يسألونك عن الصيانة بالعالم الثالث

19 فبراير 2024 18:09

هوية بريس – محمد كرم

قادني ذات يوم طارئ صحي بسيط ظاهريا إلى عيادة طبية لا تعمل بنظام المواعيد بل تكتفي القائمات على شؤونها بتوزيع أرقام تسلسلية على المرضى.

كان حظي من الأرقام تعيسا بنفس درجة تعاسة أحوال الطقس في ذلك الصباح الشتوي. و أثناء الانتظار الطويل اضطرتني إكراهات بيولوجية في وقت من الأوقات إلى زيارة المرحاض. و منذ الوهلة الأولى لاحظت أن طراد الماء كان معطلا حتى قبل أن أختبره. لحسن الحظ، كانت دورة المياه مجهزة أيضا بصنبور عاد و دلو بلاستيكي صغير أنقذا الموقف. انتهت الاستشارة و تبعها تعريج على صيدلية الحي. و بعد حوالي شهر من ذلك كان علي أن أراجع العيادة من جديد لمعرفة مدى استجابة جسدي للأدوية الموصوفة. و مرة أخرى، أبى رقم دوري إلا أن يعاكس رغبتي في قضاء مأربي بأسرع وقت ممكن.

ومرة أخرى أيضا، قادتني رجلاي تلقائيا إلى حيث طراد الماء و الصنبور و الدلو. كان الأول ما يزال على حاله، في حين تم تزويد الثاني بحزام مطاطي عشوائي (من إهداء “سيكليس” الحي في الغالب !) و ذلك لمنع تسرب المياه منه. أما الثالث فكان من الطبيعي أن يغيب عن المشهد العام هذه المرة بسبب انتفاء الغاية من وجوده !!! و طبعا ما كان لهذه الحالة الشاذة أن تحجز لنفسها مكانا بذاكرتي لو تفضل الطبيب المعني بتخصيص نصف قيمة كشف طبي واحد ـ و ربما أقل من ذلك ـ لوضع حد لهذه المهزلة.

و في مستهل خريف هذه السنة قدمت إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية رويورتاجا حول أزمة الماء الشروب المستفحلة بجزيرة غوادلوب التي على الرغم من تبعيتها لحكام باريس و قراراتهم إلا أنها تتقاسم مع دول العالم الثالث مجموعة من السمات. و هكذا، فقد ألقى معدو التحقيق الصحفي الضوء على واحد من أهم عوامل الأزمة و يتعلق الأمر بالتسربات الناتجة عن اهتراء قنوات الجر و الأنابيب و التي تتسبب في ضياع ما يناهز 45 بالمائة من المياه. و قد مكنت هذه المادة الإعلامية المتفرج من إدراك حجم الإهمال و حجم تبعاته في زمن التغيرات المناخية و بجزيرة يبدو أن القائمين على شبكة توزيع الماء بها لا يتوفرون لا على ثقافة الوقاية و لا على  ثقافة الصيانة.

و قبل سنوات عديدة حكى لي أحد معارفي عن زيارة قصيرة قام بها رفقة وفد رسمي لأحد القصور الملكية يالشرق الأوسط. و بقدر ما انبهر صاحبنا برونق و فخامة الجناح الذي جرى به الاستقبال بقدر ما اندهش من منظر مقبس كهربائي منفصل عن جداره و لم تكن إعادته إلى مكانه تتطلب أكثر من حركة بسيطة من “بطل” لا يخشى الصعقات الكهربائية أو من محترف لن يزيد حجم أتعابه عن ما يعادل ربع قيمة برميل واحد من النفط.

هذا إذن هو العالم الثالث حيث معضلة الصيانة مازالت قائمة و بحدة لا لشيء إلا لغياب ثقافتها. و الناس بهذا العالم لم يدركوا بعد بأن حس الصيانة ليس كنظم الشعر أو كتابة القصص و الروايات و صناعة النكات و غيرها من الأصناف الإبداعية التي تتطلب وجود موهبة دفينة تولد مع الإنسان في الغالب بل هو مثل الأناقة، أي أنه قابل للاكتساب متى توفرت الرغبة و التربية الملائمة و القدوة الحسنة. و الأغرب ما في الأمر أنه حتى في ظل وجود الإمكانيات المادية الكفيلة بتقويم ما يجب تقويمه يبقى الإهمال سيد الموقف الشيء الذي قد يهدد جديا حتى وجود المنشآت و المشاريع المنجزة و يحط من قيمتها و قد يعطل أيضا مصالح الأفراد و المؤسسات ناهيك عن تشويه المنظر العام كما يحدث مثلا عند التخلف عن تجديد طلاء واجهة بناية أو عند تعويض مربع زجاجي مكسور بآخر من الخشب أو البلاستيك أو الكرتون.

وهذه الإشكالية لا تحتاج إلى مجهر إلكتروني لملاحظة تمظهراتها، إذ جولة و لو قصيرة بالقاهرة أو باماكو أو هافانا أو الدار البيضاء من شأنها أن تعطينا صورة واضحة عن حجم أشغال الصيانة التي مازالت تنتظر الإنجاز بهذه الحواضر و غيرها بالقطاعين العام و الخاص على حد سواء.

