تحرير قول السادة المالكية في تحريم يسير الفوائد البنكية (برنامج انطلاقة أنموذجا)

22 فبراير 2020 20:38
أسنى المقالات في تقويم فتوى المقاولات

هوية بريس – معتز العراقي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحابته والتابعين له والسائرين على نهجه المقتفين أثره إلى يوم الدين وبعد :

فهذا تحرير للقضية التي شغلت الرأي العام المغربي خاصة والعربي عامة في قضية الفوائد المخفضة على القروض البنكية لدعم المشروعات الصغيرة .

وقبل الولوج لأصل القضية وتحرير محل النزاع فيها وعرض الأدلة التي بنى عليها القائلون بالحل ومناقشتهم يحسن بنا التقديم ببعض المقدمات الممهدات لمثل هذه القضايا التي هي من النوازل الفقهية الشرعية التي تعرض كثيرا لنا في حياتنا اليومية .
أولا: ظهرت النازلة في بيئة مغربية – وإن كانت النازلة غير خاصة بالمغرب – المفروض أن مذهبها الرسمي هو المذهب المالكي وجُل من تكلموا في النازلة علماء أفاضل متبوعين ينسبون أنفسهم للمذهب المالكي أصولا وفروعا ويفتون عامة الناس به ويتعبدون هم أنفسهم بتقليد المذهب المالكي ، غير أنه من العجيب أن عرض تلك النازلة على المذهب أصول وفروعا وتخريجا وتطبيقا من قبل السادة العلماء كان بعيد عن الأصول والقواعد الضابطة الحاكمة للمذهب وهو ما سنوضحه مشفوعا بما نعتقد فيه ونراه من أصول المذهب وندلل عليه من أقوال السادة المالكية في كتب الفروع الخاصة بهم بمشيئة الله تعالى .

ثانيا : المعروف عن المدرسة المقاصدية المعاصرة وعن أعلامها في المنهج العلمي الكلي في التعامل مع النوازل وحتى جزئيات المسائل والفروع المنصوصة عند فقهائنا توسعهم الشديد في التعليل والتقصيد دون ضوابط حاكمة على أصول المذهب ولا على مقتضى الصناعة الأصولية والفقهية التي يتميز بها المذهب المالكي ، إنما قواعد غير مطردة وحِكم شرعية غير منضبطة ولا يخفى عليكم الفارق الكبير ما بين العلل والحِكم الشرعية في ابتناء الأحكام عليها .

ثالثا : وهذا فرع عن سابقه وهي قضية من يمتلك تحديد قدر الضرورة ومقدار المصالح ؟! ومن هو القائم بتعريفها وتنزيلها وتطبيقها على آحاد المسائل ؟! أيحسن تمام هذا دون ضابط شرعي واضح أو قواعد علمية مضبوطة وصارمة حتى لا نفتح باب للهوى والتشهي ؟!

رابعا : الحقائق الشرعية منوط تحديدها حصرا للشارع ولا يمكن لأحد أن يكون له رأي فيها إنما هو قول أو فعل أو تقرير للنبي صلى الله عليه وسلم بوصفه شارعا أو مبلغا عن الشارع رب العزة تبارك وتعالى ، وما يفعله فقهاؤنا من تصرفهم في كليات المسائل أو جزئياتها إنما هو محض إحالة منهم للوصول لمراد الشارع والقرب من الحقيقة الشرعية التي يريدها في الجزئية المبحوثة في مادة الفقه وهذا تنبيه عزيز قل من يتنبه له وسيكون من مدارات التحرير للرد على الفتاوى المبحوثة في النازلة المعروضة .

خامسا : قد يُأتى الفقيه وغالبا ما يؤتى فضلاء العلماء وفقهاؤهم من تصور المسألة تصورا حقيقيا لا غبش فيه وبالتالي يؤتى على كافة الخطوات الفقهية بعد التصور إما بالنقض لو كان التصور غلطا او منقوصا أو يستمر الفقيه في حسن التعامل مع النازلة تدليلا وتعليلا وتنزيلا إذا صح تصوره وهذا ما سيظهر جليا في معرض الكلام عن النازلة المبحوثة .

