في معركة الواقع بين الحق والقوة…

05 نوفمبر 2023 13:11
ورطة الصهاينة بعد الاجتياح البري تلاحم عنيف بين القسام

هوية بريس – مريم رضوان

الحمد لله الذي جعل لنا القرآن آية خالدة إلى يوم نلقاه، حفظه بحفظه التام فلا مجال للشك فيه أو الارتياب، وفي كل سورة منه آيات تجعل قارئه يزداد إيمانا ما ارتجى فيها زيادة في الإيمان، وتزيده يقينا ما ارتجى فيها زيادة في اليقين.

يخبرنا الله تعالى أنه على الإنسان التأمل المستمر في الأرض التي يمشي عليها، مستنكرا كيف له أن يمشي في نفس مساكن من سبقوه دون أن يتعظ ويعتبر. ولعل تأكيده على ضرورة الانتباه إلى المساكن هو في الحقيقة تأكيد على ضرورة الاستفادة من سير حياتهم واختياراتهم ومصائرهم كما حدثنا القرآن عنها، وكما فصلتها لنا كتب السيرة. ومن أبرز القصص التاريخية التي يحدثنا القرآن عنها، قصص بني إسرائيل مع الأنبياء الذين بعثوا إليهم، والمعاناة الطويلة التي عاشوها مع من كفر منهم من الأشقياء الذين لا يؤمنون ساعة إلا ليكفروا بعدها وكأن الإيمان لم يصل إلى قلوبهم أبدا. لقد فصل لنا نبينا الكريم ما تركنا عليه من المحجة البيضاء التي إن اهتدينا بها هدينا، ومن جملة ما جاء فيها صفات المؤمنين والكفار والمنافقين، من مختلف ما انتسبوا إليه من الكتب السماوية.

ولا يمكن للإنسان الذي عاش شهر أكتوبر من سنة 2023 أن يكون أكثر امتنانا لغزة من أي وقت مضى، ذلك أنها أيقظت فيه ما تبقى من ضميره الإنساني ومن غيرته على دينه ومن عروبته الباهتة. امتنان مطبوع بحزن الفاقد الجريح وممزوج بفرح المنتصر الشهيد، وكل ما جلبته معها تلك المشاعر النبيلة المستمدة من روح الدين والمعنونة بتمجيد الحق ورفض الظلم والانتصار لطهارة الأرض.

إن الذي يحدث الآن من تحالف دولي لصالح كيان الاحتلال ما هو إلا تعبير صريح عن مفهوم الغرب للعدالة والتوازنات، بحيث تتخذ هاته المفاهيم معاني مختلفة باختلاف الأطراف المعنية، فإذا كان للغرب مصالح في بقعة جغرافية ما فإنه ينتفي عنها وعن أصحابها كل حق في مقابل حقه فيها، وبالتالي فالعدل والإنسانية والوازع الأخلاقي هي مفاهيم لا تكتسي نفس المعنى عند طرفي الصراع، وهي على نفس الاعتبار تجعلنا أمام معادلة غير عادلة.

