حجية السنـة النبوية و علاقتهـا بالقرآن الكريم

17 مايو 2020 11:45
بيان تلبيس متهم الصحابة بالتدليس

هوية بريس – د البشير عدي

السنة النبوية، في اصطلاح علماء الأصول، هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير.

فالسنة بذلك إما قولية أو فعلية أو تقريرية. أما السنة القولية، فهي الأقوال الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم  بغرض التشريع، كقوله صلى الله عليه وسلم:” صلوا كما رأيتموني أصلي “([1]). و أما السنة الفعلية، فهي ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أفعال يقصد بها التشريع، كصلاته، وحجه. و أما السنة التقريرية، فهي ما أقر عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، أصحابه صراحة، من فعل أو قول صدر منهم في حضوره، أو في غيبته وعلم به، أو سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم من غير إنكار. و من ذلك إقراره صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه، حين بعثه قاضياً إلى اليمن،على الاجتهاد برأيه إذا لم يجد حكما لما يعرض له من قضايا في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

و السنة النبوية، قولية كانت أو فعلية أو تقريرية، حجة شرعية، و مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، ودليل تثبت به الأحكام، كما هو الشأن بالنسبة للقرآن الكريم، باعتبارهما المصدرين الأصليين للتشريع. و يتعين العمل بها متى كانت ثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم، و لم تكن من جملة خصائصه صلى الله عليه وسلم ، كوصاله في الصوم والتزوج بأكثر من أربع زوجات ، و ما لم تكن من الأمور الجبلية كالأكل والشرب والنوم وغيرها، أو من الأمور الحياتية العادية والتي لا يقصد بها التشريع، كالزراعة وقيادة الجيش و وصف الدواء وغيرها .

فقد أجمع جمهور الأمة، للأدلة المتضافرة من الكتاب و السنة و المعقول، على وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته. ولم يشد و يخالف إلا من لا يعد خلافه، في هذا الباب، خلافا. قال الإمام الشوكاني رحمه الله في خلاصة مبحث استقلال السنة بالتشريع في إرشاد الفحول:” والحاصل: إنَّ ثبوت حُجيَّة السُّنة المُطهَّرة، واستقلالَها بتشريع الأحكام ضرورةٌ دينية، ولا يُخالف في ذلك إلاَّ مَنْ لا حظَّ له في دين الإسلام “([2]).

و قال العلامة ابن تيمية رحمه الله في رفع الملام: ” و ليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًّا يتعمَّد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سُنَّتِه دقيق ولا جليل، فإنَّهم مُتَّفقون اتِّفاقًا يقينيًّا: على وجوب اتِّباع الرسول، وعلى أنَّ كلَّ أحدٍ من الناس يؤخذ من قوله ويُترك إلاَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم .”([3]).

و مع ما للسنة النبوية، بالضرورة، من حجية واضحة و لازمة ، إلا أنها لم تسلم من الطعن و التشكيك، بل و من الإنكار جملة و تفصيلا ، منذ الصدر الأول للإسلام و إلى عصرنا الحاضر، عصر استهداف السنة و أهل السنة، سواء من أعداء الإسلام أو من أبنائه.

و هذا من سنن الله تعالى مع أنبيائه، فما من نبي إلا عودي، مصداقا لقوله تعالى:” و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين و كفى بربك هاديا و نصيرا.”الفرقان  31. و قوله تعالى:” و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الجن و الإنس يوحي بعضهم لبعض زخرف القول غرورا.” الأنعام 113.

و لعل من يعرفون بالقرآنيين، و من تلبس بلبوسهم و ارتدى عباءتهم، و يستغل علامتهم التجارية، من أبرز و أسوء أعداء السنة النبوية، و منكري حجيتها، بتوظيف القرآن و رفع شعار الاستغناء عن السنة بالقرآن.

هؤلاء الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه و سلم قائلا: ” أَلاَ إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ، أَلاَ يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ! فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلاَلٍ فَأَحِلُّوهُ! وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ! “([4]). و في رواية: “لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى أَرِيكَتِهِ، يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِنْ أَمْرِي؛ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ، أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لاَ نَدْرِي! مَا وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ.” ([5]).

