عناوين الكتب ومعاناة الكاتب

18 فبراير 2016 22:42
الرّفق بالحيوان وتدمير الإنسان

ربيع السملالي

هوية بريس – الخميس 18 فبراير 2016

لا شيء يُتعب الكاتبَ والشاعرَ والأديبَ كاختيار العنوان الذي يدلُّ على مضمون كتابه، ومحتوى تأليفه، وبنات أفكاره، فتجد الواحد منهم يكتبُ عشراتِ الصفحات في اليوم والليلة، باستمرار وبكل سهولة، لكن إذا انتهى من عمله، وقام تعبُه على ساقه، وجدته يقف حائرًا في اختيار اسم الكتاب كما وقف حمار الشيخ في العقبة قديمًا، وبعد تفكير عميق قد يدوم أيَّامًا، يعثر على عنوانه فيَطرب له ويطمئنُّ، ويُنفق ليله في سعادة منقطعة النظير وكأنه أتى شيئًا لم تَستطع الأوائل والأواخر الإتيانَ بمثله.

ومنهم من يُتعبه التفكير في الحصول على عنوان مناسب فيلجأ إلى مَن يَثِق فيه من أهل الخبرة والصنعة، كما وقع للشاعر “أبو شبكة”؛ فقد قدَّم مجموعة شعريةً له للأستاذ بطرس البستاني قبل طبعِها ومعها مجموعةٌ من العناوين ليختار لها عنوانًا مناسبًا، لكنه لم يفعل، فقد شطب عليها كلها واختار له عنوانًا من اختياره كتبه على غلاف المجموعة: “أفاعي الفِردوس”، فسعد به واعتمده لمجموعته المشهورة الآن بين القرَّاء.

وهذا محمد شكري سيِّئ الذكْر، يسأله صحفيٌّ عن عناوين كتبه فيقول:

عنوان “الخبز الحافي” اقترحه الطاهر بن جلون، أما أنا فقد وضعت لها عنوان “من أجل الخبز وحده” متمثلًا عكس ما قاله المسيح: ليس بالخبز وحده يَحيا الإنسان؛ لأني لم أكن أعيش إلا بالخبز الذي أعياني كثيرًا البحث عنه بمرارة ومذلَّة كل يوم، من الصباح حتى المساء، طوال سنوات الصِّبا.

وعنوان “زمن الأخطاء” اختاره محمد برادة، وهو مأخوذ من أحد فصول روايتي “زمن الأخطاء” طبعًا ليست كل كتبي معنونة من طرف أصدقائي، هذه العَنونَة لا تعقِّدني في شيء. اهـ[1].

وقرأتُ مرةً أن إبراهيمَ المازني كانَ يكتبُ القصة في ساعة، بينما العنوان يستغرقُ فيه أكثر من ساعتين، وهي مبالغة بطبيعة الحال، لكنها كناية عن الصعوبة في اختيار عنوان يستفزُّ القارئ ويلفتُ نظره ويثير دهشته.

يقول زيد قطريب: يلجأ الكثير من الكُتاب إلى تكليف أصدقائهم بقراءة المجموعة الشعرية قبل طباعتها؛ من أجل اختيار عنوان مناسبٍ لها، وشخصيًّا أعرف العديد من الكُتاب الذين اضطروا لتأجيل طباعة كُتبهم مرات عديدة بسبب التردُّد في اختيار العنوان، هنا يُمكننا أن نعلم مدى تأثير العنوان على النص وعلى الكاتب الذي سيكون عليه التعامل مع العنوان المختار طيلة تجربته الأدبية؛ لأنه سيرافقه مثل اسمه تمامًا، ولن يكون بالإمكان بعد اتخاذ القرار بالطباعة أن يعود الكاتب أدراجَه فيغيِّر العنوان مرة ثانية.

إذًا؛ فالعنوان يحتاج إلى الكثير من التأنِّي وحسن الاختيار؛ فهو العلامة الفارقة التي ستُرافق التجربة، ولن يكون بالإمكان خلعها أو نكرانها والتخلِّي عنها مهما يكن من أمر[2].

