الإمام، وظل الله على الأنام؛ خلفية جده عليه السلام، مولانا محمد بن مولانا يوسف آدام الله نصره، وأعلى في الخافقين ذكره، فقد أصلح برنامج تعليم البنات، وصيره رسميا، وفتح لهن عدة مدارس، إذ زاد العلم ارتقاء، والإسلام نورا وضياء، ماله من الشغف العظيم بتعليم البنين والبنات.
وذكر ذلك أمر عياني لا يحتاج لإثبات.
أدام الله لنا، وللمسلمين، عزه ونصره وأولاه من المكرمات ما هو له أهل ووفقه وسدده وأعانه، وحفظنا في أنجاله الكرام وولي عهده الهمام آمين”[9].
قال:
“فحيث كان المسلمون متمسكين بنظامهم الإسلامي، موفين المرأة حقوقها في التعليم وغيره، سائرين على نهج القرآن والسنة لا على العوائد والمألوفات، كانت المرأة المسلمة أرقى نساء أهل الأرض.
ومنها تكونت تلك الأمة الماجدة الحافلة التاريخ والتي بشرت سكان المعمور بكل المكارم، ويطول بنا المقام أن نستقصي هنا تعليل الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه المسألة ببيت حكمتها، ولكن هذا الأنموذج كاف لأمثالكم ومقنع في الجملة وارد في نحر كل من ينتقد النظام الإسلامي المتعلق بالمرأة، وأكثر من رأي ينتقده ليس هو المرأة، بل المرأة المسلمة قابلة لنظامها حامدة مولاها عليه، وشاكرة، غير جاحدة، ولا سمعنا منها تأففا ولا شكوى منذ ثلاثة عشر قرنا مضت.
وقد بلغ الإسلام فيها شأوا في التقدم والمدنية لم تبلغه دولة من الدول بعده، تمدنا أدبيا أخلاقيا حقوقيا ونظاميا”[10].
نقد دعاة تحرير المرأة:
وهنا يوجه الفقيه سهام النقد إلى دعاة تحرير المرأة المستغربين؛ من أمثال: قاسم أمين والطاهر الحداد؛ فيقول:
“الانتقاد إنما وقع من الرجال وأقول، مع الأسف، ليسوا هم برجال أجانب يدعون الإسلام، وولدوا في الإسلام، ولكنهم حرموا لذته، وأشربوا في قلوبهم حب الشهرة، فراموا أن يشهروا أسماءهم في العالم، ولو بشر، فرفعوا عقيدتهم بتحرير المرأة جهلا منهم بنظام الإسلام الذي يزعمون أنه دينهم أو عنادا، والحال أنهم أرقاء، فهم هم أرقاء، ما تمتعوا بحرية حقيقية قط، ولا فهموا لها معنى.
ومع ذلك يزعمون أنهم يدافعون عن تحرير المرأة.
ومتى كانوا هم أحرارا، منذ وجدوا بعد؟
ومتى كانت المرأة رقيقة في الإسلام؟
بل المرأة قانعة بما قسمه لها الإسلام من الحرية، وبما اختارته لها الشريعة من الأحكام. والحرية المطلقة مذمومة، منافية لمكارم الأخلاق والنظام، ولابد لكل حرية من تقييد الدين والنظام والأخلاق ليقع الاعتدال، وإلا كانت فسادا وشرا مستطيرا.
ثم الرجال الأجانب، من أمم أخرى، الذين وقفوا على سر معنى الاجتماع، وما فيه من محاسن ومقابح يستحسنون نظام العائلة في الإسلام ويتمنون، لو يمكنهم أن ينالوه ولكن وجدوه بعيد المنال، بل من الأمم من يحسدنا عليه، فيغري هذه الطائفة الجاهلة على نشر دعاية تحرير المرأة، التي هي دعاية السفور والمروق من حظيرة الدين الحنيف والمهيع الشريف؛ فتجدها تذم الغيرة العربية، وتزين للأمة تزيينا شيطانيا سفور المرأة، وإنما السفور ويل وثبور على المرأة نفسها، ذاهب بشرفها وعائق لها عن أأداء وظيفتها، فسفور المرأة ناقص من جمالها، ومفتر لأشواق زوجها إليها وثقته بها ومزر بقيمتها بخلاف تحجبها الذي يزيد في شرفها بما لا يكون عند ابتذالها ولو كانت أبدع النساء جمالا وكمالا، وفي المثل العربي: (تمنع لعلك أن تنفقا).