بعد هذه المقدمات ندلف إلى صلب الموضوع فنقول مستعينين بالله العظيم .

تصوير المسالة :
البرنامج المندمج لدعم تمويل المقاولات “انطلاقة” هو برنامج يهدف إلى تقديم مجموعة جديدة من منتجات التمويل لفائدة كل من المقاولات الصغيرة جداً والشباب حاملي المشاريع، والعالم القروي، والقطاع غير المهيكل بالإضافة إلى المقاولات المصدرة ، وتبلغ التمويلات الممكنة للمشاريع في إطار هذا البرنامج الجديد حوالي 1.2 مليون درهم (120 مليون سنتيم)، بنسب فائدة مخفضة وغير مسبوقة محددة في 2 في المائة للمستفيدين في الوسط الحضري و1.75 في الوسط القروي.

والصحيح على مقتضى طريقة الفقهاء المتبوعة يقتضي على السادة العلماء الأفاضل الذين تصدوا للحكم على النازلة أن يراجعوا حقيقتها ويدققوا في أمرها قبل الحكم عليها ، والعجب أن بنك المغرب قد نشر على صفحته الرسمية على اليوتيوب مؤتمرا صحفيا بلغ ساعتين وعشر قائق تناولوا فيها المسألة المبحوثة بشكل تقني فني مفصل وربما لو شاهد العلماء الأفاضل هذا المؤتمر لرُفع كثير من الإشكال وزالت كثير من الأوهام ، ولا يخفى على الأفاضل القاعدة المطردة بأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره .

وقد ذُكر في المؤتمر أمران أثنان صراحة هم محل حديثنا وما يعنينا :

1- ذكر السيد وزير الاقتصاد والمالية أن هناك ثمة مرسوم للصفقات العمومية قد دخلت عليه عدة تعديلات ومنها زيادة النسبة المئوية الربحية من 20 الى 30 % المفروضة على مثل هذه القروض الممنوحة للتعاونيات والمقاول الذاتي وقد علل وزير المالية في المؤتمر أنه لم يكن هناك ما يكفي من الأليات للتقييم سابقا وقد أدخلوا تلك التعديلات مؤخرا لعدم ضبطهم لأمر في بدايته فزادوا تلك النسبة .

2- أن والي البنك المغربي تحدث صراحة عن أن البنوك حين تقبل المشروع فهذا دليل على أن المخاطر التي تعود على المشروع قليلة وأن البنك قبله من أجل قلة تلك المخاطر التي لا تعود على فائدته بالضرر ولو كانت الفائدة قليلة ، كما صرح كذلك بأن النسبة الموضوعة على القرض هي نسبة ربحية تتناسب مع حجم المال الممنوح للمقترض وكل ما تابع البنك المشروعات التي مولها ودبر حاله في الملاحظة الدقيقة لها تكون الربحية له ولو كانت قليلة مناسبة حسب حجم القرض المعطى لكل مشروع وليس في هذا أي ضرر بالسياسية النقدية وهذا كلام دقيق في فهم وتصور المسألة .

3- لم يتحدث أي من الحاضرين سواء الوزير او والي البنك أو غيره بأي شكل عن كون النسبة المفروضة نسبة إدارية توضع من أجل موظفين أو خبراء يتتبعون تلك المشاريع ويقومون عليها .

من مجموع تلك التصاريح من ذوي الشأن يتضح لك أن الوزارة ذاتها تقول بأن مشاريع سابقة احتيج فيها لتغير النسبة المفروضة على القرض لعدم ضبط الأمر في أوله وهو عين ما يخشاه القائلون بالحرمة في هذه النازلة وسدا للذريعة جريا على أصول المذهب في نفس المشروع الجديد وهو القروض المندمجة مخفضة الفائدة إذ ما هو الضامن الحقيقي بعدم تعرض ذاك المشروع للتعثر وعدم ضبطه كما كان في سابقه فتزداد النسبة التي يعتمد عليها المبيحون بأنها ضئيلة .