وليسَ كل عنوان يكون موفَّقًا، ومُميزًا كتميز المضمون؛ فقد تجد العنوان لا يستهويك، ولا يحرِّك شعرة فيك، بينما مضمونه -لو تعلَم- تُضربُ في سبيله أكباد الإبل، وكذلك العكس، فقد تجد العنوان الفاخر الجذَّاب الذي أبدع فيه صاحبه أو صاحبته الإبداعَ كله؛ لكن المضمون تافه أكثر مما يُتصوَّر، وهذا حال أغلب الكتب المعاصرة للأسف، لذلك أهتبلُ الفرصةَ هنا، لأقول: إياكم وخداعَ العناوين؛ فالكتب كالمرأة السافرة المتبرِّجة المصنوعة بيد “الكوافير”، التي تبهر أعين الرجال أو أشباههم؛ لكن إذا اقتربت منها وسوَّلت لك نفسك الاقتراب منها، ندمت ندامة الفرزدق حين راحت مُطلقةً منه نُوار رحمها الله.

يقول الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي في مقالة له بعنوان “خداع العناوين”: لقد جهل الذين قالوا: إن الكتاب يُعرَف بعنوانه، فإني لم أرَ بين كتب التاريخ أكذبَ من كتاب “بدائع الزهور” ولا أعذبَ من عنوانه، ولا بين كتب الأدب أسخفَ من كتاب “جواهر الأدب”[3].

وهناك مَن يجعلُ العنوان في سطرين فيُتعبنا، ويتعب ذاكرتنا في الاحتفاظ بأسماء الكتب التي نُحبُّ أن نَحتفظ بها، كما فعل ويفعل كثير من علمائنا من المغاربة رحم الله أمواتهم، وحفظ أحياءَهم، فرغم غزارة العلم والفوائد والدرر التي تُبثُّ بين دِفاف كتبهم، فإن العناوين التي يختارونها تكون حاجزًا بين القارئ والكتاب، فيبتعد عنها، ابتعادَه عن الملل والسأم، وهذه بعض النماذج نذكرها كمُستملحات:

  • “المعيارُ المُعرب والجامعُ المُغرب عن فتاوى أهل إفريقيا والأندلس والمغرب” هذا الكتاب عندي بمجلَّداته الثلاثة عشر من عشر سنوات تقريبًا، وإلى حدود كتابة هذه الكلمات لم أحفظ اسمه كاملاً، دومًا تخونني الذاكرة في استذكاره، فأكون من ضعفاء ومتروكي العُقيلي، بل صدِّقوني حتى اسم مؤلِّفه عليه رحمة الله، كأنه اسم ياباني أو صيني، فقد تعبتُ كثيرًا وأنا أحاول حفظه “الوَنْشَرِيسِي”؛ لذلك صرنا نَختصر اسمه إذا جاء المناسبة لذِكره فنقول: ذكره الوَنشريسي في المعيار المعرب.
  • كتاب “العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، فانظر -يرعاك الله- إلى هذا العنوان الذي هو بالنسبة لأمثالي من ضعفاء الذاكرة كقلع ضرس، وضرب حبس، ونزع نفس، ورد أمس؛ لذلك صِرنا نختصره أيضًا، فنقول: تاريخ ابن خلدون.
  • سَلُّ النصال للنصال بالأشياخ وأهل الكمال؛ للعلامة عبدالسلام بن سودة، هذا أيضًا من العناوين الطريفة، ورغم ذلك فهي مُتعبة.

وعلَّل ذلك أحدُ الكُتاب بقوله: ولحرص كثير من العلماء على حفظ منتجاتهم الفكرية وكتبهم العلمية، لجؤوا إلى وسمها بالعناوين الطريفة أو المسجوعة، كما اختار بعضهم لبحوثه وكتبه مواضيع غاية في الغرابة وآية في الطرافة، حتى أصبحت مثل هذه الكُتب أحدوثة ذلك الزمان، وحديث الناس في كل مكان، وقس على هذا ما كان يلجأ إليه البعض من تدبيج القصائد والأشعار لغرض حفظ المعلومة وسهولة تذكُّرها.