وقال الآخر: (ولو لم تغب شمس النهار لملت) فضرر السفور على النساء ليس بأقل من ضرره على الرجال.
وها نحن نرى ما وقع في الأمم السافرة من سفالة الأخلاق، وفداحة التهتك، فترى بعض نسائهم برزن للعراء عاريات، غير كاسيات، كشفن الأطراف والصدور والثديين، بعد كشف الوجه والرقبة والساق والشعور، حتى ذهبن بكل شعور، فجعلن ذلك بالأصباغ والعطور والمصاغ، بل دخلن مغاطس الاستحمام في الشطوط البحرية مع الرجال، كتفا لكتف، في خفة حركة ذهبت بكل بركة، ونفث كلمات فتانة، ونظرات تجلب حسرات، تتسع معانيها، على معانيها، جهرا في الطرق العامة فجلبت كل طامة، على أن هذا في غير ذوات البيوت الرفيعة وأهل الاحتشام والمروءة منهم.
فهذا ما أدى إلى السفور، ببركة تحرير المرأة، مع كثرة البذخ الذي أوجب التبرج وذهاب الثروات الطائلة في ذلك، وخراب البيوت بإسراف النسوة في تبديل أنواع الزينة والتنميق والتنميص، والتزجيج، وبذل الأموال الطائلة في الأزياء والتزيين للبروز كل عشية، وكل ليلة للذهاب للمسارح وحفلات الرقص والتمثيل، فينشأ من اختلاطهن بالرجال من أنواع المصائب والمحن ما هو معلوم لديكم ومشاهد، وذلك بلا شك يثبط المرأة عن نهوضها ويشغلها عن القيام بالواجب ويبعدها عن بساطة العيش التي هي السبب الحقيقي لراحة الضمير.
ويؤبقها في محن البذخ، وأكدار الحياة هي وزوجها وقرابتها، ويشتت أفكار الشباب معها، ويوقعها في الخبال والمصائب ويؤخره عن الوصول للواجب الذي يطلب منه الفراغ قلبا وقالبا، والأمم الإسلامية في راحة ضمير من ذلك كله، نساؤهم قانعات مريحات مستريحات، ورجالهم كذلك، ومن هؤلاء من فتنت ببهرجة المدنية الكاذبة، وترك المدنية الحقة، فسقط مع الساقطين.
ولو أننا استقصينا ما يقع في الممالك المتمدنة، من القتل غيلة أو انتحارا، إما من رجل لنفسه أو لزوجته أو لها، ولأولاده ولمن تتهم به، لوجدنا أكثر تلك الجرائم مسؤوليتها على السفور الذي حار المفكرون العقلاء ذوو الغيرة منهم في مداواته أو ملافاته، وهيهات، خرج الأمر من يدهم، ودفعوا سلاحهم لجنس لطيف ضعيف، الويل من بطش الضعيف، هذه جرائم معلومة في العالم، وأكثرها إنما هو في الأمم المتمدنة، ولا تقع في الأمم الإسلامية إلا قليلا، وتكثر فيها بكثرة شيوع السفور.
فأعظم أسبابها هو السفور، وعليه مسؤوليتها العظمى، وعلى الدعاة إليه، والناشرين لمحاسنه التي لا يستحسنها عقل سليم، الزاعمين أن لا تمدن إلا به، ولا تقدم إلا بتحرير المرأة بمعنى مساواتها في كل حق حق.
ثم هذه المساواة، في أقل من لمح البصر، تتحول تدريجيا إلى تفوق المرأة على الرجل ثم تؤول إلى صيرورته في قبضتها، بل ربقتها وتحت رحمتها كما نشاهد في أوروبا ومن سلك مسلكها حتى تضيق بالرجل مذاهبه، وتعجز عن عجرفتها ودلالها حيله، ورجوليته، فلا يرى مندوحة في التخلص من نكد حياة مشوشة، وقلب متقلب متضجر، وعرض مثلوب، إلا بانتحار له وحده أو له ولعائلته.