الأمر الآخر فإن تصريح والي البنك المغربي بأن تلك الفائدة هي موضوعة لكونها فائدة لا شيئا آخر ولم يصرح بأنها نسبة ضئيلة ولا غيره بل أشار لأنها مناسبة مع المعروض من القروض .

بعد أن صورت لك المسالة من كلام الخبراء أصحاب المشروع ذاته وعرفت من كلامهم أن الفائدة المفروضة إنما هي للنفع الذي يعود على البنك المقرض نبدأ الآن بالتعرض للتعليق على الفتوى وتنزيلها على كلام الخبراء
التدليل للمسألة ونقاشه :

أولا :
العالم الفاضل صاحب الفتوى لم تضح عنده صورة القرض محل المسألة ولا صورة الفائدة الموضوعة وأكتفى بتصويره بين بين ،فقال إما أنه قرضا حسنا أو يقترب من مبدأ القرض الحسن ، ثم عقب بأنه من الواضح أنه ليس قرضا ربحيا وهذا عكس ما نُقل في المؤتمر الصحفي أصلا وكان يتوجب على الشيخ حفظه الله ومن أيَده في فتواه تتبع هذا قبل العجلة في الحكم ، ثم بدأ الشيخ حفظه الله في التبرير لكون وجود فائدة إن كانت موجودة ولو بسيطة بكون تلك الفائدة مخصصة للأعمال الإدارية والموظفين الذين سيوكلون بتتبع المشروع وهذا تبرير يساق في غير محله فلم يأت علي ذكره وزير المالية ولا والي البنك المغربي أصلا ولم يقل أحدمنهم أن هذه النسبة مرصودة لهذه الأعمال .
التبرير الآخر الذي ساقه الشيخ حفظه الله أن هناك عوارض تعرض للمقترضين من وفاة أو إفلاس أو ما شابه وربما تخسر تلك البنوك فلابد من ضمان هذه القروض بفرض نسبة ولو بسيطة على هذه القروض ، وهذا باب يفتحه الشيخ على مصراعيه للربا ليس فقط للمؤسسات بل حتى للأفراد إذا طردنا علة الشيخ حفظه الله في ضمان حق المقرض من العوارض التي تعرض للمقترض من الوفاة أو الإفلاس وغيره .

كما ذكر الشيخ أن النسبة المعروضة قد تكون لتغطية ما يمكن من تغير للعملات والتضخم إلى آخره وهو بذاته عين ما حذر منه القائلون بالمنع لهذه النسبة البسيطة فمع التضخم الحاصل وطول مدة السداد تصبح ال2 % حقيقة زيادة عن هذا الرقم بكثير إذا وضع بالاعتبار هاتيك العوامل .

ثم يقول الشيخ حفظه الله أن الربا يكون في التربح من القرض فلو لم يكن هذا التربح فهو قرض إحسانيا إنسانيا وهذا من جملة الغلط في التصور للنازلة منه حفظه الله فالقرض ربحيا وبنص كلمة والي البنك المغربي ، ثم يبالغ الشيخ في الاضطراب فيقول * وعلى كل حال فـإن كان ثمة ربح قليل فهو ربح اقرب منه للحل وأقل في الإثم والحرمة *
والحقيقة هذا القول لا يصدر من مثل الشيخ الفاضل فلا فارق هنا بين الربح القليل والكثير كما سنوضح في ضبط قاعدة (كل قرض جرّ نفعا فهو ربا).