أما في العصر الحديث فقد تطوَّرت العناوين تطوُّرًا كبيرًا، ففي بعضها وضوح يكشف عن محتوى الكتاب، وفي بعضها الآخر غموض يجعل القارئ يتساءل عن المضمون.

وهناك أمثلة كثيرة، وليسَ قصد مقالتنا تتبُّعها.

يقول الدكتور عبدالملك مُرتاض في مقدِّمة كتابه “الجدل الثقافي بين المغرب والمشرق”:

بقي الآن أن يعرف القارئ شيئًا عن عنوان هذا الكتاب الذي بين يديه؛ أعترفُ أنني ما عانيت صعوبة في العثور على عنوان جامع مانع، كما كان يُقال، ويكونُ مع ذلك مختصرًا يقع في جملة واحدة، مثل ما عانيتها في الوقوع على عنوان ملائم لهذا الكتاب؛ فقد ارتأيتُ أول الأمر أن يكون “التفاعل الثقافي بين الجزائر والبلدان العربية”، ثم بدا لي فيه، فأبدلتُه بـ “الثقافة الجزائرية بين التأثير والتأثر”، ثم بدا لي فيه أيضًا لِما امتُحنا به من وجود ثقافة ذات لسان فرنسي، فخشيتُ أن يلتبس الأمر على القارئ فيُخدع بالعنوان؛ ثم بدا لي أن يكون “الفكر الجزائري الحديث بين التأثير والتأثر”، بيد أن لفظ “الفكر” وإن كنا نُقرُّ وجوده، فإنه ربما كان أكبر مما وددنا معالجته: فهو لفظ ضخم، ونخاف أن يكون مدلوله في هذا الكتاب أكبر مما هو عليه في وضعه، فعزفنا عن هذا العنوان أيضًا، وعدلنا عنه آخر الأمر إلى هذا؛ “الجدل الثقافي بين المغرب والمشرق”، وعلى الرغم من كل هذا العناء، وتقليب كل هذه العناوين وإبدال بعضها ببعض، فإن النفس لا يزال فيها شيءٌ من هذا العنوان الأخير ذاته؛ ذلك بأنه ليس أفضل العناوين الأخرى التي عنت لنا من قبل[4].

قال ربيع: فانظر إلى هذا التخبُّط وهذا الاضطراب، وهذه الحَيْرَة في اختيار العنوان، وهذا مثال واحد فقِس عليه؛ لذلك قال نور الدين صمود في كتابه “هزل وجد”: إذا كنتَ من الذين ألَّفوا، ولو كتابًا واحدًا في حياتهم، فإنك قد ترددتَ كثيرًا في اختيار العنوان الذي تضعه على غلافه، فالأمر بالفعل محيرٌ يدعو إلى التردُّد والحيرة[5].

صدقَ جُعلتُ فِداه، فحين انتهيت من كتابي الأول “أفكار على ضفاف الانكسار” بقيتُ أيامًا حائرًا، مترددًا، في اختيار الاسم اللائق به، المناسب للمضمون، فكتبت أكثر من ستة عناوين وشطبتُها كلها، ولم أرضَ عن واحد منها، إلى أن انتهيتُ إلى الاقتناع بهذا العنوان، الذي هو الآن بين يدي القراء، ورغم ذلك فلستُ مطمئنًّا إليه كل الاطمئنان، ووقعتُ في ما وقع فيه غيري من المغاربة، أقصد التطويل والسجعة “أفكار.. انكسار”.

وهناك عناوين بعض الكتب تبعث على الضحك، وتحملُكَ على الفكاهة، وتجعلك تقتني الكتاب من أجل ذلك؛ فالمرزباني مثلاً جمع رسالة سماها: “تفضيل الكلاب على كثير ممَّن لبس الثياب”، والجاحظ -هذا الأديب الفكاهي الشعبي الذي لا تخلو كتبه من نوادر وطُرف- له كتاب اسمه “البرصان والعُرجان والعُميان والحولان” فأنت حين ترى مثل هذا العنوان تَبتسِم تلقائيًّا، وتَقتني الكتاب لأن عليه اسم الجاحظ أولاً، ولأن عنوانه وموضوعه غير مسبوقين ثانيًا، كما وقع يوم اقتنيته.

