ذ. حماد القباج: ماذا قال لي المغراوي عن تفجيرات 16 ماي؟
هوية بريس – ذ. حماد القباج
في أواخر سنة 2002 كنت أعمل أستاذا مدرسا بفرعين من دور القرآن التابعة لجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش: فرع حي أسيف، وفرع حي المسيرة.
وقررت الجمعية افتتاح فرع جديد بحي بلبكار، وطلب مني مكتب الجمعية أن ألقي دروسا كل يوم جمعة، وزارني الشيخ المغراوي في بيتي للتشاور حول موضوع تلك الدروس؛ فجرى بيننا الحوار التالي:
المغراوي: أقترح أن تلقي دروسا في مفهوم الاتباع والاعتصام بالكتاب والسنة
القباج: أنا مستعد وأقترح أن يكون ذلك من كتاب “الترغيب والترهيب” للحافظ المنذري
المغراوي: هذا الكتاب عظيم توكل على الله لكن ركز على ضرورة لزوم السنة والتحذير من الغلو والتطرف وبيان سماحة الإسلام، أنت تعرف الآن فروع دار القرآن كثيرة ويحضر الدروس والحلقات شباب وناس متأثرين بأفكار … (وذكر جماعات منها جماعات التكفير التي قال لي عنها المغراوي: “المتأثرة بأفكار الفيزازي الذي أفسد في الأرض وفتن الشباب بأفكار ما يسميه الجهاد”).
القباج: أبشر شيخنا الكريم سأبذل جهدي لشرح الوسطية والاعتدال كما جاءت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم شرعت في إلقاء تلك الدروس في فبراير من عام 2003.
ومن عجيب المصادفات؛ أن موضوع درس الجمعة 16 ماي التي وقعت فيها أول تفجيرات إرهابية غادرة في بلدنا؛ كان في تحليل أسباب الغلو والتطرف وخطورة ما يترتب عليهما من أفعال تضر المجتمع وتزعزع أمنه..
وصبيحة يوم السبت الموالي؛ أصدرت جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة -التي يرأسها المغراوي- بيانا تستنكر فيه تفجيرات الجمعة 16 ماي؛ جاء فيه:
“إن جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش إذ تبين حكم هذا الأمر؛ لَتُحذِّر المسلمين من الوقوع في المحرمات المهلكات، وتحذرهم من مكائد الشيطان فإنه لا يزال بالعبد حتى يوقعه في المهالك؛ إما بالغلو في الدين، وإما بالجفاء عنه ومحاربته والعياذ بالله، والشيطان لا يبالي بأيهما ظفر من العبد؛ لأن كلا طريقي الغلو والجفاء من سبل الشيطان التي توقع صاحبها في غضب الرحمن وعذابه.
وما قام به من نفذوا هذه العمليات من قتل أنفسهم بتفجيرها فهو داخل في عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»[1].
وحُرر بمراكش يوم السبت 15ربيع الأول 1424هـ الموافق: 17 ماي 2003م“.
وفي صباح الثلاثاء 10 أبريل 2007 فجَّر انتحاري آخر نفسه بحي الفرح..
وفي لقاء مع الشيخ المغراوي عبّر عن ضجره من هذه الأفعال التي وصفها بالخبيثة وقال لي: “هؤلاء المجرمين يقطعون الطريق على الخير لعنة الله عليهم يمنعوننا من نشر الكتاب والسنة باسم هذه الطامات التي يسمونها جهادا”.
فقلت له: كنت ألفتُ كتابا في هذا الموضوع بعنوان: “الأدلّة القطعية على تحريم التفجيرات التخريبية التي تُمارَس باسم الجهاد وإنكار المخالفات الشرعية“.
فعبر عن فرحه وقال لي: أسلوبك جميل عجل به (ما كرهتش تكملو) في أقرب وقت.
فقلت له: يمكن أن أعطيك نسخة غدا لتراجعها.
فجاءني إلى البيت وأخذ النسخة وذهب.
وبعد لحظات طرق الباب وقال لي: “رسالة عظيمة قرأتها في السيارة ما شاء الله عليك جزاك الله خيرا”.