فكم من حديقة تحولت من مساحة خضراء إلى مساحة جرداء، و كم من شارع يتوفر على ما يحتاجه من الأعمدة المخصصة للإنارة لكنه يفتقر إلى نور معظم مصابيحها، و كم من بالوعة اختفى غطاؤها فظلت فاتحة فمها على أمل ابتلاع الأطفال المتهورين أو الساهين من البالغين، و كم من حافلة مخصصة للنقل العمومي لم يعد يربطها بالحياة غير نبض المحرك، و كم من بناية اجتمعت فيها كل شروط البؤس فيخالها المرء مهجورة و هي مازالت تؤدي وظيفتها، و كم من إشارة ضوئية تعطلت لأيام فلم يعد يعرف مستعملو الطريق ما إذا كان عليهم التوقف أو مواصلة المسير،  و كم من ملعب تحول إلى مرعى، و كم من جهاز خارج الخدمة  و كم من آلة معطلة بشكل دائم أو شبه دائم، و كم من طريق أصبح مصدر رزق للميكانيكيين بفعل تناسل حفره، و كم من معلمة تاريخية لم تمتد إليها يد إعادة التأهيل فأصبحت في خبر كان، و كم من شجرة ظلت دون تشذيب حتى جرد الرصيف من وظيفته الأساسية، و كم من دراجة و  كم من آلة فلاحية  و كم من عربة مجرورة بدون أضواء أو بأضواء معطلة و رغم ذلك تراها تسلك الطرق الوطنية و الجهوية تحت جنح الظلام دون أن يكون لسائقيها أدنى وعي بخطورة استعمالها، و كم من … و كم من …  و أن تتعطل الأشياء من وقت لآخر بطريقة أو بأخرى فهذا أمر عاد ، لكن أن تظل معطلة هنا يكمن الفرق بين دول العالم الأول المتقدم و دول العالم الثالث المتخلف، و هذا علما بأن ثمة إصلاحات لن تقتطع من ميزانية البلدية أو المقاولة أو العائلة ما يعرضها للإفلاس و لا تتطلب سوى العزم و سرعة التدخل و نجاعته.

و في الغالب ـ عندما تكون الإصلاحات و الترميمات المطلوبة من اختصاص البلدية ـ  لا يتردد التقنيون المعنيون في تبرير تقاعسهم بتخلف المواطنين عن التبليغ بالاختلالات المرصودة  (الأمر الذي يسائل نجاعة التواصل بين الساكنة و ممثليهم بالبلدية) أو  بمحدودية الموارد المادية أو البشرية أو بالوتيرة غير الطبيعية لتجدد الأعطاب مع اتهامهم لشريحة معينة من المواطنين بالميل إلى التخريب لتبقى مسؤولية الوضع الحالي مشتركة بين الجميع إلى أن يبزغ فجر جديد بعقلية جديدة لا تؤمن فقط بضرورة البناء بل و تؤمن أيضا بضرورة الحفاظ على ما تم بناؤه.

و من يرغب في ملامسة مشكل الصيانة ببلدنا بشكل خاص و عن قرب ما عليه سوى التطوع لتدبير شؤون مكتب اتحاد الملاك بعمارته أو مركبه السكني و سيرى العجب العجاب. فجميع السكان واعون بأن للصيانة ثمنا و بأن مساهماتهم المالية هي السبيل الوحيد لتحقيقها. رغم ذلك، هناك للأسف الشديد من يستكثر على “السانديك” 50 درهما في الشهر بشتى الأعذار أو حتى بالاختفاء الدائم ما يجعل من عملية تحصيل المبالغ المستحقة في أحيان كثيرة قطعة من جهنم و مصدرا للإحراج و سببا في توتر الأجواء و تسمم العلاقات، بل إن أصداء هذا الصنف من النزاعات تصل أحيانا إلى ردهات المحاكم لا لشيء إلا لوجود ملاك يعدون أنفسهم غير معنيين بأجور حراس الأمن الخاص و لا تهمهم النظافة و لا يكترثون لإنارة السلالم و الممرات و لا يولون أي اهتمام للترميمات التي تفرض نفسها بين الفينة و الأخرى بفعل تقادم البناية و يعتبرون العناية بالحديقة من الكماليات و يعتبرون المصعد زائدا عن الحاجة و خاصة عندما تتواجد شققهم بالطابق السفلي أو بالطابق الأول.

و في نهاية التحليل لا يسعني إلا أن أردد ملاحظة فاه بها باحث من إحدى دول الشمال إذ قال : العالم الثالث يبدأ حيث تنتهي الصيانة.

إضافات لها علاقة بما سبق:   

في أمريكا الشمالية هناك أعوان بلديون مجهزون بأدوات للقياس و تتمثل مهمتهم في تحرير مخالفات في حق كل من أهمل العناية بعشب بيته الخارجي المحاذي للرصيف، إذ على علو هذا العشب ألا يفوق حدا معينا !!!

و في جمهورية كوسوفو الفتية ـ و هذه حالة تستحق التأمل ـ قامت الدولة مباشرة بعد الإعلان عن الاستقلال بهدم سور يعود بناؤه إلى الحقبة العثمانية ليس بهدف طمس جزء من تاريخ هذا البلد بل فقط لكون مقدراتها المالية لا تسمح بمواجهة تكاليف ترميمه و صيانته على الدوام !!!

و يحكى أن باحثا ألمانيا قضى فترة لا يستهان بها من حياته بمجموعة من بلدان الشرق الأوسط. و خلال مقامه هناك لاحظ كيف أن بيوت الناس تسر العين ونظيفة و مرتبة بشكل أنيق و تخضع للترميمات و الأشغال التزيينية من وقت لآخر و كيف أن الأزقة و الشوارع و الساحات و المرافق العامة متسخة و مهملة في الغالب، فجاء استنتاجه على النحو التالي : إن للعرب بيوتا لكن ليس لهم وطن !!!!!!!

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M