و ما هذه الحملة الممنهجة ضد السنة النبوية، تحت غطاء القرآنية، إلا استمرار لهذه الظاهرة، غير أنها صارت، مع القرآنيين الجدد، متصفة بسمات جديدة، لعل أبرزها:

– الطابع النظامي والمؤسساتي ، و طابع التفرغ في إطار توزيع الأدوار، و التنسيق و التشبيك في إطار توحيد الأهداف؛

– الرعاية الرسمية و الدعم المالي والإعلامي، من جهات دولية، تستهدف في المحصلة النيل من القرآن الكريم، واستئصال الإسلام عقيدة و شريعة، بنخره من الداخل و بمعاول أبنائه و منتسبيه، تحت يافطات متعددة من قبيل: الإسلام اللبيرالي، إسلام العقلانية والعلم والتنوير والحداثة لدى البعض . و محاربة الرجعية و التخلف و التطرف و الإرهاب لدى البعض؛

–  انتهاج أساليب الوقاحة و العدوانية، و الدس و التدليس، و الاستئصالية المعلنة ، على نحو لم يعد معه للقرآنية من هم، سوى محاربة السنة و أحكامها و أعلامها، و تسفيه من يقول و يعمل بها. و كأن القرآن إنما أنزل لذلك. في مقابل التواطؤ، وإن بالسكوت و التغاضي عما يحاك ضد القرآن من مؤامرات، و ما تتعرض له شرائع القرآن و دين القرآن و أمة القرآن من حروب و استهداف؛

هذا فضلا عن صيرورة الظاهرة القرآنية، علامة تجارية و أصلا تجاريا مفتوحا للاستغلال و التسيير الحر، من قبل جهات هي أشد ما تكون بغضا للقرآن قبل السنة، ممن يستوي لديها توظيف السنة لمحاربة القرآن، بتوظيف القرآن لمحاربة السنة، مع توظيف الدعارة لمحاربتهما معا، في أفق حلم تقويض دعائم الإسلام و تفكيك ثوابته.

و مع أن خبث العداء للسنة النبوية، مما لا ينطوي على كل ذي فطرة سليمة، فضلا عن كل ذي لب و بصيرة، إلا أن استغلال اليافطة القرآنية قد يلبس على البعض، في غياب العلم الشرعي، و شح الثقافة الشرعية العامة، حينما يتم التشدق بالقرآن، و توظيف آياته بانتقائية و انتهازية ، لنفث السموم، و إنكار السنة النبوية و حجيتها، و شيطنة أئمتها و المنافحين عنها.

و هذا ما يستدعي التذكير بحجية السنة النبوية و علاقتها بالقرآن الكريم، من باب التذكير بالمعلوم من الأدلة الشرعية بالضرورة، تعميما للفائدة و رفعا للبس و كشفا للشبهات.

و إذا كانت حجية السنة النبوية ثابتة بشهادتها لنفسها، و هي شهادة غبر مجرحة، لشهادة القرآن الكريم لها بالحجية و الاعتبار، كما أنها ثابتة بإجماع جمهور الأمة على مر العصور كما أسلفنا. فإن ثبوت حجية السنة بالقرآن الكريم و المعقول أوضح و أنصع دلالة، على هذه الحجية، و أفضح لهذه الفئة من أبناء هذه الأمة، صادقين كانوا، أو تجارا و عملاء و مسوقين.

فما هي أبرز الأدلة القرآنية على حجية السنة و النبوية و استقلالها بالتشريع ،  و ما طبيعة علاقة السنة النبوية بالقرآن الكريم؟

أولا: حجية السنة من القرآن الكريم:

القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، باللفظ العربي، المنقول بالتواتر، والمتعبد بتلاوته، و المجموع في المصاحف.

وقد أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه و سلم ليبلغه للناس، و يبين لهم ما يحتاج منه إلى البيان و التوضيح، مصداقا لقوله سبحانه و تعالى:” يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك.” المائدة  69. و قوله تبارك و تعالى: ” و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.”النحل44  .

فكان من وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى التشريع، وظيفة تبيلغ القرآن الكريم و بيانه. و ذلك بتبليغ النص كما أنزل من جهة، و بيان ما يحتاج منه للبيان توضيحا و تتميما من جهة ثانية.

