بلال التليدي: ابن تيمية يعوض رسالة الدكتوراه

24 أغسطس 2023 17:20
رسالة أم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهما الله- حين اعتذر لها عن بعده عنها

هوية بريس – بلال التليدي

سنة 1996 كانت استثنائية بكل المقاييس. كان علي ان اجتاز ثلاث امتحانات دفعة واحدة…الأول لنيل شهادة استكمال الدروس بكلية الآداب بالرباط.. والثاني امتحان نيل شهادة الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية (شهادة التخرج) والثالث امتحان التخرج من المدرسة العليا للأساتذة التي توجهت إليها اضطرارا بعد موت الوالدة سنة 1995 ومرض الوالد بالديال الدموي…

من حسن الحظ ان امتحان كلية الآداب كان في شهر أكتوبر، وقد اجتزته بامتياز، وتداخل الامتحانان الآخران في الزمن، فوجدت مساعدة من أساتذة كرام في تكييف زمن اجتياز الامتحان الشفوي، واجتزت العقبة بسلام وامتياز…وبدأت انتظر مقر تعييني..
كان التعيين مؤلما، فقد كتب علي ان أتوجه صوب مدينة البرد الشديد، ازيلال التي كان يتهيبها الاساتذة، وهناك أخبرت من نيابة التعليم ان مقر تعييني هو مدينة دمنات..

كان الطريق إليها شاقا. ركبت الحافلة المتوجهة من القنيطرة إلى ازيلال. ثم ركبت سيارة اجرة إلى دمنات.. قضيت ما ينيف عن إحدى عشر ساعة في الطريق..كان السائق يزرع كاسيت غناء خاص بشيخات كل منطقة يصل اليها.. ومن سوء حظي ان حفظي كان سريعا يلتقط كل ما يصل إلى اذني. فتحملت في هذه الاسفار حفظ تلك الاغاني التي لا استعذبها وذلك رغما عني..

قبل الذهاب إلى دمنات سألني الوالد ان كنت احتاج لبعض المال، فقلت له ان معي ما يكفي..وكان في جيبي ستمائة درهم فقط..
وصلت إلى دمنات، والتقيت عددا من المعلمين..

كان المشهد حزينا، فاغلب الذين تم تعيينهم في الجبل بعيدا عن مدينة دمنات كانوا يدرفون الدموع ويتحسرون، وبعضهم كان يصيح بالقول: كيف اقضي العام كله في هذا المكان الموحش ولا احمل في جيبي سوى خمسة الاف درهم…كنت اضحك على نفسي، انا المقدم على الكراء في المدينة. وليس لي ما يكفي لسومة شهر واحد دون سؤال عن الأكل والشرب..

سهل الله اخوة افاضل كانوا مثالا للتضحية والاخوة والمحبة، فقد وصل صيتي الى المدينة قبل وصولي. ووجدتهم يفتحون كل الأبواب من اجل استقبالي…

المشكلة التي طرحها هذا التعيين، انه اجل جزءا جوهريا من طموحي في اتمام دراستي وإنجاز الدكتوراه رغم محاولات عدة لم تنجح..

أيقنت بعدها ان البعد، وقلة ما في اليد، ومشقة المهنة في وسط فقير يهفو إليك تلاميذه محبة وتقديرا وشوقا في العلم والتعلم. أيقنت ان هذا الوسط لا يساعد على التفكير في الذات…في الدكتوراه..

رجعت إلى نفسي، اطرح السؤال عن البديل… فالبيئة الجبلية الباردة تبعث على نظم الشعر وقراءة كتب الادب. وعالم الوحدة يدعوك للزواج..والشوق للعالي من العلم يطلبك طلبا للتفرغ لشيء ما..

كان الجواب في دمنات: التفرغ لنظم نوع جميل ذاتي من الشعر لم اتقاسمه الا مع قلة قليلة، والتفرغ لمدارسة ثلاثة أعلام: الشاطبي في الموافقات والاعتصام. وابن القيم في الإعلام والمفتاح. وابن تيمية في الفتاوى ودرء تعارض العقل والنقل..

تشرفت تلكم السنوات بتدريس شيء من مصطلح الحديث مما حصلته بدار الحديث، وقصدت أداء حق الزكاة منه كما كان يقول صديقي الولي الصالح لنداني، وفتحت بيتي طوال ثلاث سنوات استقبل المعلمين النازلين من الجبل خلال عطلة نهاية الاسبوع.

كان البيت يضج بالمعلمين، الذين يصل عددهم احيانا الى عشرين معلما، نتناول وجبة الغذاء والعشاء جماعة بالتقاسم. ونستثمر المساء وما بعد المغرب والعشاء لجلسة فكرية او ايمانية أو مشاهدة شريط فيديو للمقرئ الإدريسي ابو زيد أو أحد أعلام الحركة الإسلامية…

وكان من بركات وجودي بهذه المدينة تأسيس جمعية القلم التي احدثت فارقا كبيرا في النشاط الثقافي بهذه البقعة البعيدة عن عالم الاضواء.
في مدينة دمنات. تأجلت الدكتوراه، لكني ربحت تراث ابن تيمية الذي قرأت منه الدرء كاملا واكثر من عشرة مجلدات من الفتاوى، وربحت رفقة ابن القيم و الشاطبي، وفوق هذا وذاك، ربحت اخوة كرام قل نظيرهم في المحبةو الادب والأخلاق والتضحية والبذل…

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M