إخواني، هذا ما يريد دعاة السفور إيقاعنا فيه لنصير في الهوا سوا، فلا بلغوا شيئا من مرادهم، وسحقا لهم وخزيا، وغضب الله عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، بل من الجهات الست يحيق بهم، يريدون أن يبدلوا نور الله ويتلاعبوا بالقرآن فهم في طغيانهم يعمهون، هم مأجورون للجمعيات السرية المضادة للأديان من حيث لا يشعرون أو من حيث يعلمون ويتعمدون.
إخواني، إن الإسلام أهلكته الخلافات والشنآن، وتشعب الآراء بين رجاله وتلون الأهواء، وقد شعر الإسلام بذلك وأنه سبب تأخره، فندم على ذلك لما رأى عاقبته، وأعرض عن ذلك في الجملة، فجاءت هذه الطائفة واخترعت نوعا جديدا من الخلاف، وهو إيقاع النفرة بين الرجال والنساء، فها هي تسعى وراء إيقاد هذه الفتنة الجهنمية باسم المدنية.
إخواني، إن كنا لا نستحق لقب التمدن، وعنوان المدنية والتقدم إلا بأن نخرج رياسة العائلة وزمامها من يد من يغار ويذب ويكد إلى يد أخرى، ونظلم الرجل حقوقه ونحمله أكثر مما يطيق، ولا نجعل له أدنى امتياز يجلله بجلال المهابة والاحترام ويعوض عليه بعض ما فقد، بل تصير المرأة مسيطرة عليه، وثائرة على الشريعة التي هدمها السفور، فنحن أزهد الناس في هذه الألقاب وأسرع تملصا منها، نحن لا نرضى إبدال لقب متدين بمتمدن، ولا ما نحن فيه من هناء العيش وراحة الضمير باسم تحرير المرأة، وفي الحقيقة استرقاق الرجل، وقلب نظام المجتمع الإسلامي، ونبذ الشريعة التي كفلت راحتنا وهناءنا منذ ثلاثة عشر قرنا ونصف، إننا نرى فرنسا، وهي الأمة التي سبقت أمم العصر إلى الديمقراطية والتسوية في الحقوق، ثم إنها إلى يومنا هذا والنساء يطلبن حقهن في هذه التسوية لينلن حظهن من كراسي النواب والشيوخ ومناصب الوزراء، وهي ممنوعات من كل ذلك، مع أنهن من أرقى نساء العالم في فنهن بما يفقن به أكبر رجال يتقدمون عليهن فيه[11].
قال:
“على أن عجبي لا ينقضي من رجل يزعم أنه مسلم، يؤلف كتابا إسلاميا يدعي أنه فيه جار على مهيع الدين الإسلامي ـ ملتزم بمبادئه ـ ولأنه مصلح وداع إلى إصلاح ديني اجتماعي يوافق نصوص القرآن.
ثم يزعم بأن الحجاب لا أصل له في القرآن، وأن ليس في القرآن إلا حجاب أمهات المؤمنين، ثم يروم أن يكتم القرآن، أو يحرف الشريعة لتطابق هواه، والقرآن يقول في سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ)[الأحزاب: 59].
وفي آيات أخرى، وأحاديث صحيحة تعلمونها، وفي هذه الآية مقنع، وفي سورة النور: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ)[النور: 31].
فإن كانت المرأة سافرة فأي فائدة بقيت في نهيها عن إبداء زينتها إلا لبعلها أو أبيها؟
فإن العلة في هذا النهي كله، أولا وثانيا وثالثا، ليس إلا للاحتراز من الفتنة والوقوع فيما ينافي عاطفة الحياء والحشمة، وفي الريبة وأي ريبة بعد سفور امرأة شابة حسناء فاتنة تزاحم الرجال بالمناكب وتمازحهم وتغانجهم؟
ولأي شيء خص الله القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا بقوله: (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ)[النور: 60].