و لا يكون البيان و التوضيح، إلا من خلال أقواله و أفعاله و تقريراته صلى الله عليه و سلم، أي من خلال سنته عليه الصلاة والسلام، فكان من الطبيعي أن تكون السنة دليلا شرعيا تثبت به الأحكام، و أن يرد في القرآن الكريم، ما يشهد لهذه السنة بالحجية و الاعتبار.

و أدلة القرآن الكريم، المباشرة و غير المباشرة، على حجية السنة المشرفة و استقلالها بتشريع الأحكام ابتداء، و التي يمكن أن تستفاد من النص القرآني بمختلف أوجه الدلالة، كثيرة و متنوعة، و يمكن استعراض أبرزها ، على النحو الآتي.

أولا: الآيات الدالة على الوظيفة التبيينية لرسل الله تعالى، و منها :

– قوله تعالى:” و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم.” إبراهيم 5.

فهذه الآيات شاهدة على حجية ما يصدر عن الأنبياء، من أقوال و أفعال، أداء لوظيفتهم التبيينية.

ثانيا: الآيات الدالة على الوظيفة التبيينية للنبي الكريم، من قبيل:

– قوله تعالى: “ و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.”.النحل 44.

– قوله تعالى:” وما أنزلنا إليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه.”  النحل 64.

– قوله تعالى:” يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب و يعفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين.”. المائدة 16.

فهذه الآيات شاهدة على حجية السنة النبوية، من خلال تفويضها مهمة بيان و توضيح الوحي الإلهي و أحكام الشرع الإسلامي، للنبي صلى الله عليه و السلام.

و لا يتصور البيان و التوضيح  إلا من خلال أقواله و أفعاله و تقريراته، صلى الله عليه و سلم، تفصيلا لمجمل أو تخصيصا لعام أو تقييدا لمطلق…

ثالثا: الآيات المجملة، المتعلقة بالأحكام العملية المذكورة بكيفية إجمالية و تحتاج إلى بيان وتفصيل، من قبيل:

قوله سبحانه و تعالى في وجوب الصلاة و الزكاة: ” و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة.”. المجادلة: 13 .

فلم يفصل القرآن الكريم في بيان كيفية إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة. فجاءت السنة بتفصيل ذلك، من خلال أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم في صلاته، وهو القائل : ” صلوا كما رأيتموني أصلي“([6])،كما جاءت السنة ببيان مقادير الزكاة  وأنصبتها و مستحقيها و ما اتصل بها من أحكام.

– قوله سبحانه و تعالى في وجوب الحج :” و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا.“.آل عمران: 97.

فلم يفصل القرآن الكريم في أحكام فريضة الحج، فجاءت السنة بتفصيل وبيان مناسك الحج و ما تعلق به من أحكام، من خلال أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم في حجه، وهو القائل: “لتأخذوا عني مناسككم” ([7]).

فهذه الآيات القرآنية، شاهدة على حجية السنة النبوية، من خلال تفويض الرسول صلى الله عليه و سلم مهمة سن تفاصيلها ، امتدادا لوظيفته التبيينية و التشريعية. مما يؤكد علاقة الترابط الوثيق بين القرآن و السنة، و عدم إمكانية استغناء أحدهما عن الآخر. و مدى حاجة القرآن للسنة المبينة لأحكامه، و استقلال السنة بتشريع الأحكام ابتداء.

و إلا كيف يمكن تنفيذ أوامر القرآن الكريم، المتعلقة على سبيل المثال بالصلاة و الزكاة و الحج، و معرفة تفاصيلها و العمل بمقتضاها، و نحن ملزمون بها ، تحت طائلة جزاءات، دون بيان السنة النبوية لها بالتوضيح و التفصيل؟

 

رابعا: الآيات الدالة على الوظيفة التشريعية للرسول صلى الله عليه و سلم، و وجوب الانصياع لأحكامه و من ذلك.

– قوله سبحانه و تعالى:” و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم.”النساء 82.

– قولـه عز من قائل:” فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و رسوله، إن كنتم تومنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تاويلا. “. النساء: 58 .

فهذه الآيات كذلك شاهدة على حجية السنة النبوية، و اعتبارها مصدرا مستقلا من مصادر التشريع ابتداء، من خلال تفويضها مهمة استنباط الأحكام، للنبي صلى الله عليه و السلام، و لا يكون ذلك إلا من خلال أقواله أو أفعاله أو تقريراته صلى الله عليه و سلم. و الأمر بالرجوع إليه في حياته ، وإلى سنته بعد وفاته، فيما لم يرد بشأنه نص من كتاب الله تعالى.