حول شرح القاعدة السابقة :

يرِدُ كثيرا في كتب الفقهاء الاستدلال بهذه القاعدة ، وجاء إيرادُهم لهذه القاعدة على عدّة وجوه؛ فمنهم مَن يورِدُه على أنّه حديثٌ مرفوع ، ومنهم مَن يورده على أنّه أثرٌ موقوفٌ على الصحابة، ومنهم مَن يسوقه على أنّه قاعدةٌ متقرّرةٌ عند العلماء وأهل الأصول. والحديث عن صحة هذه القاعدة من كونها حديثا أو عدمه فيها من الأخذ والرد ما لا يخفى على طلبة العلم والمهتمين بمثل هذه الأبواب في الدرس الفقهي عموما وهذا ليس مدار بحثنا ، لكن ما يعنينا في هذا البحث أن جمع من أئمة مذهبنا الفقهاء رضوان الله عليهم قد قرروها وتداولها في كتبهم التي هي من أعمدة المذهب ومنهم على سبيل المثال :
1- ابنُ عبد البَرّ في الاستذكار.
2-محمد بن يونس العبدري المشهور بـ(المواق) في التاج والإكليل.
3-القرافي في الذخيرة والفروق.
4-ابنُ جزي في القوانين الفقهية.
5- ابن عبدالسلام في شرح جامع الأمهات .
تحقيق القاعدة واستثناءاتها :
عموم لفظة هذه القاعدة يقتضي عدمَ جواز أيِّ نفعٍ في القرض، سواء كان مشروطاً أو غير مشروط، للطرفين –المقرض والمقترض- أو لأحدهما، أو لثالث إلا لاستثناءات سنحاول رصد بعضها حسب ما يتسع المقام وذلك لضبط القاعدة على مقتضى كلام أئمتنا رضوان الله عليهم .
والمتعلق بالمنفعة هنا أمران :
الأمر الأول في شرط المنفعة :
فقد أطبق أصحابنا على منع اشتراط الفائدة وتحريمه فمنهم :

أ- قال الإمام ابن أبي زيد في الرسالة ( ولا يجوز سلف يجر منفعة )

ب- قال الإمام القرافي في الذخيرة ( قال في الجواهر : شرطه -أي القرض – أن لا يجر منفعة للمقرض ، فإن شرط زيادة قدرا أو صفة فسد )

ت- قال الإمام ابن عبد البر في الكافي ( ولا يجوز أن يسلف أحد أحدا شيئا على أن يزيده فيما يقضيه أو على أن ينفعه المستلف من أجل سلفه قلت أو كثرت بوجه من الوجه ، وكل زيادة في سلف أو منفعة ينتفع بها المسلف فهي ربا ولو كانت قبضة من علف وذلك حرام إن كان شرطا ) قلت فلينتبه القارئ الكريم على دقة ألفاظ الحافظ ابن عبد البر رحمه الله فهو يصب في عين المسألة المبحوثة ويدقق لك مسألة المنفعة وتقيدها من عدمه بل يذكر المنفعة التافهة ويسميها ربا فيقول قلت أو كثرت ويقول ولو قبضة من علف لشدة تفاهة المذكور فما بالنا وهو 1.75% للبوادي و 2 % للحواضر يعود منها 0.75 للمسلف في حالة الحواضر و 0.5 في حالة البوادي والباقي يعود للبنك المغربي المركزي وقد قدمت لك في تصوير المسألة نص والي البنك على أنها فائدة فلا يعترض على هذا بالقول بأنها مصاريف إدارية .

قلت وعلى هذا جمع من أصحابنا فلا نطيل بسرد أقوالهم منهم الإمام الباجي في المنتقى والإمام القرطبي في تفسيره فليراجع وليتأمل .

الأمر الثاني في طرفي المنفعة :