ومما كتبته في الكتاب المذكور وأعجب الشيخ المغراوي؛ قولي:
“ولم يزل سيف الإنكار مشهورا على رؤوس أولئك المفسدين، من طرف العلماء والدعاة، فلم يزد ذلك كثيرا منهم إلا طغيانا كبيرا، واستمروا على فكرٍ منكوس، وسلوكٍ ممسوس؛ تمخض عنهما مؤخرا؛ ما أسْمَوه: تنظيم القاعدة بالمغرب الإسلامي!
أطلّ هذا التنظيم المزعوم بقرن معضوب، ونطح غير مرغوب.
حيث بدؤوا أعمالهم التخريبية في شهر صفر، بمناطق من بلاد الجزائر؛ وهي ولاية (بومرداس) في بلْدتي (سي مصطفى) و (سوق الحد)، وولاية (تيزي وزو) المجاورة، فتسببوا في قتل وجرح عدد من الناس..
وما صفا الخاطر من كدر تلك الأخبار، حتى اهتز الفؤاد لخبر أحداثٍ مشابهة بالدار البيضاء؛ التي خيم شبح التفجيرات المنكرة على واقعها مرة أخرى:
ففي صباح الثلاثاء 23 ربيع الأول الموافق لـ: 10 أبريل 2007؛ فجَّر انتحاري نفسه بحي الفرح، في حين تمكنت الشرطة من قتل آخر قبل أن يفجر الشحنة التي كان يحملها، وعند أذان المغرب فجّر انتحاري ثالث نفسه بالمكان ذاته، مما أدى إلى مقتل مفتش في الشرطة[2] وإصابة شرطي وطفل بجراح.[3]
وقبل ذلك بأسابيع؛ وفي يوم الأحد 21 صفر 1428 الموافق لـ: 11 مارس 2007؛ فجر شاب نفسه داخل مقهى للإنترنت في المدينة ذاتها، فقتل نفسه وجرح أربعة!
ومع توالي هذه المنكرات، وتتابع هذه السوءات، ينبغي أن يتوالى الإنكار والبيان من العلماء وطلبة العلم؛ نصحا وتوجيها، وتحصينا للشباب من هذا السلوك الشنيع، أيّاً كانت الدوافع إليه[4]، وهو ما قصدت إليه في هذه السطور، وتوخيته في هذا المزبور.
ومن المهم أن أُبَين؛ أن ما في هذه الرسالة لا يعد تعبيرا عن رأي شخص محدد، أو طائفة معينة في الموضوع؛ بقدر ما أنه بيان لحكم شرعي، وتغيير لمنكر باللسان؛ طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ونصحا لعباده، ودفعا للتحريف والانتحال عن دينه.
وهو سَيْرٌ على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عنهم؛ في النكير على الخوارج على الأمة، والمستحلين دماء أفرادها كائنا من كانوا.
وفي ذلك أحاديث كثيرة تجد بعضها في هذه الرسالة…
وهذا هو المسلك الشرعي، والوسيلة الكفيلة بمحاصرة فكر التكفير، وما يترتب عليه وعلى غيره من التخريب والتفجير.
أما أن تُجعل الحرب على الإرهاب وسيلة لتصفية الحسابات مع الإسلام، والمتمسكين به ديناً ومنهجَ حياة، والضرب على وتَر: ليس في القنافذ أملس، كما فعل كثير من العَلمانيين واللادينيين في بلدنا إثر أحداث السادس عشر من ماي.
فهذا السلوك لا يتعدى كونه أسلوبا خسيسا يجعل مصلحة الأمة في مهب رياح الانتقام والتشفي من المخالف..
وهذا مما يؤكد أن التوجه العَلماني لا يمكن أن يكون سبب إصلاح وتحسين للأوضاع؛ لأنه يتبنى الطعن في نحر دين الأمة، ويزج بمصالحها العليا في أوحال الصراع (الإيديولوجي).
وهذه السلوكيات قمينة بأن تذكي نار الإرهاب التخريبي، وتوسع دائرة انتشاره…
وقبل أن يجف قلم هذه المقدمة أود أن أُجَلِّيَ حقيقة جاءت الإشارة إليها في أثناءها؛ وهي أن ما يحدث من هذه التفجيرات، ليس سببه دائما الفكر الديني الغالي[5]؛ ومن ذلك انفجارات البيضاء الأخيرة؛ فإن الدلائل البينة قامت على أن أصحابها لم يكونوا معروفين بِتَدَيُّن، بل كانوا من أهل الفقر المذقع، مهمَّشين في أوضاعهم المختلفة، ومنها الوضع الديني؛ الذي لو كان عندهم حسنا؛ لأعانهم على السلامة من تلك الأحوال المؤسفة.
