هل فرض خلفاء بني أمية سبَّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وآل البيت على منابر الدولة الأموية؟
هوية بريس – د. علي محمد الصلابي
كلما حدث حادث أو شاع في وسائل التواصل الاجتماعي موضوع ونقاش حول مسألة فقهية أو قضية تاريخية أو شخصية لها وزنها، تختلف الآراء، حيث يبدأ الاختلاف في استحضار تلك القصص نظراً لتعدد مصادر التاريخ الإسلامي التي كثر كُتابها، وتشعبت غاياتهم وأهواؤهم وأفكارهم وانتماءاتهم. حيث ساد التعميم والرؤية النمطية، وهو ما تناوله المعاصرون للحدث أو الحاليين، ولعل آخرها الحديث عن شتم آل البيت وعلي بن أبي طالب (رضي الله عنهم) من قبل الخلفاء الأمويين حتى عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، والذي أبطل ذلك الأمر.
وبحكم تخصصي في مادة التاريخ الإسلامي وعدة مصادر حول الموضوع، فقد قضيت فيه عقوداً من البحث والاطلاع على الروايات الضعيفة المتعلقة بتاريخ صدر الإسلام، فقد رأيت ضرورة التوضيح والشرح حول تلك المرحلة التأسيسية من تاريخ المسلمين.
لقد توارد في كتب التاريخ أن الخلفاء والولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز كانوا يشتمون عليّاً وآل البيت، وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصحُّ، قال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحيى، قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه، فلما ولي هو ـ عمر بن عبد العزيز ـ أمسك عن ذلك، فقال كثير عزة الخزاعي:
ولِّـــيتَ فلـم تشـــتمْ عليّاً ولم تُخِــفْ بريّاً ولــم تَتْبَـــع مقــالةَ مُجْــرِمِ
تكــلَّمْتَ بالحـــقِّ المبيـــنِ وإنَّـــما تبينُ آيـــات الهُـــدَى بالتَّكَـــلُّمِ
فصـــدَّقتَ معــروفَ الذي قلتَ بالــذي فعلتَ فأضحى راضياً كــلُّ مُسْلِمِ
فهذا الأثر واهٍ، فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف، وشيخه لوط بن يحيى واهٍ بمرة، قال عنه يحيى بن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال الدار قطني: أخباري ضعيف، ووصفه في الميزان: أخباري تالف لا يوثق به، وعامة روايته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل.
وقد اتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل، حتى صارت عند المتأخرين من المُسلَّمات التي لا مجال لمناقشتها، ولم يثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري، واليعقوبي، وأبي الفرج الأصفهاني، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء؛ من احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار، فحكاية لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث، ولا طبيعة المتخاصمين، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك أبداً، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيئوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي، وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من كتَّاب الشيعة، وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة، ولا يوجد فيها رواية صحيحة صريحة، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين، ومعاوية رضي الله عنه بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين، وكان محمود السيرة في الأمة، أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير.
وقد ثبت هذا في حق معاوية ـ رضي الله عنه ـ كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر وهو من هو في الفضل، ومن علم سيرة معاوية رضي الله عنه في الملك، وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية؛ ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية رضي الله عنه في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال، وقد فصّلنا في صفة الحلم في شخصية معاوية فيما مضى.
وأما ما استدل به الشيعة على تلك الفرية من صحيح مسلم؛ فليس ما يدل على زعمهم، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهنّ أحب إليّ من حمر النعم.
قال النووي: قول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب. كأنه يقول: هل امتنعت تورعاً أو خوفاً، أو غير ذلك، فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب، فأنت مصيب محسن، ولعل سعد رضي الله عنه وقد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم، وعجز عن الإنكار؛ أن ينكر عليهم، فسأله هذا السؤال: قالوا: ويحتمل تأويلاً اخر أن معناه: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ.
وقال أبو العباس القرطبي صاحب المفهم معلقاً على وصف ضرار الصُّدائي لعلي رضي الله عنه وثنائه عليه بحضور معاوية، وبكاء معاوية من ذلك وتصديقه لضرار، فيما قال: وهذا الحديث يدل على معرفة معاوية بفضل علي رضي الله عنه ومنزلته، وعظيم حقه ومكانته، وعند ذلك يبعد عن معاوية أن يصرح بلعنه وسبّه، لما كان معاوية موصوفاً به من العقل والدين، والحلم وكرم الأخلاق، وما يروى عنه من ذلك فأكثره كذب لا يصح، وأصح ما فيه قوله لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب أبا تراب؟ وهذا ليس بالتصريح بالسب، وإنما هو سؤال عن سبب امتناعه ليستخرج من عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك معاوية، سكن وأذعن، وعرف الحق لمستحقه.