اتفقوا على منع المنفعة المشروطة للمقرض، واختلفوا إذا كانت للمقترض؛ فذهب جماهير أهل العلم إلى جواز اشتراط منفعة زائدة في عقد القرض إذا كانت متمحّضةً للمقترض، جاء ذلك صريحا في معتمد سيدي خليل قال رحمه الله: “إلا أن يقومَ دليلٌ على أنَّ القصدَ نفْعِ المقترِض ِفقطْ في الجميع” فأجاز سيدي خليل كون بعض المنفعة تعود على المقترض لا المقرض وهو عكس الحاصل في مسألتنا المبحوثة فالعود بالفائدة وإن قلت يكون على المقرض لا المقترض وهو عين الممنوع الذي نتحدث فيه .
قال ابن أبي زيد القيرواني في الرسالة: (ومَنْ ردَّ في القرض أكثرَ عددا في مجلس القضاء، فقد اختُلِف في ذلك إذا لم يكن فيه شرطٌ ولا وأْيٌ ولا عادةٌ: فأجازه أشهب، وكرهه ابن القاسم ولم يجِزْهُ ) قلت فتنبه لقوله إن لم يكن فيه شرط ولا وأي ولا عادة يقصد بها منفعة تعود على المقرض ، وهي في مسألتنا مشروطة ملزمة لا يناقش فيها أحد فيتفق قولي أشهب وابن القاسم بالحرمة .
قال الحطاب في مواهب الجليل: (أمّا الزيادة في العدد فلا تجوز، ولو قلَّ على المشهور )

