عسكرة البحر الأحمر.. نظرة في دوافع التحركات الأخيرة ودلالاتها
هوية بريس – د. علي جمعة العبيدي
في خضم ما يجري من حشد عسكري وتحركات دولية في البحر الأحمر، لا يمكن القول بأن هذا التطور مستغرب وفريد من نوعه بعد بداية أحداث 7 أكتوبر الماضي، إذ لطالما كانت المضائق البحرية والممرات المائية محلاً للتنافس والنزاع، وخصوصاً في أوقات الصراعات والحروب، فكيف إذا كانت المنطقة المقصودة هي الشرق الأوسط في هذه الحالة !؟ وكيف إذا كان الممر المائي المذكور هو مضيق ” باب المندب ” الذي يمتاز موقعه بأهمية استراتيجية وجيوسياسية كبيرة ومحورية، والذي تمر من خلاله 40% من التجارة بين آسيا وأوروبا!؟
وبالفعل فقد وصلت أمواج طوفان الأقصى لتضرب مضيق باب المندب، وذلك بعد أن بدأ اليمن بشن هجمات متتالية على سفن شحن البضائع المتجهة نحو إسرائيل أو المملوكة لشركات تابعة أو داعمة لها، كان أولها في 19 نوفمبر الماضي، وهكذا توالت الهجمات وتزايد تهديد صنعاء لما اسمته الولايات المتحدة “سلامة” الحركة التجارية في هذا الممر البحري الحساس، فتمخض عن ذلك التهديد المتزايد إعلان الولايات المتحدة – الحليف الأول والأقوى لإسرائيل – عن إطلاق تحالف دولي من قوة حماية بحرية متعددة الجنسيات ضم أكثر من 10 دول، لدعم حرية الملاحة في البحر الأحمر تحت اسم “حارس الازدهار”، وقال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن أن الهدف من التحالف هو التأكيد على التزام الولايات المتحدة وحلفائها بمواجهة التهديدات التي تدعمها إيران في المنطقة. وذلك بعد أن وصفت الولايات المتحدة وإسرائيل الهجمات الحوثية بأعمال القرصنة والتهديد لسلامة الملاحة العالمية، وهو ما رد عليه أحد المسؤولين اليمنيين بقوله أن الهجمات “خطوة شرعية ضمن عملية عسكرية معلنة ومشروعة، من أجل تشكيل ضغط سياسي واستراتيجي وعسكري على إسرائيل لوقف الحرب ورفع الحصار”.
وهنا قد يطرح تساؤل حول مدى تأثير هجمات اليمن على إسرائيل وسير عملياتها العسكرية في غزة، وما هي الدوافع الحقيقية ودلالات تشكيل تحالف “حارس الازدهار” !؟ بالتأكيد إن الجانب الاقتصادي هو الأكثر تضرراً لدى الجانب الإسرائيلي نتيجة للتهديد اليمني في البحر الأحمر، فقد نقلت وسائل إعلام إسرائيلية أن حركة السفن تراجعت في ميناء إيلات الجنوبي بنسبة 80%، وذلك بعد إعلان عدة شركات شحن تغيير مسار سفنها لتجنب المرور عبر مضيق باب المندب، واختيار الدوران حول القارة الأفريقية عبر مضيق رأس الرجاء الصالح للوصول إلى الموانئ الإسرائيلية على البحر المتوسط، وهو ما يزيد من الكلفة الاقتصادية والزمنية، مما انعكس سلباً على الاقتصاد الإسرائيلي المنهك أصلاً خلال الحرب.
يحاول كيان الاحتلال “الصهيوني”، بصورة غير مباشرة تصوير أن ما يحدث في البحر الأحمر لن يؤثر عليه عبر زعمه أن 5% فقط من تجارته تمر عبر ميناء إيلات على البحر الأحمر، لكن من يتابع ردة الفعل الإسرائيلية على الهجمات اليمنية في البحر الأحمر يرى العكس، خصوصاً وأن جميع الواردات من آسيا وتحديداً الصين والهند وكوريا الجنوبية تصل إلى كيان الاحتلال عبر البحر الأحمر وهذه الواردات لا يمكن الاستهانة بها أبداً، فالولايات المتحدة تصنع في آسيا وتعتمد عليها في كل شيء فكيف بكيان الاحتلال، وبالتالي ما يفعله اليمن الآن بكل تأكيد هو أداة من أدوات الضغط على إسرائيل على جميع الأصعدة لا سيما الاقتصادية والدولية، لأن التجارة التي سوف تتأخر والتكاليف التي سوف ترفع وتجبر الدول التي تتعاون معها في آسيا على الضغط عليها.