لقد انتبه بعض المفكرين والإعلاميين والمؤرخين سابقا إلى ضرورة التنبيه إلى خطورة الرواية الإسرائيلية سواء فيما يتعلق بتاريخ اليهود وادعاءاتهم أو حاضرهم ودوافعهم، بدء من الافتراضات التي مهدت لقيام دولة إسرائيل كافتراض كون فلسطين أرض بلا شعب، وكون المجتمع اليهودي شعب بلا أرض، وأن الهولوكوست لم يتضرر منها غير اليهود وأن عدد اليهود الذين تم حرقهم يناهز الست ملايين، وغيرها. كل هاته الافتراضات تعرض إليها أولئك الباحثون بالفحص والنقد والتدقيق، فقد اعتبر الصحفي دوغلاس ريد -صاحب كتاب الجدل حول صهيون- على سبيل المثال بأن الفلسطينيين كانوا أيضا، بدون ذنب، ضحايا الهولوكوست حين فرض عليهم الضمير الأوروبي الحركة الصهيونية ككفارة عما تم ارتكابه في حق اليهود. ولعل هذا ما يفسر اصطفاف ألمانيا اللامشروط بجانب الاحتلال وضدا لأي محاولة فلسطينية للتحرر، وكأنها بذلك تبتغي نسيان جزء من تاريخها وتلميع حاضره ومستقبل. ولكن هل ينسى الإنسان تاريخه؟ أبدا، ولو نسي كل العالم لا ينسى. وإن الذي يحدث في حقيقته ما هو إلا استبدال هوية المظلوم في الطرف الآخر، مع الإبقاء على الطرف الظالم نفسه. وقد وافق السيد دوغلاس ريد الكثيرون ممن خلصوا إلى تهافت الأطروحة الصهيونية وأظهروا زيف افتراضاتها المدعاة، قبل أن يتم التصدي لهم وقمع أصواتهم واتهامهم بالكراهية ومعاداة السامية. وقد اجتهد روجي جارودي في إعادة تعريف الصهيونية، حيث جعل لها تعريفا أكثر تعبيرا ووضوحا، فهو يرى بأنها لا تعدو أن تكون مجرد مذهب سياسي وقومي واستعماري، لا علاقة له بالفكرة الروحية ذات الطابع اليهودي، وقد بين كيف أنه تم استغلال هاته الأخيرة من أجل تزكية فعل لم يكن له منطلق غير الرغبة في الحصول على أرض يستوطنها بغض النظر عن أي تفصيل آخر، إلا أن أطروحة الأرض الموعودة أضفت عليها طابعا أكثر عمقا وتأثيرا ساهم في تشجيع اليهود من مختلف الأوطان والجنسيات على دعم فكرة الاحتلال وتأسيس دولة تسمى إسرائيل على حساب أرض فلسطين التاريخية، ويوافقه في ذلك الدكتور عبد الوهاب المسيري، حيث يرجع جذور الصهيونية إلى عمق التاريخ الغربي ويعتبر بأنها كفكرة في جوهرها معادية للعقيدة اليهودية بسبب تحريف الجزء المتعلق بحلم العودة والمترتب عن ظهور المسيح المخلص، والذي يعني أن إقامة وطن لليهود قبل ذلك من طرفهم لا يؤدي إلا إلى استعجال نهايتهم ولا يكون إلا تعبيرا عن العصيان وعدم الطاعة مرة أخرى.

ومنذ نشأة هاته الفكرة وتمكين المجرمين من أساليب تنزيلها قبل عقود من الزمن ، بات كل الذي يحدث في العالم الغربي والعربي مجرد نتائج عملية ووقائعية لسنوات من التخطيط والإعداد الممنهج لسياسة تزوير الحقائق التي انتهجها رواد الصهيونية -أو كما سماها روجي جارودي بعملية التعمية الفكرية- فباشروا في الفور باستغلال التاريخ بدءا من بعض ما ينسب لتلموذهم من معطيات حول أرض لليهود، وانتهاء بالهولوكست للتموقع في مصف الضحايا واسترزاق مكتسبات جديدة مبنية على تلك الجملة من التضخيمات والخرافات والأساطير التي اشتغلت على ملاءمتها للسياق عقول خبيثة، كانت تعي تماما أهمية الجغرافيا في اكتساب الشرعية الدينية وإضفاء طابع الحق على مكتب مغتصب لا حق لها فيه. وقد استمر مسلسل المكر والكذب والتضليل والادعاءات الفارغة والخائنة إلى يومنا هذا، ففي كل حرب تقوم بها إسرائيل ضد الفلسطينيين، نرى بشكل جلي ذلك الأثر الذي لم يغيره الزمن، أثر الخديعة والاحتلال، فيستعملون الكذب من أجل تبرير اجتياحاتهم وانتهاكاتهم السافرة في حقوق الأرض والعباد وكل ما من شأنه أن يقنع العالم بمظلوميتهم رغم وضوح وضع الظلم إلى درجة البيان، والغريب الذي لا يفهمه إلا متابع مستوعب للتاريخ هو أن تلك الأكاذيب لا تنطلي إلا على الساحة العريضة من العوام، وأما رؤساء الدول الغربية والعربية فيعرفون بالضبط حقيقة الكيان، ومع ذلك يختار منهم من يشبهونه الاصطفاف إلى جانبه ودعمه من أجل مصالح مشتركة، يختلط فيها المفيد بالمستفيد، فكل مساهم في تلطيخ الأراضي الطاهرة بالدماء يصير بعد مدة أشبه بمن معه من نفسه، ولا يستثنى دم بعضهم البعض من إمكانية النزيف بعد انقضاء المصلحة، فهذا في الأخير يلخص مبدأ الوجود في قاموسهم مترجما بحق القوة.

