آسفي حاضرة البحر المُحيط.. عِشْق أبَدي
هوية بريس – عبد الله النملي
الحب ليس محصورا دائما بين كائنين بيولوجيين، بل هناك أيضا حب للأمكنة والمدائن. فكل من يزور مدينة آسفي المغربية، يَعز عليه فراقها، وكثير ممن عرفها تعلّق بها. إنها المدينة الباذخة في الفرح والقَرح، تُعطي وتجزل في العطاء، ولا تنتظر مقابلا لذلك. هي المدينة الضاربة في القدم، أنشِئَت بربوة عالية على وادي الشعبة، منبع الطين والخزف الذي اشتهرت به. كان الراحل الملك الحسن الثاني حريصا على الأكل من أطباقه، ومتاحف العالم وتجار التحف يتسابقون عليه. دخل المتاحف وصالات العرض في كبريات عواصم العالم، و زينت به قصور ملوك وأمراء العرب. وحتى الأمس القريب، كانت آسفي عاصمة العالم في صيد السردين، وصاحبة أقدم ميناء افريقي على الساحل الأطلنتيكي، وأهم الموانئ المغربية. أفلحت في تحدي أمواج البحار، واشتهرت بالعيطة ومعامل التصبير والربابنة والرياس الكبار، فأغرت بلذائذ أسماكها الجيران فجاؤوها محتلين. كما شهدت رحلات علمية شهيرة مثل رحلة راع 69- 70 و رحلة الطوف 1974 . والمدينة الوحيدة بالمغرب التي تعايش فيها اليهود والمسلمين، ولم يكن لهم ملاح خاص بهم يحط من شأنهم، كما هو الحال بمدن أخرى.
لا يُعرف بالضبط العصر الذي تأسست فيه آسفي، فهي قديمة قدم التاريخ نفسه. وحيكت حول تأسيسها واشتقاق اسمها روايات متضاربة. مدينة عشقناها، أحببنا فيها تفاصيلها، دخلت في دمنا وأضافت إليه رمزا جديدا لدورتنا الدموية وحرفا جديدا للأبجدية، وعند فحص فصيلة دمنا، تخرج النتيجة ” عشق إلى الأبد “، وعند تهجي حروف اسمها ” يعيش فينا النشيد إلى الأبد “. هناك على مرمى حجر من السحر وقبالة الأفق المعلق بأسوار الأمنيات، تلوح المدينة للبحر باعتداد في عناق حميمي، حيث يحلق النور مزهوا بأهازيج الصباح أو ينسحب مثقلا مع هتافات المساء، هناك حيث ولدت جدلية البحر والطين والسمك وانبثقت كل شذرات الوجد مشتتة بين خضرة و زرقة، هناك تتربع آسفي الجوهرة الراقدة على عرش الساحل الأطلنتي تحيطها هالة النوارس وشاطئ البحر وعين لالة ميرة ورأس الأفعى الشهير ومنتزه سيدي بوزيد ومعلمة قصر البحر البرتغالي ودار السلطان والكتدرائية وأسوار المدينة العتيقة وتل الفخارين.. مدينة واسعة القلب والتضاريس، كثيرة التفاصيل والأحداث، قديمة الحضور، وللعابرين، الفاتحين، وللطامعين كانت، ودائما تكون المقصودة و الهدف. سقط على أسوارها دعاة الحروب، سماسرة تقسيم المدن، وانهزم على أبوابها هواة حرق المدن، سقطوا جميعا بين لعنة مدينة رفضت الموت السهل، وبين أرواح من دافع عن آخر حجر في أسوارها العنيدة.