ثانيا :
من الأمور التي أعتمد عليها القائلون بالحل وحشدوا لها الأقوال لتأييد فتوى الشيخ حفظه الله أن تلك مصلحة ضرورية أتت عليها هذه القروض فحفظتها أو صانتها .
وحاصل التعليق على هذا : أن تحديد جنس الضرورة هذا من أعقد مشكلات المدرسة المقاصدية المعاصرة كم أشرت في المقدمة والضرورة هذه حقيقة شرعية يقوم على اعتبارها أو الغائها الشارع وحده والقول بأن هذه القروض تحفظ ضرورة من الضرورات مصادرة على المطلوب المبحوث ، إذا القائلون بالمنع لا يرون القروض بالفائدة الربوية تحفظ ضرورة من الضرورات التي أتى الشرع بحفظها بل بالعكس تراه توغل في أمر محرما شرعا وهو الربا ، بل إن المصلحة التي قد تكون متحصلة من وراء هذه القروض مصلحة ملغاة ، إذ الشارع قرر أن المصلحة التي قد تظهر من وراء القرض مهدرة ولو ظن من ظن أنها تعود على المقترض بحفظ حياته أو رفع المشقة والعنت عنه
وقد أتفق أصحابنا وغيرهم من محققي الأصوليين على عدم اعتبار المصلحة الملغاة والتي ألغى الشارع اعتبارها فيقولون ( وهذه المصلحة ملغاة غير معتبرة ، فلا نعمل بمقتضاها ، ولا يبنى على أساسها حكم من الأحكام ، لأن الشارع نفسه ألغى هذه المصلحة ولم يعتبرها ، وذلك دليل على وجوب اطراحها ولزوم مجانبتها )
وقد علق الإمام الغزالي في المستصفى على مثل هذا الصنيع فقال ( ولو فتح هذا الباب – باب اعتبار المصالح الملغاة – مما يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال )
قلت والنظر في مقالة القائل بالحل يقتضي أن يكون هذا المشروع هو الوحيد المخرج للشباب المغربي الذي يعاني من البطالة والذي لو لم يلجأ له لأسلم نفسه للهلكة والحرج والعنت الذي تنهى عنه الشريعة وتسعى في رفعه عن المكلفين ، والنظر في الواقع يقول بعكس هذا فالطرق التي يجب التماسها قبل التوجه لهذا القرض المحمل بشبه الربا أكثر من أن تحصى .
ثالثا :
القول بأن جلالة الملك قد تبناه وتضمنته كل الخطابات الرسمية بصفة تحريضية والإيهام بأن قراره في مسألة خلافية يؤثر في رفع الخلاف .
قلنا حاصل الرد على هذا : أن القول فيه دم تدقيق وتحرير يحتاج ضبط على مقتضى مذهب أصحابنا ، فبعد التسليم تنزلا على أن الحاكم هنا المقصود به ولي الأمر وليس القاضي الشرعي نقول قال الإمام القرافي في الفروق ( الفرق السابع والسبعون بين قاعدة الخلاف يتقرر في مسائل الاجتهاد قبل حكم الحاكم وبين قاعدة مسائل الاجتهاد يبطل الخلاف فيها ويتعين قول واحد بعد حكم الحاكم وذلك القول هو ما حكم به الحاكم على الأوضاع الشرعية ) وتعقب ابن الشاط هذا الفرق قائلا ( ما قاله يوهم أن الخلاف يبطل مطلقا في المسألة التي تعلق بها حكم الحاكم وليس الأمر كذلك بل الخلاف يبقى على حاله إلا أنه إذا استفتى المخالف في عين تلك المسألة التي وقع حكم فيها لا تسوغ الفتوى فيها بعينها لأنه قد نفذ فيها الحكم بقولة قائل ومضى العمل بها فإذا استفتى في مثلها قبل أن يقع الحكم فيها أفتى بمذهبه على أصله فكيف يقول يبطل الخلاف ولو بطل الخلاف لما ساغ ذلك نعم يبطل الخلاف بالنظر إلى المسألة المعينة خاصة )
قلت والمسألة المبحوثة أصلا لم تعرض على الرأي الشرعي ولم يكن له دخل فيها كما قال القرافي قبل حكم الحاكم ، بل صدرت بمرسوم قانوني ثم بدأ الأخذ والرد الشرعي عليها سواء الحل او الحرمة ، فذكر هذه القاعدة هنا من مثارات الغلط في التدليل للفتوى .
ومن وجه آخر فحكم الحاكم المذكور في القاعدة سواء أقولنا ولي الأمر أو القاضي لا يتوجه لمسألة فيها حل وحرمة وهذا من مقتضيات تحرير محل النزاع في هذه القاعدة ، وهذا جريا على الكلية العامة الثابتة من استقراء نصوص الشريعة أن لا معصية للخالق في طاعة المخلوق البتة
فحكم الحاكم بتحليل الحرام أو تحريم الحلال المجمع عليه لا أثر له في تغيير الأحكام البتة ، إذ لا طاعة في معصية الله .
رابعا :
من جملة ما تم حشده لتعضيد فتوى الشيخ ذكر نظائر للمسألة المبحوثة من اغتفار اليسير الربوي في بعض أبواب المعاملات وهذا أيضا من جملة عدم التحقيق في الأقوال المحشودة على مذهب اصحابنا والتفصيل فيه كالتالي :
1- المسألة المعروفة في مذهبنا ب ( مد عجوة ) والذي استشهد فيها بصورة اغتفار اليسير مثل بيع السيف المحلى بالذهب بذهب خالص إذا كانت حليته أقل من الثلث .
والتحقيق : أنهم لم يجيزوا بيع السيف المحلى بالذهب من باب اغتفار اليسارة إذ هي ليس من باب بيع الذهب بالذهب وذلك لأن الذهب الذي يحلى به السيف ليس مقصود اصالة وإنما تبع وبالتالي لو كثر لصار بيع ذهب بذهب وعلي هذا إشارة العلامة الزرقاني في شرحه على خليل فقال ( فإن لم يخرج منه -أي المحلى – شيء إن سبك أي أحرق فلا من الحلية ويكون كالمجرد عنها فيباع بما فيه نقدا أو إلى أجل لأنه كالمستهلك فهو كالعدم ولا يعتبر قدر الذهب )
2- مسألة زيادة الدرهم بدراهم إن كانت في الوزن لا في العدد ، وأن يكون فيما دون السبعة دراهم أو دنانير وأنه أيضا من باب اغتفار اليسير .
والتحقيق : نص الإمام الباجي في منتقاه على عدم اغتفار اليسير فقال ( فأما الوزن – أي الدراهم – فلا يجوز فيه إلا التساوي ، ولا تجوز فيه زيادة على وجه معروف ، ولا مسامحة ، ولا يجوز أن يكون مع أحدهما زيادة من جنسه لأن العوض الآخر يقسط الذهب والزيادة التي معها فيؤدي فيه التفاضل في الذهب )
قلت فتنبه أيها القارئ الكريم لقول الإمام لا على وجه معروف ولا مسامحة .
ثم علق في موضع يلي الموضع السابق فقال ( وأما اليوم ،فقد صارالضرب بكل بلد واتسع الأمر،فلا يجو له ) فدل هذا وبوضوح على ضعف المدرك الذي قيل به من أنه من باب اغتفار اليسير وهو خلاف التحقيق والدليل على هذا أيضا أنهم في المراطلة منعوا التفاوت مطلقا ولو يسيرا .
3- مسالة الفلوس التي ذكرت عن الإمام الشافعي ليست من قبيل اغتفار اليسير فهى إما أنها بناءا على أن الفلوس نحاس ليس من الربويات أو أنه فاقد العلة عند من يقول بأنها الثمنية لتفاهته ، ولا يخفى ما في هذا من فساد إذ المتقرر في عصرنا أن الفلوس تعامل معامل النقدين وليست هي الفلوس التي تذكر في كلام المتقدمين وبالتالي فالقياس عليها من اغتفار اليسير فيه ما فيه .
4- أن غالب الفروع الفقهية التي استدل بها على اغتفار اليسير والقياس عليها في المسألة وقد نقضنا أنها تجرى على هذا أصلا لو سملنا بها لكان أسعد ما يحتج به أنه قياس شبه وقياس الشبه عند الأصوليين من أضعف الأقيسة وبالذات ما لم تعضده أصول ، يقول في هذا أبي الوليد ابن رشد ( قياس الشبه المأخوذ من الموضع المفارق للأصول يضعف )
خامسا :
ومن جملة ما تم السعلى الحثيث لإثباته لدعم فتوى الشيخ حفظه الله بل حاول الشيخ نفسه اثباته أن الربا في التحريم ليس على حد واحد ، وأن يسير الربا غير كثيره وان اليسير منه يقبل استثناء التحريم فيكون القول بالحل فيه هو الأقرب .