قال الدكتور الرحيلي في كتابه الصحب والآل: والذي يظهر لي في هذا والله أعلم: أن معاوية إنما قال ذلك على سبيل المداعبة لسعد، وأراد من ذلك استظهار بعض فضائل علي رضي الله عنه؛ فإن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً فطناً ذكياً، يحب مطارحة الرجال واستخراج ما عندهم، فأراد أن يعرف ما عند سعد في علي ـ رضي الله عنه ـ فألقى سؤاله بهذا الأسلوب المثير. وهذا مثل قوله رضي الله عنه لابن عباس: أنت على ملة علي؟ فقال له ابن عباس: ولا على ملة عثمان، أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فظاهر أن قول معاوية هنا لابن عباس جاء على سبيل المداعبة، فكذلك قوله لسعد هو من هذا الباب، وأما ما ادّعى الشيعة من أمر السب فحاشا معاوية رضي الله عنه أن يصدر منه مثل ذلك، والمانع من هذا عدة أمور:
1 ـ أن معاوية رضي الله عنه ما كان يسب علياً رضي الله عنه كما تقدم حتى يأمر غيره بسبه، بل كان معظماً له، معترفاً له بالفضل والسبق إلى الإسلام، كما دلت على ذلك أقواله الثابتة عنه، فقد قال ابن كثير: وقد ورد من غير وجه: أن أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على معاوية فقالوا له: هل تنازع علياً أم أنت مثله؟ فقال: والله إني لأعلم أنه خير مني وأفضل، وأحق بالأمر مني، وعن جرير بن عبد الحميد عن المغيرة قال: لما جاء خبر قتل علي إلى معاوية جعل يبكي، فقالت له امرأته: أتبكيه وقد قاتلته؟ فقال: «ويحك إنك لا تدرين ما فقد الناس من الفضل والفقه والعلم»، فهل يسوغ في عقل ودين أن يسب معاوية علياً، بل ويحمل الناس على سبه وهو يعتقد فيه هذا؟!
2 ـ أنه لا يعرف بنقل صحيح عن معاوية رضي الله عنه تعرض لعلي رضي الله عنه بسب أو شتم أثناء حربه له في حياته، فهل من المعقول أن يسبه بعد انتهاء حربه معه ووفاته، فهذا من أبعد ما يكون عند أهل العقول، وأبعد منه أن يحمل الناس على سبه وشتمه.
3 ـ أن معاوية رضي الله عنه كان رجلاً ذكياً مشهوراً بالعقل والدهاء، فلو أراد حمل الناس على سب علي ـ حاشاه ذلك ـ أفكان يطلب ذلك من مثل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وهو من هو في الشجاعة والفضل والورع، مع عدم دخوله في الفتنة أصلاً، فهذا لا يفعله أقل الناس عقلاً وتدبيراً، فكيف بمعاوية؟!
4 ـ أن معاوية رضي الله عنه انفرد بالخلافة بعد تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما له، واجتمعت عليه الكلمة ودانت له الأمصار بالملك، فأي نفع له في سب علي؟ بل الحكمة وحسن السياسة تقتضي عدم ذلك، لما فيه من تهدئة النفوس، وتسكين الأمور، ومثل هذا لا يخفى على معاوية.
5 ـ أنه كان بين معاوية رضي الله عنه بعد استقلاله بالخلافة وأبناء علي من الألفة والتقارب، ما هو مشهور في كتب السير والتاريخ، ومن ذلك أن الحسن والحسين وفدا على معاوية فأجازهما بمئتي ألف. وقال لهما: ما أجاز بهما أحد قبلي، فقال له الحسين رضي الله عنه: ولم تعطِ أحداً أفضل منا. ودخل مرة الحسن على معاوية فقال له: مرحباً وأهلاً بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر له بثلاثمئة ألف. وهذا مما يقطع الكذب مما يدَّعى في حق معاوية من حمله الناس على سب علي، إذ كيف يحصل هذا مع ما بينه وبين أولاده من هذه الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم؟!
بهذا يظهر الحق في هذه المسألة، وتتجلى الحقيقة، كما أن المجتمع في عمومه مقيد بأحكام الشرع، حريصاً على تنفيذها، ولذلك كانوا أبعد الناس عن الطعن واللعن والقول الفاحش والبذيء، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات من المشركين؛ فكيف بمن يسب أولياء الله المصلحين، فعن عائشة رضي الله عنها ـ مرفوعاً: «لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا».
والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
1. علي محمد الصلابي، الدولة الأموية، دار ابن كثير، بيروت، ج1/ 256.
2. سير أعلام النبلاء، (5/147).
3. الميزان، (3/419).
4. محمد رضا، الحسن والحسين، ص 18.
5. الرحيلي، الانتصار للصحب والآل، ص 367.
6. خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي بن أبي طالب، ص 353.
7. مسلم، فضائل الصحابة، (4/1871).
8. شرح صحيح مسلم (15/175).
9. المفهم، للقرطبي، (6/278).
10. شرح أصول اعتقاد اللالكائي (1/94).
11. البداية والنهاية (8/133 -140).
12. صحيح ابن حبان، رقم (47)؛ صححه الألباني في الصحيحة، رقم (320).