أما عن التحالف الدولي الذي أطلقته وقادته الولايات المتحدة فمشهد يوحي بكون هذه المبادرة ذات بعد معنوي واستراتيجي أكثر من كونها تهدف لحماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر، لأن هناك قوة دولية موجودة بالفعل وتعمل لنفس الغرض، وهي قوة ” المهام المشتركة 153″ التي شكلت في أبريل 2022، وضمت 39 دولة، ومنها الولايات المتحدة والسعودية ومصر والأردن والإمارات وإسرائيل وغيرها، وذلك بهدف مكافحة “الأنشطة الإرهابية والتهريب” في البحر الأحمر وخليج عدن كما تم الإعلان عنه رسمياً، وهذا يدل على أن تحالف “حارس الازدهار” جاء كرد فعل وإثبات وجود أمريكي في خضم الصراع الحاصل، واستجابةً لضغوط الحليف الإسرائيلي الذي يرى ضرورة القيام بتحركات عسكرية تؤكد الحضور الأمريكي والإسرائيلي وتحقيق الردع المطلوب أمام تهديدات اليمن، ومن دلالات هذه الغاية إرسال إسرائيل لأحدث بوارجها الحربية – ساعر 6 – إلى البحر الأحمر.
ولكن كان من اللافت في عملية حارس الازدهار، أنه ورغم سعي الولايات المتحدة لتوسيع دائرة التحالف لأقصى درجة ممكنة، لم يستطع التحالف سوى أن يضم ما يزيد على 10 دول تقريباً – والعدد قابل للزيادة -، حيث اصطدمت دعوة واشنطن للانضمام إلى التحالف برغبة إقليمية عامة لخفض التصعيد بعد معركة طوفان الأقصى، وهذا ما يفسر موقف الدول التي نأت بنفسها عن الانضمام للتحالف الجديد، كالسعودية ومصر والإمارات، رغم أنها الدول الأعضاء الفاعلة ذاتها في قوة “المهام المشتركة 153″، ويمكن تفسير هذا الموقف بعدم رغبة تلك الدول في مزيد من التصعيد الذي يهدد أمنها واستقرارها، كما تخوفت الدول الممانعة للانضمام من احتمالية توتر علاقاتها مع إيران وأذرعها في المنطقة، فرفضت التورط في أي تصعيد محتمل مع اليمن، وخصوصاً السعودية التي رأت في الموافقة العلنية للانضمام للتحالف إجهاضاً لمساعيها التفاوضية مع صنعاء، وذلك بعد أن وصلت مفاوضات السلام بين الطرفين لمستوى جيد أوقف قصف اليمنيين لأراضيها بالصورايخ والطائرات المسيرة، هذا بالإضافة إلى رغبة الرياض في متابعة مسيرة تحسين العلاقات مع طهران، بعد موافقة السعودية وإيران على استئناف العلاقات بينهما عقب نجاح الوساطة الصينية بين الطرفين.
كما يشير ضعف الاستجابة الدولية لعملية ” حارس الازدهار ” إلى زيادة النفور والغضب الدولي من الموقف الأمريكي الداعم بشكل مطلق وغير مسؤول لإسرائيل، وبالتالي ازدياد عزلة موقف واشنطن تجاه الحرب في غزة، وهو ما دلّ عليه قرار الأمم المتحدة الأخير الذي دعا لوقف إنساني وفوري لإطلاق النار في 13 ديسمبر، وذلك بموافقة 153 دولة مقابل رفض 10 دول فقط للقرار، من بينها الولايات المتحدة وإسرائيل، وكانت الولايات المتحدة قبلها بأسبوع قد استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار مماثل في مجلس الأمن، وذلك في مشهد فاضح عزز السقوط الأخلاقي للولايات المتحدة أمام المجتمع الدولي كما عبر عن ذلك محللون أمريكيون.
علينا أن نعلم بأن القرار اليمني يخص فقط السفن التابعة لكيان الاحتلال أو المتهجة منه وإليه، وبالتالي أي سفن أخرى دولية يمكنها العبور والمرور بسهولة وبدون تضييق، ولكن تحاول إسرائيل والولايات المتحدة تضخيم الملف لحشد أكبر دعم ضد اليمن، والتهديدات الأميركية ليست بجديدة أو فعالة لأن من يسبح لن يخاف من البلل، وبالتالي هل تحاول واشنطن إخافة صنعاء بالحرب؟ التي تخوضها منذ 8 سنوات، ولم يعد سراً أن اليمن يمتلك صورايخ وطائرات مسيرة قد تضر كثيراً بالسفن الأميركية سواء العسكرية أو الاقتصادية، وبالتالي من سيدخل معها في الحلف سيكون معرضاً لنفس الخطر.