بيان مغالطات أحمد عصيد في رده على الدكتور مصطفى بن حمزة

20 مارس 2024 17:25

هوية بريس – عبد الكريم المحيحش

نشر  المدعو أحمد عصيد خلال هذا الأسبوع، مقطع فيديو، يرد فيه على بعض ما ذكره الدكتور مصطفى بن حمزة، في حواره الأخير مع الصحفي حميد المهداوي، حول إصلاح مدونة الأسرة، وقد وقف عصيد في هذا المقطع المصور، عند جملة من القضايا التي أثارها الدكتور مصطفى بن حمزة، محاولا مناقشتها والرد عليها، وتوضيح ما أسماه سوء الفهم لعدد من الأمور، غير أن ما لفت انتباهي في كلام أحمد عصيد، هو عدم التزامه بالموضوعية والدقة العلمية اللازمة، والتجرد من النزعة الإيديولوجية التي طبعت موقفه من مجمل ما ذكره الدكتور مصطفى بن حمزة، ولذلك فقد ارتأيت أن أكتب هذه السطور على عجل؛ لأبين بعض المغالطات والتناقضات التي وقع فيها أحمد عصيد، وذلك من خلال النقط التالية:

أولا: في سياق رده على ما ذكره الدكتور مصطفى بن حمزة عندما أكد على أن النقاش حول مدونة الأسرة يجب أن يكون نقاشا علميا، تساءل عصيد في هذا الصدد عن ماهية العلم، معتبرا أن مفهوم العلم يجب أن يتحدد انطلاقا من السياق المعاصر، إذ لا يمكن فهم العلم -بحسبه- استنادا إلى ما قيل منذ ألف سنة، وبناء على ذلك فقد قرر بمجازفة كبيرة وبنوع من الوثوقية الزائدة عن اللازم، بأنه ليس هناك قواعد للتفكير يمكن أن تبقى ألفا ومائتي سنة دون أن تتغير، ويعتبرها الناس هي المعيار للتمييز بين الصحيح والخطأ.

ولا يخفى ما في هذا الكلام من سفسطة بيِّنة، لأن ما نعلمه جميعا هو أن العلم عبارة عن قواعد كلية ثابتة لا تتغير ولا تتبدل مع الزمن، والذي يمكن أن يتغير في العلم ويخضع للتعديل والمراجعة، هو ما يمكن أن يقع فيه من أخطاء، والأخطاء ليست من العلم في شيء، هذا أولا، وثانيا، فإنه لو لم تكن هناك قواعد ثابتة في العلم لما أمكن أن يكون هناك علم أصلا، لأن العلوم إنما تتحدد انطلاقا من قواعدها وأسسها العلمية الثابتة، ولو لم تكن هناك أسس ثابتة في العلم لما أمكن أن يحصل اتفاق حول شيء من المعرفة، وهكذا فإن العلم الشرعي هو كغيره من العلوم الأخرى، له مجموعة من القواعد والأصول التي لا يطالها التقادم، ولا تتغير بتغير الزمان والمكان.

ثانيا: في نفس السياق اعتبر عصيد أن أول شرط للنقاش العلمي، هو مراعاة الواقع الإنساني، مشددا على أن الذي ينكر الواقع ولا يريد أن يسمع للأرقام والمعطيات الواقعية، وللتطور الحاصل في الواقع، لا يمكن أن يكون عالما، لأن القواعد التي يملكها ويعتقد أنها علم، إذا لم تطابق الواقع، لا تستطيع أن تفسره، ولا أن تمده بالحلول اللازمة.