إلا أن لله في هذه الأرض التي جعلها مقر حياة الإنسان في الدنيا قوانينا وسننا موضوعة، تُستوعب عبر قراءة المخفي من الأحداث والوقائع بعد انقضائها، وهي الدليل للإنسان لإحراز تقدم في فهم الماضي واستثمار الحاضر والتخطيط للمستقبل، وإن كل استشراف يتجاهل هذا الشرط لا يكتب له النجاح بمعناه الإصلاحي ولا ينتج تراكما تقنيا أو معرفيا قادرا على المساهمة في ريادة الأمة. ولعل من أهم السنن التي نتحدث عنها سنة عزة الأمة، والتي جعل الله لها شرط الصلاح قرينا، فلا يستقيم أن نتوقع عزة يقودها ظالم هنا مدافع عن الحق هناك، ولا مستبد طاغية في أرضه يسعى إلى تحقيق العدل في وطن حاكم آخر، ذلك أن الحق واحد، وهو كل لا يتجزأ، فلا قلب لمؤمن يرضى لأخ له الموت ظلما ويأبى لآخر إلا موت العز، بل هي العزة لهم جميعا ما يدفعه لأن يكون إيمانه وعدله عاملان مساهمان في ابتغاء النصر للأمة جميعا، وبهذا وفي ظل هاته المعركة وغيرها فإن مشاركة الدول الظالمة في صناعة النصر المجيد أمر مستبعد، فلا فاسد أو طاغية ينال شرف النصر والشهادة، وهذه سنة يزكيها كتاب الله وواقع التاريخ الإسلامي بعد ذلك، فما دخلت الأمة في ظلام الجهل إلا باستبداد حكامها وطغيانهم وإهمالهم لدورهم في بناء مجتمعات إسلامية مستوعبة لدينها وعلى انسجام مع تعاليمه دون ترخيص للحكام، يبيح لهم نقض نفس التعاليم. ولهذا علينا ألا نستغرب تغير ملامح التحالفات وطبيعة الخريطة الجيو استراتيجية في المنطقة، فنحن اليوم بصدد التمهيد لعهد جديد، تخلى فيه الشركاء التاريخيين عن دورهم في مسيرة تحرير القدس، وظهر فيه حجم العدو الحقيقي دون مبالغة، وسيترك المجال لهاته الدول بعد ذلك لإعادة ترتيب علاقاتها السياسية والديبلوماسية وفقا لما تم تجميعه وتحديثه من معطيات. ولكي أربط هاته الفكرة بالفكرة السابقة، أستدرك القول بأن وعد الله وأمره يُسخر له من يشاء، ولو كان العدو نفسه، ولكن الأجر والثواب لا يكون إلا من نصيب صاحب الحق، مستشهدة على هذا بقصة سيدنا موسى عليه السلام الذي أنقذه الله وجعل فرعون يكون السبب في نجاته وبقائه قبل أن يتعرف عليه كعدوه الذي سيشهد نهايته ونهاية جبروته، فلم يكتب للفرعون من أجر الإنقاذ أو النبوة شيء، إذ أنه كان مُستخدما لفعل ذلك لتتم كلمة الله، وبالتالي فلا يجب استبعاد استخدام قوى الغرب في معركة التحرير ذاتها وفي معركة النصر حين يقدر لها الحدوث.