آسفي لا تذكر الكثير من ماضيها البعيد، فعلى الرغم من عراقتها لم تَحظ بما تستحق من فُرص الذكر في كتب التاريخ، حتى استغرب لذلك العديد ممن أرخوا للمدينة واشتكوا من شح مادتها في كتب البلدان. ولا غرابة في ذلك، فالمدينة توالت عليها مجموعة من النكبات التي طمست الكثير من العناصر التي يمكن الاعتماد عليها في التأريخ، فكل من يستقر بها يتلف جزءا غير يسير من معالم ماضيها. ومع كل ذلك، فآسفي لا تزال تُخبئ في جعبتها أنساما فينيقية وبصمات رومانية، وهوية أمازيغية وعربية إسلامية، وحضورا يهوديا وهمسات أوربية. ورد اسمها ضمن أمهات المعاجم، وذكرها ابن بطوطة في مذكراته الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة. وزارها وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب، وأعجب بها “الدون إمانويل” ملك البرتغال، فشيّد بها كاتدرائية بهندسة فريدة. تقف أسوارها شاهدة على ماض مجيد، يختزل ذاكرة من أسسها وسكن ربوعها و وطأ أرضها. ولا غرو في ذلك، فالمدينة تضم مجموعة من المآثر التاريخية والقلاع والأسوار التي تشهد على تاريخها العريق. ونظرا لأهمية آسفي، شكلت وجهة مفضلة للعديد من الأسر الأندلسية والعربية حتى وصفت بأنها مدينة دبلوماسية يقطنها السفراء والقناصل، ويَفِد عليها المبعوثون البريطانيون قبل التوجه إلى مراكش، وترسو بها السفن الأوربية التي ترغب في إبرام الاتفاقيات الدولية بالعاصمة مراكش. وازداد اهتمام السلاطين بآسفي فأقاموا بها دارا لضرب السكة. و قديما جعلها المرابطون مرسى الإمبراطورية المرابطية، و مركزا لتجميع قوافل الذهب الإفريقي، و البرتغاليون اتّخذوها ميناء رئيسيا لتصدير الحبوب والسكر والصوف.
لكن المدينة لن تنس أبدا أهم حَدث عرفته و هو دخول الإسلام لآسفي على يد الصحابي القائد عقبة بن نافع الفهري عام 62 هجرية / 681 ميلادية، حيث وقف على شاطئ بحرها المحيط ودعا بدعائه الشهير. و ترك صاحبه شاكر لينشر الإسلام بالمنطقة، وقد حُوِّل مقامه إلى رباط يعمره الصالحون، حتى قيل أنه أول وأقدم مسجد بالمغرب، ينعقد فيه حاليا مُلتقى سنوي عالمي للمنتسبين إلى التصوف، تنظمه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على مدى ثلاثة أيام، و يحضره نحو ألف من المتصوفة يمثلون بلدانا مختلفة، حيث نظم اللقاء الأول في فاتح شتنبر 2004 . وقد ترك لنا المؤرخ أحمد بن الخطيب القسنطيني (بن قنفذ) وصفا لهذا الرباط الذي يعقد فيه الزهاد والعباد من مختلف نواحي المغرب مؤتمرهم السنوي. ومنذ أقدم العصور، وقبل دخول الإسلام، اعتبرت المدينة ضمن المدن المُقدسة المعروفة في العالم القديم، حيث تعد آسفي وباديتها، من أقدس مناطق المغرب، وأكثرها ازدحاما بالصلحاء والأولياء. فهذا المؤرخ الإغريقي سيلاكس، الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، يشدد بعد زيارته لمنطقة عبدة على وجود حياة دينية مكثفة بها، وعلى أنها أقدس مكان بمجموع إفريقيا، وذكر أنه وجد بها معبدا عظيما، مخصصا لبوصيدون إله البحر عند اليونان القدماء. وقد تحقق لأرمان أنطونة إحصاء صلحاء عبدة، فوصفها ببلد الألف سيد، حيث يستقر أكثر صلحاء عبدة على ساحل المحيط، وقد تنبه لذلك عامة الناس بآسفي، فأشاعوا أن “كل حجرة بالساحل هي لولي”، حتى قيل أن ” أرض آسفي تنبت الصلحاء كما تنبت العشب “.