وبصرف النظر عن المبالغة التي يحملها هذا الكلام، فإن عصيد بهذا يناقض نفسه، إذ كثيرا ما نسمعه يؤكد على أن المثقف يجب أن يكون متحررا من ضغوط الواقع، لأن المثقف -في نظره- هو الذي يغير الواقع ويؤثر فيه، ويسهم في بنائه وتشكيله، أي أنه هو الذي يصنع النموذج الذي يجب أن يكون عليه المجتمع، وهو الذي يوجه الأحداث والمواقف في الاتجاهات التي يريدها، فكيف يمكن إذن أن يكون المثقف مذعنا للواقع بالكلية، ومؤثرا فيه في الوقت نفسه؟

ثالثا: اعتبر عصيد أن الدكتور مصطفى بن حمزة وغيره من فقهاء العصر مجرد مقلدين، يجترون فقه العصور المتقدمة، وبالتالي لا يمكن أن يقدموا حلولا واقعية لمشاكل اليوم.

ولا أدري كيف أمكن للسيد عصيد أن ينكر على غيره ما لا ينكره على نفسه، فنحن نعلم أن عصيد وأمثاله من العلمانيين العرب، هم أنفسهم مجرد مقلدين يستوردون الأفكار والتصورات والحلول الجاهزة المقطوعة الصلة بالواقع الثقافي والديني لهذه الأمة، ويحاولون استنباتها بكل الطرق الممكنة في البيئة الإسلامية، دون اعتبار للبون الشاسع بين النسقين الغربي والإسلامي، وهذا في نظري يعد من أسوء أنواع التقليد وأبعده عن مراعاة الواقع.

رابعا: وحول ما ذكره الدكتور مصطفى بن حمزة، بخصوص مفهوم الحداثة، اعتبر عصيد، أن المفهوم الذي قدمه مصطفى بن حمزة للحداثة، عندما عرفها بأنها الإلغاء الكلي للدين، من أغرب التعريفات التي سمعها عن مفهوم الحداثة، مضيفا أنه لو كانت الحداثة تعني الإلغاء الكلي للدين، لما كانت المسيحية أكثر الأديان انتشارا في العالم، ولما كان الناس يصلون في الكنائس في أوروبا وفي المجتمع الغربي بشكل عام.

وبالرغم من عدم إدراك عصيد لمقصود الدكتور مصطفى بن حمزة، إذ أنه قصد بالإلغاء الكلي للدين، إلغاءه من الحياة، وليس من الكنائس والمساجد، لأن وجود الدين في الكنائس والمساجد، لا يعدوا أن يكون وجودا صوريا لا قيمة له ولا وزن، بالرغم من عدم فهمه لهذا المقصود، فإن كلامه هذا يتضمن سوء فهم آخر، ناتجا عن عدم إدراك الفروق الجوهرية بين الإسلام والمسيحية، فالإسلام كما هو معلوم، نظام متكامل يشمل مختلف جوانب الحياة الإنسانية، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، ومن ثم فإن أي إلغاء لجانب من هذه الجوانب يعتبر إلغاء للدين بالكلية، لأن الدين في التصور الإسلامي، هو كلٌّ لا يتجزأ، إما أن تأخذه كله أو تتركه كله، أما أن تؤمن ببعض الكتاب وتكفر ببعض، فهذا مما لا يصح في التصور الإسلامي لمفهوم الدين.

خامسا: ذكر عصيد أن العلمانية لا تسعى إلى إسقاط الدين، وإنما تعتبره شأنا فرديا لا علاقة للدولة به، لأن المواطنين مختلفين من حيث الإيمان وعدمه، وحينما تضع الدولة قانونا للمؤمنين، فإنها بذلك تقصي الطرف غير المؤمن، ومن ثم فإنه يجب على الدولة أن تضع قانونا يشمل المؤمن وغيره، حتى تتمكن من ضمان كرامة الجميع.