وفي سياق رفض الظلم ومشروع تحرير فلسطين، تنبأ إيلان بابيه -وهو مؤرخ إسرائيلي- باقتراب موعد زوال الاحتلال بسبب ضعف مقومات البقاء في فلسطين، إذ لم تغير من واقع العلاقة بينها وبين من قامت باحتلالهم، مشيرا إلى أن الوضع في غزة أشبه بما حصل إلى حد ما بالاحتلال الأمريكي الذي تعرض له العراق، حيث عرفت الولايات المتحدة الأمريكية كيف تحتل العراق، لكنها لم تكن تعرف كيف تبقى فيه. وهذا على أية حال رأي الكثيرين من المفكرين وعلماء الاجتماع والسياسيين، بما فيهم الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي ميز في إحدى المقابلات الصحفية التي قام بها بين مختلف الكائنات المحتلة، فشبه بين احتلال أمريكا وأستراليا للقارتين المذكورتين وعاز نجاح احتلالهما إلى تمكنهما من إبادة السكان الأصليين وطمس هويتهم وثقافتهم، وبين احتلال إسرائيل الذي فشل في تحقيق أبسط الإنجازات على مستوى القضاء على ثقافة وأهل أصحاب الأرض، مشيرا إلى أن هذا النوع من الاحتلال محكوم عليه بالفشل وسينتهي بزواله على يد أصحاب الأرض.

وأما عن هاته المعركة بالذات، فإن التكالب الذي شهدناه من طرف قوى الغرب في سبيل تبرير جرائم الكيان الصهيوني استثنائي من جانب التصريح بذلك، فقد شكلوا تحالفا أعاد لنا ذكرى النكبة الحزينة، اجتمع فيه نفس المساهمين في تمكين احتلال أرض فلسطين على هدف واحد مرامه دحر حركة المقاومة والقضاء على أهم ثغر من ثغورها ومسح غزة من على خريطة فلسطين التاريخية وإبادة أهلها جميعهم. وذلك باستعمال مختلف الوسائل المحرمة والمجرمة دوليا في جميع المجالات العسكرية والإعلامية والاجتماعية، وارتكاب مجازر غير مسبوقة وتخليف أضرار دائمة تعيق عملية الشفاء السريع في حالة ما تم انتصار المقاومة ووقف العدوان قبل تحقيق المراد الخبيث.

وقد أبان ذلك عن أمر في غاية الأهمية، لم يكن ظاهرا إلا لأولئك الذين خبروا تاريخ الغرب وعاشوا وعانوا من ظلمه وطغيانه، ألا وهو نفاق المعجم القيمي الذي يتبجح به الغرب وينشدون في كل محفل ديمقراطي باسمه، فينصبون أنفسهم على كرسي سادة الأخلاق والحرية، ويعلنون حقهم في تصنيف الدول بناء على مضامين المعجم المخادعة، وفي لحظة الحقيقة، تقابل الوجه الحقيقي للمصطلحات حين يتم مناداة السياق لتنزيل تلك القيم العظمى، فتكتشف عنصرية الغرب وقبحه في انتقائه لمن يتم في حقهم مناداتها، وقراره في من يحرم من كل حقوقه وفوق كل ذلك يصير هو الظالم بعد أن استحيلت عنه المفاهيم الإنسانية وغدا وحشا في أعين الناس لا يستحق الحياة، بينما هو المظلوم الذي وجب الانتصار له إن تجرد الاصطلاح من انتقائية مدعي فقهه، فأصبحت الكلمات من قبيل الحرية والإنسانية والدفاع عن النفس ألعوبة في يد جهال معتدين، لهم منصات القرار والتوجيه، يغشون النور عن أعين المبصرين فلا يبصرون..