اعتبرت آسفي، عبر تاريخها القديم عاصمة للتصوف المغربي، إذ خرج منها مجموعة من الطرق الصوفية الكبرى. وإذا كان بعض النواحي والمدن مشهورة بما يوجد فيها من كبار الصلحاء، فلا تُذكر إلا مقرونة بذكرهم، فكذلك الشأن بآسفي التي صارت مقرونة بذكر الولي الصالح أبي محمد صالح، الشخصية الصوفية العظيمة، ومؤسس ركب الحاج المغربي لأول مرة بالمغرب، حيث أنشأ رباطه الشهير بآسفي، وأسس 46 رباطا تربط المغرب بالمشرق عن طريق الحج، لأن الحاجة كانت ماسة لإنعاش الجانب الروحي، خاصة أن آسفي عرفت النحلة البرغواطية، وتزامنت الدعوة للحج مع الموقف الذي تبناه فقهاء المغرب والأندلس في إسقاط شعيرة الحج، حماية للمسلمين من مخاطر الطريق، حتى باتت المدينة مركز إشعاع علمي أطلق منها سيدي محمد بن سليمان الجزولي الإشعاع لطريقته الصوفية. وبالرجوع لتاريخ آسفي الحافل بالبطولات، تستوقفنا مقاومة ساكنة آسفي للغُزاة البرتغاليين، وهو ما يفسر وجود أضرحة كثيرة على طول ساحل المدينة، تضم رفات العديد من المجاهدين. وفي فترة الاستعمار الفرنسي، كانت آسفي سباقة إلى إطلاق شرارة المقاومة، حيث تشكلت بها العديد من منظمات الكفاح المسلح، حتى أن ثلاثة من أبنائها من بين الموقعين على وثيقة الاستقلال.
آسفي تعج بالأخطاء وسوء التدبير والتهميش المفروض عليها قسرا، لا يمكن لعشاقها أن يدعوا أنها مدينة مثالية، ربما كانت ذات يوم من أجمل المدن، وكانت مدن أخرى تغار من نظامها وجمال معمارها ونظافتها، أما اليوم فالأمر مختلف تماما والأسباب أكثر من أن تعد أو تحصى. ماذا قدمت يداها لتجني كل هذا القبح الذي يحيط بها، وأي قدر من التهميش ذاك الذي يُراد لها، تُنتج الثروة ولا تستفيد منها، وهي التي تزرع البسمة، وتنشر الضوء، وتصدر الحياة. لن نبحث عن مبررات تردي أوضاع المدينة لأنها معروفة، مع ذلك، فآسفي، ورغم كل شيء، تمتلك روحا ضاجة بالحياة والمحبة والترحاب، مدينة قادرة على النهوض من جديد واحتواء الجميع ومنح كل واحد ما يتمنى، مدينة مضيافة، تظهر لك كل عيوبها منذ اليوم الأول، وهي تعلم أنك ستجد لها كل الأعذار، وستدخل في شرايينها وتعيش فيها كما تريد دون أن يزعجك أحد.
آسفي حاضرة البحر المحيط، هي المدينة التي تأبى الأفول، ذاكرة واعية لا تزول، شجن فواح، وأريج يعطر مساءاتها أقاح. لها حضور في ساح القلب يتمدد، و وعد على العهد يتأكد، وتاريخ في ذاكرة العصر يتجسد. آسفي تستحم في بحر عفتها فتجلو ببراءتها دمامة ودمامل ما خلفه الساسة الفاشلون و الفاسدون، وتلفض عن كواهلها كل قباحات الصغار. آسفي محراب عشق وتقى، قلعة للحلم ومنارة للسلام. آسفي. المدينة الباسمة الحالمة، صانعة الحب وناشرة السلام. عبق الذاكرة، العاشقة و المعشوقة في آن واحد، ، تمنح المكان ألقا، وتمنح ساكنيها حضورا في تراتيل القلب و الوجدان.
آسفي، مدينتي حيث ولدت ونشأت وترعرعت، معك فقط ” تزداد دقات قلبي وتتبعثر كلماتي وأنسى حبر أوراقي.. لا أملك لك سوى قلبا متيميا بك، وإحساسا مجنونا بك، وحبا يفوق الوصف والخيال.. لا أملك سوى حروفا أسطرها لك، ومشاعر صدق أبوح بها لك.. لا أملك سوى نبضا ينبض بك، وأنفاسا أشم بها عطرك.. إن كان حبك داء فلا أريد له دواء.. وإن كان حبك مطرا فامطري أيتها السماء.. وإن كان حبك ليلا فاغربي يا شمس الضياء.. وإن كان حبك زرعا فأنا أرض وماء.. وإن كان حبك بردا فلتحيا كل أيام الشتاء.. وإن كان حبك دمعا فعيني لن تكف عن البكاء “.