خامسا: الآيات الدالة على الوظيفة القضائية و التحكيمية، للرسول صلى الله عليه و سلم، و وجوب الإذعان لأحكامه و أقضيته، و من ذلك:

– قوله جل و تعالى:” إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله.”النساء 104.

– قوله تبارك و تعالى:” و إن حكمت فاحكم بينهم بالقسط.”  المائدة 44.

– قوله سبحانه و تعالى:” فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما.” النساء 64.

– قوله عز وجل في الذكر الحكيم :” و ما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم.” الأحزاب 36.

فهذه الآيات القرآنية، كذلك شاهدة على حجية السنة النبوية و استقلالها بالتشريع ابتداء، من خلال تفويضها مهمة الفصل في المنازعات، للنبي صلى الله عليه و السلام، و لا يكون ذلك إلا من خلال أقواله أو أفعاله أو تقريراته صلى الله عليه و سلم.

سادسا: الآيات الداعية إلى الاستجابة للرسول صلى الله عليه و سلم و الائتمار بأوامره و ترك نواهيه .

– قولـه سبحانه و تعالى:  ” و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا.”. الحشر: 7.

– قوله تبارك و تعالى :” يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و الرسول إذا دعاكم لما يحييكم.”الأنفال 24.

– قوله جل وعلا:” فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم” النور 62.

فهذه الآيات شاهدة على حجية السنة النبوية، و ما يصدر عن النبي صلى الله عليه و سلم من أحكام، من خلال دعوتها و حثها على الائتمار بالأوامر و اجتناب النواهي، الصادرة عن للنبي صلى الله عليه و السلام، و التوعد على ذلك بالجزاء الوخيم.

سابعا: الآيات الواردة بوجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته و منها:

– قوله سبحانه و تعالى في الذكر الحكيم:” و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله.” النساء 63.

– قولـه تبارك و تعالى في الكتاب العزيز: من يطع الرسول فقد أطاع الله.”. النساء: 79.

– قولـه عز و جل في الذكر الحكيم:” يا أيها الذين آمنوا أطيعو الله و أطيعو الرسول، و لا تولوا عنه و أنتم تسمعون.“. الأنفال 20.

– قولـه عز من قائل:” يا أيها الذين آمنوا أطيعو الله و أطيعو الرسول و أولي الأمر منكم“النساء: 58.

فهذه الآيات شاهدة على حجية السنة النبوية، من خلال حثها على اتباع النبي صلى الله عليه و السلام و طاعته، ولا يخلوا أن يتعلق ذلك بأقواله أو أفعاله أو تقريراته صلى الله عليه و سلم. قال الإمام الشاطبي  رحمه الله: ” وسائر ما قُرِنَ فيه طاعة الرسول بطاعة الله فهو دال على أنَّ طاعةَ الله ما أمر به ونهى عنه في كتابه، وطاعةَ الرسول ما أمر به ونهى عنه ممَّا جاء به ممَّا ليس في القرآن، إذْ لو كان في القرآن لكان من طاعةِ الله.”([8]).

ثامنا: الآيات الدالة على المصدر الإلهي للسنة النبوية، ومنها:

– قوله تعالى متحدثا عن الأنبياء :” و جعلناهم أئمة يدعون بأمرنا، و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين.”.الأنبياء 72.

– ما دل عليه ظاهر قوله سبحانه و تعالى في حق النبي محمد صلى الله عليه وسلم:“وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى”النجم: ¾.

– ما جاء في  تفسير الذكر بالسنة، في قوله تبارك و تعالى: ” وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم”  النحل 44. بالسنة. أي أنزلنا إليك يا محمد السنة، لتبين للناس ما نزل إليهم أي القرآن.

– ما جاء في تفسير الحكمة بالسنة، في قوله عز وجل:” و اذكروا نعمة الله عليكم و ما أنزل عليكم من الكتاب و الحكمة يعظكم به.” البقرة 229. و قوله عز من قائل:” و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم.” النساء 112.

فهذه الآيات شاهدة على حجية السنة النبوية و أحكامها، من خلال إقرارها للسنة من جهة، و من خلال شهادتها على المصدر الإلهي لهذه السنة من جهة ثانية، فليس كل ما يصدر من الرسول صلى الله عليه و سلم من تلقاء نفسه، بل منه ما هو أمر و وحي من الله تعالى و هو ما تعلق بالتشريع.