ولما كان الإسلام دليلا لمكارم الأخلاق، اعتمد في تربية الناس على تدريب نفوسهم على إخضاعها للحق مرغمة في سبيل الانتصار لفكرة الحق، كان لذلك الأثر الكبير على نفسية المسلم وسلوكه في الحرب كما في السلم، فميز الحد بين المنزلتين، منزلة الإنسان ومنزلة ما دونه، وحثه على التزام المنزلة الأولى كيفما كان الحال، والأمر كله مرتبط بكون الإنسان خلق الله، يبعث فيه الحياة ليعبد الله ويؤدي رسالته في الأرض، فإن هو شاء ذلك وعمل على العمل به، تجلى له أن ما بعد الموت ليس شأنه، وأن الحياة فرصة لدعوة الناس إلى الخير، وأنه في حال المعاداة والحرب، لا يكون فعل الزجر إلا لإبقاء كلمة الله هي العليا، فالغرض ليس القضاء على الإنسان الآخر، وإنما القضاء على الشر الذي يصدر منه، وفي هذا يكمن سر المعادلة، وسر التوجيهات الربانية التي تدعو الإنسان إلى الإحسان حتى في مبارزة الأعداء، واستهداف الأشرار حصرا، دون من قد يرجى منهم إقبال على الإسلام أو خدمة للمسلمين ممن لا قدرة لهم على إلحاق الأذية في ذلك السياق، وفي كل هذا دروس أخلاقية ينبغي على العالم بأسره الاطلاع عليها والتزود من معينها.

وأما على المستوى العربي والإسلامي، فإن اختلاف سرعة الاستجابة والتصديق والتفاعل مع ما حدث في السابع من أكتوبر لمؤشر على مدى شعور الفرد بالانتماء لأمة الإسلام، وكي لا أكون مجحفة في حق من لم يكن له علم بناء على ما أظنه، فسأكتفي بذكر مختلف الأصناف حسب درجة الاستجابة وسرعتها، فمن بين ناصر مباشر ومتردد في النصرة ومنتقد للفعل من أصله ورافض للمقاومة ومدافع عن الاحتلال، يأخذ شكل الاستجابة معاني أكثر عمقا بالقياس إلى طبيعة اختياراته الفكرية والدينية والاجتماعية في الحياة، فما الشدائد في نهاية المطاف إلا اختبار لسلامة ومشروعية تلك الاختيارات. لا أعلم إن جاز لي التشبيه، ولكنني أراه قريبا من حدث تلقي قريش والصحابة لخبر إسراء ومعراج رسول الله، فمنهم من كذب به وارتد عن دينه، ومنهم من تريث حتى يتبين، ومنهم من استعصى عليه التصديق وصدق في النهاية، ومنهم من صدق بذلك دون قيد أو شرط. وأستدعي هنا الحديث الذي رواه الحاكم في مستدركه -وصحَّحه الألباني- عن عائشة رضي الله عنها قالت: “لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المسجد الأقصى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَوْا بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بكر رضي الله عنه، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ. قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ؛ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ. فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أبو بكر الصديق”.

وقد يتم على نفس المبدأ قياس اختلاف درجة الثبات حسب اختلاف المواقع، فالقريب المشارك ليس كالقريب المستهدف وليس كالبعيد المشارك أو البعيد غير المهتم، بل هي مراتب مرتبطة في مجملها بأصناف الاستجابة، وكذا بعامل الجغرافية الذي بالرغم من كون الإسلام يلغي تأثيره السلبي حين يذكر الأثر بأن الاهتمام بأمر المسلمين مرتبط بشرط علم أحوالهم حصرا، وأنه لا يستقيم في حال العلم التجاهل وعدم الاكتراث، إلا أنه وفي زمن اختلفت فيه أولويات الناس، بات شائعا شذوذ الرأي إذا كان المناقش حوله مسلم في مكان آخر، وهذا في حد ذاته أمر يبعث على الاستياء ويدق على الأمة ناقوس الخطر.