والتحقيق : أن نصوص الشريعة متضافرة على حسم مادة الفساد في هذا الباب واجتثاثه من أصوله ، ونصوص أصحابنا المتقدمين بل نصوص الإمام مالك نفسه في المدونة قاضية بسد ذريعة يسير الربا في باب السلف وهذا من مقتضيات أصول مذهبنا الذي يخرج عنه الحاشدون للأقوال بالحل في اليسير من الربا .

سادسا :

وأضعف ما سيق من الأدلة في تلك النازلة وهو من اشد مثارات الغلط الواقعة للمؤيدين لفتوى الشيخ حفظه الله هي الاستدلال بأقوال علماء معاصريين فضلاء يرون مثل رأي الشيخ في مسائل مشابه من اغتفار يسير الربا في البنوك الأوروبية للأقليات المسلمة أو لفتوى أخرى مشابه للعلامة الزرقا أو العلامة القرضاوي أو العلامة القرضاوي ، وفي هذا ما فيه من فساد في قواعد النظر والمجادلة والاستدلال ومصادرة المطلوب ، إذ اقوال المشايخ الفضلاء وتقريراتهم في تلك المسائل هي عين ما يمنعه ويحاجج فيه المانعون ليسير الفائدة فلا يستقيم الاحتجاج به في مثل نازلتنا هذه .

أخيرا أختم هذه التقريرات لأقوال أصحابنا فأقول مقتضى مذهب أصحابنا وتحقيق أصوله وقواعده هو منع يسير الفائدة ولو شديدة اليسارة حسما لمدة الفساد وجريا على مذهبنا في سد ذريعة لو فتحت لأفضت بالمكلفين في الوقوع في كبيرة نهى عنها الله ورسوله وتوعد بمن ولغ فيها وهذا ظاهر ما نقلناه عنهم .
والله أسأل لعلمائنا ومشايخنا وكل من سعى لمعرفة حكم الله ورسوله حقا أن يتقبل منه ويجزيه الخير وأن يرشدنا جميعا الحق والصواب ومراد الله ورسوله .

آخر اﻷخبار
1 comments

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M