تاسعا: الآيات المصححة لاجتهادات الرسول صلى الله عليه و سلم، من قبيل:

– قوله سبحانه و تعالى: ” ما كان للنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض.”الأنفال 68.

– قوله تبارك و تعالى:” يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك.” التحريم 1.

– قوله عز وجل :”عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين”.التوبة 43.

فهذه الآيات أيضا، شاهدة على حجية السنة النبوية، من خلال الاعتراف للرسول صلى الله عليه وسلم بحق الاجتهاد و تشريع الأحكام ابتداء تحت رقابة الوحي، الذي يقر المصيب منها، و يصحح ما جانب منها الصواب.

عاشرا: الآيات المقرة لتعليم الرسول صلى الله عليه و سلم للسنة و بثها بين الناس، و من ذلك:

– قوله سبحانه و تعالى :” لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ.”. آل عمران 164.

– قوله سبحانه و تعالى:” واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله و الحكمة.” الأحزاب 34.

فهذه الآيات كذلك شاهدة على حجية السنة النبوية، من خلال إقرار ما يعلمه الرسول صلى الله عليه و سلم و يبثه من سننه، و إقرانه بأمر من الله عز وجل و بالقرآن الكريم.

فهل يمكن أمام هذه الشواهد مجتمعة و منفردة، أن ينكر جاحد حجية السنة النبوية و استقلالها بالتشريع؟ فكيف بمن يزعم أنه قرآني و منطلقه القرآن؟

أو ليست هذه الشواهد قرآنية و من القرآن؟ أو ليست كافية للقول بحجية السنة و استقلالها في تشريع الأحكام؟ أولا يكفي قوله تعالى:” و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا.” الحشر: 7، دليلا على حجية السنة، فكيف بهذه الشواهد مجتمعة، و ما هي إلا غيض من فيض؟

و حتى  لو لم يكن في القرآن من دليل، على حجية السنة، غير قوله تعالى:” وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله.” النساء 63، لكفى. بل و لو لم يكن في القرآن من دليل، لكفت نبوة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في ذلك. لكن هل المشكلة الحقيقة لهؤلاء، مع السنة و أدلة حجيتها؟ أم مع القرآن ذاته، و مع الإسلام بمجمله؟.

فرحم الله العالم الجليل أيوب السختياني حين قال:” إذا سمعتم أحدهم يقول لا نريد إلا القرآن، فذاك حين ترك القرآن.” ([9]).

ثانيا: علاقة السنة النبوية بالقرآن الكريم.

السنة النبوية، إذن، حجة شرعية،  و دليل تثبت به الأحكام، بتضافر الأدلة على شهادة القرآن الكريم لها بالحجية و الاعتبار.و هي مصدر من مصادر التشريع، و يجب العمل بها ، متى ثبتت عن النبي صلى الله عليه و سلم، و لم تكن من جملة خصائصه صلى الله عليه وسلم ، لم تكن من الأمور الجبلية أو الأمور الحياتية العادية ، التي لا يقصد بها التشريع، كما يجب العمل بالقرآن.

فهي بمعية القرآن الكريم مصدران مترابطان و متلازمان، و لا يستغنى بأحدهما عن الآخر، ولا يكتمل التشريع الإسلامي إلا بهما معا. و إنما تصنف السنة النبوية في المرتبة الثانية من حيث الحجية بعد القرآن الكريم. لأن منها ما هو قطعي الثبوت كالسنة الصحيحة المتواترة، ومنها ما هو ظني الثبوت كسنة الآحاد، وهي معظم الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بخلاف القرآن الكريم  الذي يعتبر كله قطعي الثبوت عن الله عز وجل.

فالسنة ملازمة للقرآن و مرتبطة به، و ملازمة للتشريع، و مقترنة به، باعتبارها مصدرا مستقلا لسن ما لم يرد بالقرآن من أحكام. إذ لا تقتصر أحكام السنة النبوية في علاقتها بالقرآن الكريم، على مجرد بيان ما أجمل من أحكامه، بل قد تأتي مؤكدة لما ورد في القرآن، كما تأتي مقررة  لحكم لم يرد فيه، و لا يمتنع أن ترد ناسخة لحكم وارد فيه، ما دام نسخ القرآن ممكنا و ثابتا. و هو ما يمكن إبرازه على النحو الآتي.