إن الهدنة التي تدعو إليها أمريكا تظهر حجم الضرر الذي تعرضت له، والذي يبدو أنها قد بدأت أخيرا تستوعبه، وهو ضرر يعبر عنه اليوم الشعب الأمريكي نفسه، حيث لعبت وسائل التواصل الاجتماعي، رغم التعتيم الإعلامي الشرس، دورا مهما، خصوصا في إيضاح مآلات وآليات صرف الضرائب المرهقة التي يدفعها الأمريكيون ليجدوا أنفسهم مشاركين في عملية الإبادة الممارسة على شعب غزة، وهو الأمر الذي لم يستحسنوه، ليس بالضرورة حبا لهؤلاء، ولكن حرصا على أموالهم وضدا على سياسة دولتهم، وفي كل خير. ثم إن التحول الذي يعيشه العالم يجعلها من جهة أخرى أمام تحديات كثيرة، فتعدد جبهات الاستنزاف والدعم من شأنه إضعاف قدراتها الاقتصادية واحتدام الصراع الاجتماعي بين مختلف مكوناتها، مما قد يؤدي إلى توجيه نظرها، كما جرت عليه العادة، إلى مصادر ومواقع جديدة أو إلى فرض قواعد وشروط محدثة على دول الخليج وإرهاقها بالالتزامات المادية أو استغلال قواعدها وحشرها في جبهات الصراع المختلفة وهذا بالذات قد يمهد لمرحلة جديدة من مراحل الصراع العالمي.

إن الذي يملكه العالم العربي والإسلامي اليوم من أمل للاستقواء والتقدم الحضاري هو في تعزيز لحمته وإعادة إحياء حَمِيته، أولا بين مختلف البلدان المشكلة له، وثانيا مع شركائه الجغرافيين والجيو استراتيجيين خصوصا من جهة الدول الإفريقية ونظيرتها الاسيوية. وكذا من جهة توحيد موقفه من العالم الغربي والاستغناء عما يمكن الاستغناء عنه من تبعية مادية وقيمية، تجر عليه مفككات الوحدة الداخلية.

إن واجب اللحظة يدعو إلى نفير عام، على مستويين، فأما المستوى الأول فمرتبط بزمن المعركة القائمة اليوم، وأما المستوى الثاني فمرتبط بزمن التحرير مهما طالت عمليته. الأول يستلزم تكثيف الجهود والمبادرات الشعبية في كافة أنحاء العالم لإيقاف العدوان المتجبر والضغط على مسؤولي الدول العربية والغربية للدعوة الفورية لإيقاف إطلاق النار وإعادة إعمار غزة والاستجابة لصفقة التبادل ومعاقبة إسرائيل على جرائم الحرب التي لم تراعي فيها القوانين الدولية أو الأعراف الإنسانية. والثاني يستلزم مراجعة شاملة لحالة الشعوب والأنظمة العربية وتدقيقا للأولويات، وإعادة النظر في المفاهيم التي يتغنى بها الغرب ويُعير بها بقية الدول في العالم عامة والدول الإسلامية والإفريقية خاصة، وكذا في العلاقات مع الدول العربية والغربية التي اتخذت موقفا ظالما ظلما بائنا أمام أنظار الجميع، دون أن يكون من فوقها من يقيم مواقفها أو يستنكرها أو يُخضعها للمساءلة القيمية والأخلاقية. ومن جانب آخر، يجب على الدول العربية استيعاب أن نموذج تحالف الظلم الذي شهدوه لا يستثنى منه أي منهم ما داموا على ضعفهم وارتهانهم إلى رحمتهم، وأخيرا أنه لا سبيل للشعوب المسلمة إلا الاستمساك بحبل الدين الذي يرتقي بهم من مراتب الذل والخنوع إلى مراتب العز والكرامة.

وفي الختام، لا يسعنا إلا أن ندعو لشعب غزة وحكومتها ومقاومتها الباسلة بالنصر والحرية ونطالب سياسات الدول التي ننتمي إليها بالوقوف وقفة رجل واحد مع إخوانهم الذين هم في أمس الحاجة إلى عضد أخوة العروبة والإسلام، وأن نساهم ما استطعنا في معركة صناعة الوعي، وإيقاظ هاته الأمة التي باتت مشدوهة أمام الظواهر الكلامية التي ينتجها الغرب والتي لم يُعدها إلا لغرض الإيهام والإبهام، وأما حقيقتها وحقيقة السياسات الدولية فقد أصبحت مكشوفة للعالم الآن بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتم نقل ومشاركة كل مظاهر التناقض البئيس على مرأى ومسمع الجميع، ليتعظ من شاء أن يتعظ.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M