فإذا كانت القاعدة التي لا ترجو نكاحا تلزم بعدم التبرج بالزينة، فكيف يسوغ لمسلم أن يزعم أن كل النسوة يسوغ لهن السفور الذي هو التبرج بكل مصائبه؟ وأرباب البصائر والتبصر يعلمون أنهن مهما أبيح اهن ما فيه شبهة إلا وارتكبن كل ما تسوله لهن أنفسهن من غير احتشام، والحق واضح وطريقه أبلج، (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)[النور: 46].
فقاتل الله دعاة السفور وأخزاهم، وأنزل عليهم من اللعنة ما أنزله على مفسدي الشرائع بالتبديل والقلب والتحريف”اهـ[12].
إشادة الحجوي بجدته ودورها فـي تكوينه وتنشئته:
ومن جميل ما يذكر عن الفقيه الحجوي الأب في هذا الموضوع؛ إشادته بجدته وأمه ودورهما في تكوينه وتنشئته:
قال في ترجمته لنفسه في “الفكر السامي” (2/377):
“ربيت في حجر سيدي الوالد والوالدة الصالحة القانتة، وكان لهما الاعتناء التام بتربيتي وتهذيبي، وإصلاح شؤوني إذ كنت أول مولد لهما، واستعانت الأم في ذلك بجدتي من قبل الأب، فكانت تحوطني، وتحنو علي أكثر من الأم بكثير، وما كانت تقدر على مفارقتي لا ليلا ولا نهارا.
هذه السيدة الجليلة القدر، كانت على جانب عظيم من التبتل والعبادة، صوامة، محافظة على أوقات الصلاة، حافظة لسانها وجوارحها عن الخروج عن عبادة الله تعالى، مكبة على طاعته، مشفقة على الضعفاء والمساكين، وذوي العاهات، مواسية من يستحق المواساة، فكانت أفعالها وأخلاقها كلها دروسا عملية علمية تهذيبية ينتفع بها من نفعه لله من العائلة كلها، أتلقاها عنها والفكر فارغ من غيرها، فكانت كنقش في حجر، وطالما رغبتني بأنواع ما يرغب به لصبيان في القيام باكرا، وإسباغ لوضوء للصلاة، والنظافة وحفظ الثياب، والاعتناء بكتاب الله، والمحافظة على أوقات المكتب، وحب المساكين، ورحمة الضعيف، وهجر كل ما ليس يستحسن في الدين، وبث روح النشاط في الحفظ والتعليم، فهي التي غرست في قلبي عشق العلم، والهيام بحفظ القرآن العظيم، واعتياد الصلاة، والارتياض على الديانة بحالها ومقالها لما كانت عليه من صالح الأحوال، ومتانة الدين من علم واعتقاد متين.
فمرآة أخلاقها وأعمالها في الحقيقة أول مدرسة ثقفت عواطفي، ونفثت في أفكاري روح الدين والفضيلة، فلم أشعر إلا وأنا عاشق مغرم بالجد والنشاط، تارك لسفاسف الصبيان، متعود على حفظ الوقت ألا يذهب إلا في ذلك، شيق إلى كل تعلم وتهذيب، لا أجد لذلك ألما ولا نصبا، بل نشاطا وداعية امتزجت باللحم والدم.
لذلك كان حفظي للقرآن والمتون قبل أقراني بكثير وبدون عناء كبير، بل في الختمة الأولى حفظت الكتاب العزيز تقريبا، وما زدت الثانية إلا لزيادة الضبط وحفظ الرسم عن نشاط ومحبة داخلية في الضمير المتشوق بالأمل المنساق بعاطفة حب المعالي، وحب أداء الواجب الذي لأجله خلقت حسب ما تلهمني إليه عاطفتي لا بإلزام خارجي … أذكر هذه الحلقة من حياتي، ويعلم ما أقصده من ذكرها كل من له إلمام بفن التراجم هذه الحلقة التي يغفلها كثير من الباحثين والمؤلفين منا …
إن تأثير هذه التربية الأولى على حياتي هي التي أوضحت لي أن تربية الأمهات لها دخل كبير في تهيئة الرجال النافعين، وإعداد الأمم للنهوض؛ لذلك أرى وجوب تعليمهن وتهذيبهن تعليما يليق بديننا، ويزين مستقبل أولادنا، ويصيرهن عضوا نافعا في هيأتنا الاجتماعية، فلا غنى لله لنا عن إعانتهن في تربية رجال المستقبل الذين عليهم مدار حياة البلاد، وتعليمهن فن التربية، ونظام البيت، وقواعد لصحة والدين، وحفظ القرآن أو بعضه والحساب والجغرافيا والتاريخ والعربية، والأدب الحقيقي لا الخيالي؛ ونحو ذلك مما يعينهن على مهمتهن، ويضيء لهن الطريق ..