أولا: الأحكام المؤكدة لما في جاء في القرآن:

و من ذلك الأحاديث النبوية الواردة في النهي عن الربا و قتل النفس وشهادة الزور و شرب الخمر، و وجوب الصلاة و الصيام والزكاة، و غيرها من الأحاديث الواردة في السنة النبوية تأكيدا لما جاء في القرآن الكريم.

ثانيا: الأحكام المبينة لما جاء في القرآن، إما بتفصيل مجمله، أو تخصيص عامه، أو تقييد مطلقه:

فمن أمثلة تفصيل السنة مجمل القرآن: السنن العملية في كيفية أداء شعائر الصلاة ومناسك الحج، وغيرها.

فالصلاة مثلا كما أسلفنا، لم يبين القرآن عدد ركعاتها وكيفيتها، فجاءت السنة بتفصيل ذلك، في قوله صلى الله عليه وسلم : “صلوا كما رأيتموني أصلي”. و كذلك الحج فقد أوجبه القرآن الكريم بقوله تعالى:” و لله حج البيت من استطاع إليه سبيلا”. آل عمران: 97. فجاءت السنة النبوية بتفصيل وبيان مناسك الحج  و أحكامه.

ومن أمثلة تخصيص السنة عام القرآن: قوله صلى الله عليه وسلم: ” لا نورث، ما تركنا صدقة“([10])، الذي خصص عموم قوله سبحانه و تعالى:” يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين النساء: 11، فإن الحديث قصر حكم الآية على غير الأنبياء.

ومن أمثلة تقييد مطلق السنة القرآن: قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، بشأن مقدار الوصية : “ الثلث و الثلث كثير.”([11]). الذي قد قيد مطلق الوصية في قوله تبارك و تعالى: ” من بعد وصية يوصي بها أو دين.”.النساء: 11، وذلك بتحديد  ثلث التركة كحد أقصى لا تجوز الوصية بأكثر منه.

ثالثا: الأحكام المستقلة للسنة مما لم يذكره القرآن.

ومن ذلك تحريم الجمع بين المرأة وخالتها أو عمتها، و تشريع زكاة الفطر، ورجم الزاني المحصن، وغيرها. وهذا لأن السنة مستقلة بتشريع الأحكام ابتداء كالقرآن الكريم، لما تقدم من الأدلة و لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم :” ألا و إني أوتيت الكتاب ومثله معه“([12]).

رابعا: الأحكام الناسخة لبعض أحكام القرآن.

ومن ذلك نسخ الإيصاء للوالدين و الأقربين من الورثة في قوله صلى الله عليه وسلم :” لا وصية لوارث“([13]). فإنه ناسخ لاستحقاق الوالدين للوصية في قوله تعالى: ” الوصية للوالدين و الأقربين.”.البقرة 179، باعتبارهما من الورثة.

و كما أسلفنا فلا يمتنع أن يقع نسخ السنة القرآن، ما دام نسخ القرآن ممكنا و ثابتا. و لا غرابة في ذلك ما دام الأمر يتعلق بالوحي في كلتا الحالتين، بشهادة القرآن الكريم للسنة النبوية بالحجية و الاعتبار، و لوقوع السنة تحت رقابة القرآن تأييدا و تصحيحا، و لاستحالة إقرار الوحي ما يصدر من الرسول صلى الله عليه وسلم ، مخالفا للقرآن، لقوله سبحانه و تعالى على لسان نبيه الصادق الأمين: ” ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي.”.يونس 15، و قوله عز من قائل:” و لو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين و لقطعنا منه الوتين.” الحاقة 46/44.

خلاصة القول، أن السنة النبوية، قولية كانت أو فعلية أو تقريرية، حجة شرعية، و مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، ودليل تثبت به الأحكام، متى كانت ثابتة عن النبي صلى الله عليه و سلم، و لم تكن من جملة خصائصه صلى الله عليه وسلم ، كوصاله في الصوم والتزوج بأكثر من أربع زوجات ، و ما لم تكن من الأمور الجبلية كالأكل والشرب والنوم وغيرها، أو من الأمور الحياتية العادية والتي لا يقصد بها التشريع. مثلها مثل القرآن الكريم، باعتبارهما المصدرين الأصليين للتشريع.