ونحن نعتبر بأنه ليس بالضرورة أن تكون الدولة علمانية حتى تضمن حقوق الجميع، فالدولة المغربية على سبيل المثال، هي دولة دينية قامت منذ نشأتها على إمارة المومنين، وعلى البيعة الشرعية، وبالرغم من التنوع العرقي والديني الذي عرفه المجتمع المغربي إلا أن الدولة المغربية استطاعت أن تضمن حقوق الجميع دون تمييز أو إقصاء، في الوقت الذي نجد فيه دولة علمانية مثل فرنسا تعيش فيها الأقليات المسلمة كافة أشكال التهميش والإقصاء، مما يدل على أن الدولة العلمانية ليست ملكا للجميع، كما يزعم عصيد وأمثاله، وإنما هي خاصة بطيف محدد اللون والعرق والجنس.

سادسا: اعتبر عصيد أن الأسرة في الغرب لم تتفكك بسبب حرية المرأة، أو بسبب المساواة، وإنما تفككت بسبب الفردانية وبسبب الحياة المادية التي طغت على الجانب الإنساني والعاطفي.

وهذا القول ليس فيه شيء من الصحة، لأنه إذا نظرنا بعين المدقق في الأمور، نجد أن الحرية بمفهومها الغربي مرتبطة ارتباطا عضويا بالفردانية، وهل الحرية الفردية التي يدعوا إليها عصيد إلا نوع من أنواع الفردانية؟ وهل المساواة في الإرث، التي يطالب بها عصيد إلا مظهر من مظاهر هيمنة الجانب المادي على الجانب الإنساني والعاطفي؟

سابعا: ذكر عصيد بأنه إذا لم يتمكن مصطفى بن حمزة وغيره من العلماء، من الاجتهاد وإيجاد الحلول المناسبة لهذا الواقع، فإنه بإمكانه هو ومن معه أن يجدوا الحلول المناسبة لكل المشاكل الراهنة، وذلك بالاعتماد على منظومة حقوق الإنسان.

وهذا الكلام مع الأسف الشديد لا ينبئ إلا عن استلاب حضاري، وتكريس للهزيمة أمام الطرف القوي والمهيمن، الذي لا يمكن أن يقبل بحال من الأحوال أن تكون هناك نهضة حقيقية في المجتمعات الإسلامية، لأن نهوض هذه المجتمعات يعني سقوط الحضارة الغربية، وإذا لم يكن عصيد يدرك هذه الأبعاد والحيثيات، فإن الطرف الآخر يدركها، بل ويعمل ليل نهار على تفكيك أي مشروع مواز لمشروعه الحضاري، بما في ذلك المشروع الإسلامي. ثم إن هذه المنظومة الحقوقية الكونية التي يتغنى بها عصيد ويرفعها إلى مستوى القداسة، وكأنها الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، هي من صنع أناس يصيبون ويخطئون، وهي نتاج قدرات بشرية قاصرة لا تستطيع أن تدرك مختلف دقائق الحياة الإنسانية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذه المنظومة الحقوقية لا تعكس رؤية الإنسان كل الإنسان، وإنما تعكس رؤية الإنسان الغربي على وجه الخصوص، فهي بكل بساطة نوع من الدعاية للنموذج الغربي الذي يراد له أن يكون هو النموذج الحضاري المهيمن، الذي يقود العالم ويوجه حركة المجتمعات الإنسانية بشكل عام، وهذا في نظري يعد من أشد أنواع الإقصاء، لأنه إلغاء لوجود الآخر. فضلا عما تشكله هذه المنظومة من تهديد للخصوصيات الدينية والثقافية للمجتمعات البشرية، هذه الخصوصيات التي تعد في معظمها ثروة رمزية مهمة جدا، يكون من غير المنطقي مصادرتها بهذه البساطة.

ونحن إذ نقول هذا، لا يعني أننا ضد حقوق الإنسان، ولكننا نقول، يجب أن ننظر في هذه الحقوق بعين الناقد الفاحص، فنأخذ منها ما يوافق ديننا ومعتقداتنا، ونترك ما نراه مخالفا لذلك، وبهذا نكون قد انفتحنا على هذا السياق الكوني، دون أن نفقد هويتنا وخصوصيتنا الثقافية والحضارية التي تميزنا عن غيرنا من المجتمعات الأخرى.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M