وهناك بعض الأوغاد يستفزونك بعناوين تقدح في الشريعة؛ كالبيطري الجاهل الذي ألف كتابًا سماه: “تذكير الأصحاب بتحريم النقاب”، فتصدَّى له أهل العلم، فأظهروا جهل الرجل وحُمقه.

ومما يَنبغي التنبيه عليه: تلك العناوين التي تكون متشابهة، فقد تجد العنوان الواحد يَشترك فيه كثير من العلماء، تقليدًا أو عفو خاطر؛ كعنوان “جمع الجوامع” فقد أحصيتُ في كتاب “كشف الظنون” للحاج خليفة ستة كتب بالعنوان نفسه، وكذلك عنوان “الأشباه والنظائر”، ومثل هذا كثير لا حاجة بنا لاستقصائه.

وهناك من العلماء وطلبة العلم من يضع العنوان أولاً وخطة الكتاب، وعناوينَ فصوله قبل الشروع في العمل، وقد ذكر شيخ الأزهر سابقًا الدكتور عبدالحليم محمود في كتابه “الحمد لله هذه حياتي” أن الرئيسَ “ابن سينا” حينما كان يعزف على تأليف كتاب: كان يعتكف – يومين أو ثلاثة – اعتكافًا كاملًا، أو شبه كامل، ويأخذ في وضع عناوين للأجزاء؛ جاعلًا لكل جزء دفترًا، ثم يأخذ في وضع عناوين للأبواب – في ثنايا الأجزاء – ويترك في الدفاتر فراغًا بين الباب والباب، ثم يأخذ في وضع عناوين الفصول في الأبواب، تاركًا فراغًا بين كل فصل وفصل، بما يقدر أنه يكفي للفصل، ثم يأخذ في وضع إشارات سانحة لما عساه يكون فقرات، ثم يخرج من معتكفه معتبرًا أن ما بقي من الكتاب إنما هو تشطيبه فحسب وأنه في الوضع “السينوي” قد انتهى من تأليفه، وبعد ذلك يحمل معه الكتاب أينما سار. فيكتب -بحسب الظروف- كلمة هنا، وكلمة هناك: في هذا الفصل، أو ذاك، من أواخر الكتاب، أو من منتصفه، أو من أوله بحسب الفكرة المواتية[6].

وهناك بعض الكتب تكون بلا عناوين يتم جمعها من هنا وهناك كالمقالات والفتاوى، فيختار لها النساخ قديمًا، أو بعض العلماء والباحثين في العصر الحديث عنوانًا مناسبًا، وبعض الكتب يتصرفون في عناوينها، كما وقع للعِقد لابنِ عبد ربه الأندلسي، فقد زادوا فيه كلمة الفريد، فعُرف بين الناس بـ”العِقد الفريد”.

وهناك عناوين خادعة، وإن شئت فقل ذكية، يقصد بها أصحابها استدراج القارئ، حتى ولو كان من المخالفين؛ كما فعل الشيخ أبو بكر الجزائري، فهو سلفي العقيدة بحمد الله، ألف كتابًا في الرد على التصوف سماه “إلى التصوف يا عباد الله” فأنتَ تفهمُ من الوهلة الأولى أن الشيخ يقصد إلى مدح هذه الفرقة الضالة والدعوة إليها، بينما العكسُ هو الصحيح.

وفي الأخير أعتذر إليكم عن هذه الاستطرادات، فالحديثُ عن عناوين الكتب ذو شجون؛ لذلك نسيتُ نفسي فاسترسلتُ في الحديث، وكدت أخرج عن صلب الموضوع.. ودامت لكم المسرَّات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] حوارات (ص:20) لمحمد شُكري.

[2] من مقالة على الشبكة العنكبوتية.

[3] النظرات (2/62).

[4] الجدل الثقافي بين المغرب والمشرق (ص:6).

[5] جد وهزل (ص:99).

[6] الحمد لله هذه حياتي (ص:8).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M