فهي بمعية القرآن الكريم مصدران مترابطان و متلازمان، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، ولا يكتمل التشريع  الإسلامي إلا بهما معا.

و لا يمكن أن يقول بترك السنة إلا تارك للقرآن، لأن تعطيل السنة تعطيل للقرآن، و لشرائع القرآن، و رحم الله الصحابي الجليل الذي تسلم عليه الملائكة، عِمرانُ بنُ حُصينٍ رضي الله عنه، حين أجاب من قال له: لا تُحَدِّثُنا إلاَّ بالقرآن، أو لا نريدُ إلاَّ القرآن، قائلا:”  أرأيتَ لو وُكِلْتَ أنتَ و أصحابُك إلى القرآن، أكنتَ تجدُ صلاةَ الظهر أربعاً وصلاة العصر أربعاً؟، وصلاة المغرب ثلاثاً يقرأ في الركعتين الأُوليين. أرأيتَ لو وُكِلْتَ أنت و أصحابُك إلى القرآن، أكنتَ تجدُ في كلِّ مائتين خمسة؟ وفي الإبل كذا وكذا، و في البقر كذا وكذا ؟، أرأيتَ لو وُكِلْتَ أنت و أصحابُك إلى القرآن، أكنتَ تجد الطوافَ بالبيت سبعاً ؟ و بين الصفا و المروة كذا وكذا.”. ([14]).

و نختم بالقول إن هذه الحملات الممنهجة ضد السنة النبوية، رغم ما تحدثه من تشويش و قلاقل، فلن تنال بغيتها، مهما بلغ بها الكيد و المكر، و مهما بلغ منا التخاذل و التواطؤ، أمام حفظ الله عز وجل لهذه السنة باعتبارها، من الذكر الذي تكفل الله بحفظه إلى يوم الدين، مصداقا لقوله تعالى :” إنا نحن نزلنا الذكر، و إنا له لحافظون.” الحجر9. و ما يعلم جنود ربك إلا هو.

وصلى الله و سلم و بارك على المبعوث رحمة للعالمين، و على آله و صحبه أجمعين، و من اهتدى بهديه، و استن بسنته إلى يوم الدين.

ــــــــــــــــــــ

[1])) صحيح البخاري:كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الآذان و الصلاة و الصوم و الفرائض…

[2])) العلامة محمد بن علي الشوكاني: إرشاد الفحول. تحقيق محمد حسن الشافعي، دار الكتب العلمية بيروت، ج 1ص 161.

[3])) الإمام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية: مقدمة كتاب: رفع الملام عن الأئمة العلام. الرئاسة العامة لإدارة البحوث الرياض، ص8/9.

[4])) أخرجه الإمام أحمد في المسند و الحاكم في المستدرك و ابن ماجة و أبو داود و غيرهم، و حسنه الترمذي و صححه ابن حبان.

[5]))  أخرجه الإمام أحمد في المسند و الحاكم في المستدرك و ابن ماجة و أبو داود و غيرهم، و حسنه الترمذي و صححه ابن حبان.

[6])) صحيح البخاري:كتاب أخبار الآحاد، باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الآذان و الصلاة و الصوم و الفرائض…

[7])) صحيح مسلم: كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا…

[8])) الإمام أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة. تحقيق الشيخ عبدالله دراز، دار الكتب العلمية بيروت، 2004 ج 4/10.

[9])) د محمود الدوسري: بيان السنة للقرآن. مقال منشور على موقع الألوكة، على الرابطhttps://www.alukah.net/sharia/0/132093/

[10])) صحيح البخاري: كتاب الفرائض، باب قول النبي صلى الله عليه و سلم: لا نورث ما تركناه صدقة.

[11])) صحيح مسلم: كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث.

[12])) أخرجه الإمام أحمد في المسند و الحاكم في المستدرك و ابن ماجة و أبو داود و غيرهم، و حسنه الترمذي و صححه ابن حبان.

[13])) أخرجه الإمام أحمد و أصحاب السنن، و قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

[14])) د محمود الدوسري:بيان السنة للقرآن. مقال منشور على موقع الألوكة، على الرابطhttps://www.alukah.net/sharia/0/132093/

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M