هذه هي حياتي مع جدتي جازاها الله عني بأفضل ما يجازى به المحسنين، وجازى والدتي التي كانت معينة لها في مهمتها، موافقة على كل أفكارها وأعمالها، معترفة في ذلك بفضلها”اهـ.
ختاما أنوه:
إذا كان الحجوي الأب قد ناضل من أجل “حق المرأة في التعليم” بصفته أساس التنمية والمدخل إلى باقي الحقوق ..
فإن ابنه المهدي (1904 / 1965) قد أكمل هذه الخطوة الإصلاحية؛ بإبراز أهم ما منحتها الشريعة من حقوق في باقي المجالات الأسرية والمالية والمدنية والسياسية؛ كما شرح ذلك في كتابه “المرأة بين الشرع والقانون”.
وقد طبعنا هذا الكتاب سنة 2017 مع تعليقات كاشفة ودراسة مطولة.
وقصدي من هذا التنويه الإشارة إلى الدور الريادي الهام للفقيهين الحجوي في مجال الإصلاح التنموي والنهضوي، ويمكن أن نضيف إليهما ابن عم المهدي: أحمد الحجوي؛ وهو كاتب وأديب وشاعر، قرأت له عدة مقالات فيها نفس عمه الحجوي الثعالبي، وابن عمه المهدي.
رحمهم الله جميعا وشكر مساعيهم الحميدة للإسهام في النهضة المغربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1*] ترجم الحجوي لنفسه في “الفكر السامي”، وعرفت به الأستاذة آسية بن عدادة في الدراسة التي أعدتها في كتابها “الفكر الإصلاحي في عهد الحماية –محمد بن الحسن الحجوي نموذجا- “، وحرر له الدكتور بن عزوز ترجمة جيدة في أول كتابه: “دفاعا عن الصحيحين”.
[2] انظر أسماء مؤلفاته والتعريف بها في دراسة الأستاذة آسية بن عدادة.
[3]– ينظر في هذا الموضوع تأليف لطيف للعلامة المنتصر الكتاني رحمه الله بعنوان: “استقلالية الفكر في الإسلام”، وقد طبع بعناية الأستاذ البحاثة حمزة الكتاني.
[4]– انظر نص مشروع الحجوي عند محمد عمراني؛ جامعة القرويين فيما بين 1914 و1934؛ الملحق 6؛ (ص 369- 392).
[5]– انتحار المغرب الأقصى بيد ثواره، (ص75).
[6]– الحجوي، مخطوط رقم: (ح127)، ص269، نقلا عن كتاب: نظرية التحديث في الفكر المغربي للدكتور حميد الصولبي (ص 69).
[7]– من كتاب: تعليم الفتيات لا سفور المرأة. (ص 59).
[8]– من كتاب تعليم الفتيات لا سفور المرأة (ص 60- 61- 62).
[9]– من كتاب: تعليم الفتيات لا سفور المرأة (ص 101 إلى 117).
[10]– من كتاب تعليم الفتيات لا سفور المرأة (ص 84).
[11]– من كتاب تعليم الفتيات لا سفور المرأة (ص 86 إلى 92).
[12]– من كتاب تعليم الفتيات لا سفور المرأة (ص 93ـ94).
شكرا على هذه المعلومات القيمة على جدي رحمة الله عليه الفقيه محمد الحجوي .فانني افرح لما ارى من زمان و الى الآن مدى تاثير محاضراته و كتبه و علمه في المغرب و العالم العربي و الاسلامي .