من كذب عليّ متعمداً

14 مارس 2023 20:37

هوية بريس – مولاي التهامي بهطاط

يبدو أننا تجاوزنا مرحلة الجهل، إلى مرحلة الاعتزاز والتباهي بهذا الجهل، في مجال العلوم الدينية تحديدا.

لكن لابد من التفريق بين مستويين:

مستوى من حددوا وجهتهم عن وعي وقناعة وتنكبوا الصراط المستقيم؛ ومستوى “التابعين” الذين إذا مالت الريح مالوا حيث تميل، وهؤلاء -أو بعضهم على الأقل- هم المستهدفون بهذه السطور.

لنتأمل بداية الأحاديث التالية:

– “من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار” (البخاري ومسلم وغيرهما).

– “إن كذِبَاً عليَّ ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار” (البخاري).

– “لا تكذبوا عليَّ، فإنه من كذب عليَّ فلْيَلِجِ النار” (البخاري).

– “إن من أعظم الفِرى أن يدعي الرجل إلى غير أبيه، أو يُريَ عينه ما لم ترَ، أو يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل” (البخاري).

فبسبب هذه الأحاديث الصريحة والواضحة، تورع كثير من الصحابة عن التحديث بكل ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم الزبير بن العوام حيث سأله ابنه عبد الله رضي الله عنهما: إني لا أَسْمَعُك تحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحَدِّث فلانٌ وفلان؟ فقال: أَمَا أنِّي لم أفارقْه، ولكنْ سمعته يقول: مَنْ كَذَب عليَّ، فليتبوَّأ مقعده من النار.

ولهذا قال عبد الله الشنقيطي: “ولا يقول مسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم بلا رواية، لخوف الكذب”، أي دون ضبط سند الحديث بدقة.

كما قال القاضي عياض: “إذا كان الكذبُ ممنوعاً في الشرع جملةً فهو على النبي عليه السلام أشد، لأن حقَّه أعظم، وحق الشريعة آكد، وإباحة الكذب عليه ذريعة إلى إبطال شرعه، وتحريف دينه”.

ويكفي أن نشير بالمناسبة إلى أن حديث: “من كذب علي متعمدا ..” رواه ثمانية وسبعون صحابيا، وقيل أكثر.

فهل يستغرب بعد هذا أن يتم وضع ضوابط صارمة لتحديد مراتب الحديث، لقطع الطريق على الكذابين والوضاعين الذين يساهمون عن قصد -أو غير قصد- في تحريف الدين وتخريبه من الداخل؟

إن المحدثين خدموا الدين عندما قسموا الحديث إلى أنواع لكل منها تعريفه الدقيق. فهناك: الحديث المتواتر، وخبر الآحاد، والصحيح والحسن والضعيف والموضوع والمرفوع والموقوف والمقطوع والمشهور والعزيز والغريب والمتصل والمسلسل والمنقطع والمرسل والمعضل والمضطرب والمنكر أو الشاذ، والمدلَّس… إلخ..

وهناك تفصيلات كثيرة وتدقيقات لا يتسع المقام لبسطها، لكن الاطلاع عليها متيسر ومبسط في الكتب الخاصة بعلوم الحديث.

غير أن ما يهمنا هنا هو الحديث الموضوع تحديدا، لأن هناك من يظن أنه إذا كان المتن جميلا أو جيدا أو فيه حكمة، فإنه لا مشكل في نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا مكمن الخطر، خاصة بالنسبة لحسن النية الذي قد لا يدرك حجم الوعيد النبوي الوارد في حق الوضاعين.

والحديث الموضوع عموما هو الحديث المختلق والمكذوب والمفترى على النبي عليه السلام، فلا يجوز الأخذ به، أو نقله، أو تصديقه، أو العمل به. بل قرر العلماء أنه “لا تجوز روايته إلا مع بيان وضعه والتحذير من العمل به ..”.

وهو ما نظمه الحافظ العراقي:

شر الحديث الخبر الموضوع

الكذب المختلق المصنوع

وكيف كان لم يجيزوا ذكره

لعالم ما لم يبين أمره

كما قال النووي في شرح حديث “من كذب علي..” : “يَحْرُم رِوَايَة الْحَدِيث الْمَوْضُوع عَلَى مَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مَوْضُوعًا أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَضْعُهُ؛ فَمَنْ رَوَى حَدِيثًا عَلِمَ أَوْ ظَنَّ وَضْعَهُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ حَالَ رِوَايَتِهِ وَضْعَهُ، فَهُوَ دَاخِل فِي هَذَا الْوَعِيد، مُنْدَرِج فِي جُمْلَة الْكَاذِبِينَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ أَيْضًا الْحَدِيث السَّابِق: “مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ”..”.

خلاصة الكلام هنا أن رواية الأحاديث الموضوعة دون بيان حالها، أو الدعوةَ للعمل بها، تندرج ضمن الكذب المتعمد على النبي صلى الله عليه وسلم.

ولابد من الإشارة إلى أن كثيرا من الأحاديث الموضوعة يتم تداولها حاليا على نطاق واسع، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، بل يتم الترحيب بها، مع أنها افتراء على صاحب الشريعة عليه السلام.

وأكرر، لا يكفي كون الكلام جميلا لنسبته للنبي صلى الله عليه وسلم، بل لابد من التحري والتدقيق، خاصة وقد توفرت اليوم العديد من الموسوعات الإلكترونية الخاصة بالسنة النبوية، حيث يكفي إدخال حديث أو جزء منه في محركات البحث للحصول على تخريج الحديث ومرتبته ومواضعه في دواوين السنة.

كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن ورود حديث ما في كتاب ما، غير الصحيحين والموطأ، وبقية الكتب الستة أو حتى التسعة، لا يعني بالضرورة أنه صحيح أو حسن أو حتى ضعيف، ولو تعلق الأمر بكتب في التفسير أو الفقه أو غيرهما من العلوم الشرعية، لأن وزن الأحاديث هي مهمة علماء الحديث، ولهذا كثيرا ما عمدوا إلى تخريج الأحاديث الواردة في كتب الفروع الأخرى قياما بوظيفتهم.

وعلى سبيل المثال، يمكن الاطلاع على تخريج أحاديث كتاب الغزالي “إحياء علوم الدين”، الذي تظافرت جهود ثلاثة من كبار علماء الحديث لتحرير الكوارث التي تضمنها، وقد قال عنه الطرطوشي: “شحن (أي الغزالي) كتابه بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم كتابا على بسيط الأرض في مبلغ علمي أكثر كذبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه”.

والطرطوشي مالكي وليس “داعشيا”، وقد انتصر لحرق هذا الكتاب لأنه إن “ترك انتشر بين ظهور الخلق، ومن لا معرفة له بسمومه القاتلة، وخيف عليهم أن يعتقدوا صحة ما سطر فيه من ضلال..”..

واختيار “الإحياء” فيه إشارة يلتقطها أصحاب الإشارة..

ختاما، وبتركيز شديد، كل من نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم حديثا موضوعا، أيا كان مضمونه، فهو: “أحد الكاذبين”.

ألا هل بلغت؟

آخر اﻷخبار
1 comments
  1. موضوع حي معيشي و العجيب ان كثيرا ممن يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعُمُون حبَّه وهم كَذَبَةٌ أفَّاكون غشَّاشون يكذبون على رسول صلى الله عليه وسلم ولا يتحقَّقون فيما يقولون أو ينسبون إليه، فالحذرَ و الحيطة فيما يُكتب ويُقال ويُنشر؛ فقد قال ربنا تبارك وتعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M