على أن ثمة ترابطا بين السببين: (الغلو الديني)، و(قلة ذات اليد)؛ وهو أن الثاني كثيرا ما يوقع في الأول، ووجه ذلك؛ أن الإنسان الذي يُوَرِّثه الفقرُ نقمةً على المجتمع، وحقدا على محيطه، يجد في الفكر الغالي مجالا لتفريغ حقده وإظهار نقمته، ويرى في أطروحات أصحابه ما يروي به ظمأه، وينفس به كمده..
وهكذا يجد حملةُ فكر التكفير، والدعاة إليه في هؤلاء البؤساء؛ لقمة سائغة يلوكونها كما شاؤوا، ثم يمجونها في وجه أمن الأمة، وسلامة مجتمعها.
وهذا يؤكد أن أبلغ الوسائل لعلاج ظاهرة التفجير هذه؛ هي التوجيه والوعظ الشرعيان، والتربية الدينية الصحيحة؛ التي تقطع الطريق على المغرضين، وتجتث علة الورم وتقتلع سبب هذا الداء المتجذر في النفوس، وتزرع فيها الإيمان بيوم الحساب، والرضا بالقدر، والاعتدال في الفكر والسلوك، وحب الخير للناس..
فإذا أخذ المجتمع حظه من هذا المنحى الإصلاحي المهم، وانضمت إلى ذلك المعالجة الاقتصادية والأمنية؛ حققنا بإذن الله هدفنا المتمثل في صيانة مجتمعنا من تلك الممارسات الشنيعة.
أما بعد؛ فهذه سطور رقمتها، وحروف زبرتها، تعزيزا للخطاب الشرعي، ودعما للمسلك المرعي في تناول هذا الموضوع الحساس[6].
أسأل الله تعالى أن يفتح بها أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا“.
هذا ما كتبته قبل 12 سنة، وعبر الشيخ المغراوي عن موافقته بل فرحه به؛ ولم يكن معنا إعلام ولا صحافة؛ فهو دليل على أنه موقف صادق وليس موقفا ترويجيا.
أدليت بشهادتي عن موقفين لم يكن معي فيهما إلا الشيخ المغراوي؛ مما يؤكد بطلان المزاعم التي تثار حول كونه يخفي فكرا يقر التكفير وما يترتب عنه من جرائم إرهابية، أما مواقفه المعلنة والمكتوبة فمعروفة ومشهورة..
فموقف الشيخ المغراوي من فكر الإرهاب وممارساته؛ موقف مبدئي وقوي وراسخ، وأنا على بعض أسرار ذلك من الشاهدين.
[1] رواه مسلم من حديث ثابت بن الضحاك رضى الله عنه.
[2] اسمه: (محمد زنبيبة)، رحمه الله وشكر له سعيه في حفظ أمن إخوانه.
[3] وقد قيل بأن هؤلاء الثلاثة لم يكونوا متدينين، وإنما قتلوا أنفسهم تسخطا وجزعا من أحوالهم المادية المتردية، وقيل غير ذلك، والله أعلم بحقيقة الحال.
[4] دينية أو دنيوية.
[5] من الغلو.
[6] وقد توخيت فيها الاختصار، وعدم التوسع في بيان دلالات النصوص، كما أخليتها من ذكر شبهات أهل الأهواء التي يرُدّون بها الأدلة؛اكتفاءً بما قررته في الباب الثاني؛ مما يمكن عده خطوة في طريق سد باب التأويل الفاسد لتلك الأدلة، وحرصاً على توضيح هذا الحكم لعموم الناس خاليا من كل ما يكدر صفو فهمه، وجلاء فقهه، ومن رام التوسع في ذلك؛ فعليه بكتاب شيخنا الأستاذ المبرز مصطفى بن إسماعيل السليماني: [التفجيرات والاغتيالات؛ الأسباب والآثار والعلاج].